الطوبولوجيا
Topology
اعترف العلماء بالطُّبولوجْيَا فرعاً مستقلاً من العلوم الرياضية في العقد الثاني من القرن العشرين، لكن نموها الواسع بدأ في العقد الرابع منه. وهي من أهم الفروع الرياضية الجديدة نسبياًَ، وقد أحدثت آثاراً بعيدة المدى في معظم هذه الموضوعات. ومع أن استحداثها كان استجابة لحاجات التحليل الرياضي، فلايمكن عدّها فرعاً منه. ويمكن القول إنها نوع من الهندسة، لكنها ليست نمطاً متقدماً منها مثل الهندسة الإسقاطية أو التفاضلية، بل إن ثمة ما يسوّغ وصفَ الطبولوجيا بأنها الهندسة الأساسية fundamental geometry.
وتوجد بداياتٌ للطبولوجيا في الستينيات من القرن التاسع عشر في ثنايا بحوث ڤيرشتراس Weierstrass، التي كان يحلل فيها مفهومَ نهايةِ دالةٍ.
وبعد تطوير كانتور Cantor الجريء لنظرية المجموعات (1874ـ1895)، وُجِدَ الأساسُ المكينُ الذي بنى عليه هاوسدورف (1900ـ1910) Hausdorff الطبولوجيا العامة. بعد ذلك، استُحدثت فروع جديدة للطبولوجيا، تأتي في مقدمتها الطبولوجيا الجبرية، والطبولوجيا التفاضلية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تطبيقات الطبولوجيا اقتحمت علوماً أخرى غير الرياضيات، لكن هذا الدخول يجري عبر الموضوعات الرياضية التي تستعملها تلك العلوم. وعلى سبيل المثال، فإن التغييرات، التي أحدثتها الطبولوجيا في الهندسة التفاضلية، أطلقت العنان للعاملين في نظرية النسبية ليُضْفُوا نكهة طبولوجية على تفكيرهم. ويمكن القول اليوم إن الطبولوجيا لم تصبح أحد الأركان الأساسية لعلم الرياضيات فحسب، بل غدت ضرورةً للكثير من العلوم الأخرى.
قد يصعب على الطبولوجِّي إعطاء تعريف مباشر وسهل ومحدد للطبولوجيا، ولعل ما يمكنه قوله هو أن الطبولوجيا فرع من علم الرياضيات يبحث في المسائل النوعية (الكيفية)qualitative للبنى الهندسية، وأن تطبيقاته تتعدى علم الهندسة إلى كثير من فروع الرياضيات المتقدمة وإلى بعض العلوم الأخرى. بيد أن مثل هذه الإجابة قد تبدو غامضة، وعندئذٍ يمكن للطبولوجيّ أن يُحضرَ ورقة ومقصاً ومادة لاصقة، ويشكلَ شريطاً يسمى شريط موبيوس Möbius band (سيذكر لاحقاً)، ويقصه على طول خطه المركزي ليصل إلى نتيجةٍ تدهش المتفرج بل يستطيع الطبولوجيّ نزع قميصه الداخلي دون أن يخلع معطفه. هاتان لعبتان معروفتان، لكن كلاًَّ منهما يستند إلى فكرةٍ رياضيةٍ بارعةٍ قد يتطلب شرحها عدة ساعات. بيد أن تقديم مثل هاتين اللعبتين لتعريف الطبولوجيا دون شرحٍ مناسبٍ ليس إلاّ تمثيلاً هزلياً لها.
مفهوم الطبولوجيا
الشكل (1) |
الشكل (2) |
تُعرّف الطبولوجيا أحياناً بأنها «هندسةٌ على سطوحٍ مطاطية». ومع أن هذا وصف ضبابي وغير مفهوم جيداً، فإنه مفيد لفهم كنه هذا الموضوع. فالطبولوجيا تبحث في خاصيات الأشكال الهندسية التي لا تـتغير عندما تطبّق عليها التحويلات (أي التوابع، أو الدوال) المستمرة. وتـتجلى السمة المميزة للتحويلات المستمرة في أن النقاط «القريبة إحداها من الأخرى»، continuous transformations (functions) قبل إخضاعها لهذه التحويلات، تظل كذلك بعد انتقالها إلى مواضعها الجديدة نتيجة تطبيق تلك التحويلات. في هذه التحويلات يُسمح بالمطّ والتقليص والثني، لكنْ دون قص الأجزاء المختلفة أو تمزيقها أولصقها معًا. وتسمى الخاصيات التي لاتـتغير بعد تطبيق التحويلات المستمرة عليها خاصياتٍ طبولوجيةً topological properties.، لكنْ أيُّ نوع من الخاصيات يمكن وصفها بأنها طبولوجية؟ من الواضح أنها ليست تلك التي تُدرس في الهندسة الإقليدية المألوفة. فالاستقامة، مثلاً، ليست خاصّة طبولوجية، لأن الخط المستقيم يمكن ثنيه ليصبح متعرجاً. وكون الشكل مثلثياً ليس خاصة طبولوجية أيضًا، لأنه يمكن إخضاع المثلث لمطٍّ وثنيٍ مستمرين ليتحول إلى دائرة (الشكل 1)، والكروية ليست خاصية طبولوجية، لأنه يمكن تحويل الكرة بعد إخضاعها للتحويلات السابقة إلى مكعب! وبهذا المعنى فإن أطوال القطع المستقيمة، ومقادير الزوايا والمساحات هي جميعًا مفاهيم يمكن تغييرها بالتحويلات المستمرة، ومن ثم فهي خاصيات غير طبولوجية.
وكمثال على الخاصية الطبولوجيه، وجود فتحة في طارة لاتكوّن جزءاً منها. فمهما كان نمط التحويلات المستمرة التي يخضع سطح الطارة لها، تظل الفتحة موجودة فيها. ومن هذه الخاصيات وجود حافة لسطح، فلايمكن لأي تحويل مستمر أن يغير وجود تلك الحافة.
وهكذا فإن تنوع الأشياء التي يدرسها الطبولوجيّ أقل من تنوع الأشياء التي تـتناولها الفروع الرياضية الأخرى، فلا فرق عنده بين الدائرة والمثلث، وبين الكرة ومتوازي المستطيلات، وبين القطعة المستقيمة وأي منحن ناتج منها بالمط والثني.
التكافؤ الطبولوجي
تسمى الأشياء الأساسية التي تدرسها الطبولوجيا فضاءاتٍ طبولوجيةً topological spaces، وهي أشياء رياضية يمكن تصورها حدسياً بأنها أشكال هندسية. هذه الفضاءات هي مجموعات (تكون أحياناً مجموعات جزئية من فضاء إقليدي) مزوّدة ببنية ـ تسمى طبولوجْيَا ـ تسمح بصوغ مفهوم الاستمرار. فسطح الكرة، أو الطارةِ torus، أو الطارةِ المضاعفه (ذات الفتحتين) تقدم أمثلة على فضاءات طبولوجية (الشكل 2).
الشكل (3) |
يقال عن فضائين طبولوجيين إنهما متكافئان طبولوجيًَّا إذا أمكن الانتقال من أحدهما إلى الآخر بطريقة مستمرة، ثم العودة إلى الوضع الأصلي بطريقة مستمرة أيضاً. وغالباً ما يقال إن الطبولوجيّ لايفرق بين الكعكة وفنجان القهوة، اللذين يقدمان مثالاً على شيئين متكافئين طبولوجيّاً (الشكل 3).
الشكل (4) |
الشكل (5) |
ثمة مفهوم للتكافؤ.في كل من الهندسات التقليدية، ففي الهندسة الإقليدية يكون شكلان متكافئين إذا كانا طبوقين congruent، أي إذا وجدت حركة صلبة تطبق أحدهما على الآخر. وفي الهندسة الإسقاطية، يتكافأ شكلان إذا وجد تحويل إسقاطيprojectivity ينقل أحدهما إلى الآخر. وتتضمن التحويلاتُ الإسقاطية تحويلاتِ الطبوقيةِ وتحويلات التشابه، وتحويلاتٍ إضافية أخرى تجعل أي مثلث يكافئ أي مثلث آخر، وتجعل أيَ دائرةٍ مكافئةً لأي قطع ناقص.
وبلغة نظرية المجموعات، يقال عن فضاءين طبولوجيين س، ع إنهما متكافئان طبولوجيًَّا إذا وجدت دالةfunction د: س¬ ع تحقق الشروط الآتية:
أ) د متباينة وغامرة
ب) د مستمرة
ت) د الدالة العكسية
د-1 : ع ¬ س مستمرة أيضًا.
لننظر في المثال التالي: لنأخذ قطعتي معجون ولندمجهما معاً. إن هذا التحويل من قطعتين إلى قطعة واحدة مستمر، لأن النقاط التي كانت قريبة بعضها من بعض في القطعتين، تبقى كذلك (الشكل 4) بعد الاندماج. لكنْ عند إجراء التحويل العكسي تنقسم القطعة إلى قسمين (الشكل 5)، ومن ثم تصبح النقاطُ، التي كانت قريبة بعضها من بعض على طرفي الخط الفاصل، بعيدةً بعضها عن بعض، وهذا يعني أن التحويل العكسي ليس مستمراً. لذا فإن الفضاء الطبولوجي س المكوّن من القطعتين المنفصلتين غير مكافئ طبولوجيّا للفضاء ع المكوّن من قطعة متصلة واحدة.
ويوضح الشكل (6) سبعة فضاءات طبولوجية يمكن تقسيمها إلى مجموعتين، كل منها مكوّن من فضاءات متكافئة طبولوجياً. تحوي الأولى الأشكال (ب، جـ، هـ) والثانية الأشكال (أ، د، ذ).
فضاء طبولوجي غير مالوف
ليست جميع الفضاءات الطبولوجية ببساطة الكرة أو الطارة، إذ إن ثمة فضاءات أكثر تعقيداً وإثارة، منها شريط موبيوس، الذي ورد ذكره آنفاً. والذي يمكن عمله من شريط ورقي طويل بأن تُلصق حافتاه بعد تدوير إحداها180 ْ (الشكل7).
الشكل (6) | الشكل (7) |
شريط موبيوس سطح وحيد الجانب one-sided، في حين أن الشريط الأسطواني ـ الذي ينجم من شريط ورقي بلصق حافتيه دون تدويرهما ـ ثنائي الجانب two-sided. الفرق بين هذين السطحين، هو أن حشرة ما موجودة على شريط موبيوس تستطيع بلوغ أي نقطة منه دون أن تتجاوز حدود الشريط، في حين أن حشرة موجودة على الشريط الأسطواني لايمكنها الانتقال من جانب إلى آخر منه دون تجاوز حدوده. ولما كان ثمة مبرهنة تبين أن عدد الجوانب خاصية طبولوجية، فإن شريط موبيوس والشريط الأسطواني ليسا متكافئين طبولوجياً.