أجاد أنور السادات مختلف الأدوار التي لعبها، حتى وإن بدت للبعض أدواراً متناقضة
وقبل اندلاع ثورة يوليو تموز عام 1952، أدى دور الخائن حيث انضم إلى الحرس الحديدي وهو التنظيم السري الذي شكله الملك فاروق لتصفية خصومه وحمايته الشخصية. ولعب السادات دوراً من أفلام الجاسوسية مع الراقصة حكمت فهمي ضد الإنجليز لمصلحة الألمان، إذ حوكم في أكتوبر تشرين أول عام 1942، بسبب علاقته بالجاسوسين الألمانيين إبلر وساندي، وطُرِدَ من الجيش وسجن، إلى أن تمكن من الهرب والاختفاء. وعمل أثناء فترة "الهروب الكبير" في مهنٍ مختلفة، منها حمَّال وسائق، وكان يتخذ لنفسه في كل بلدةٍ ينزلها صفة وشكلا مختلفًا، وربما ساعده على النجاح هوايته القديمة للتمثيل.
ظل اسم أنور السادات بعيداً عن الأضواء حتى عاد إلى الظهور مرة أخرى عام 1946 في دور مختلف، عندما اتهم في قضية اغتيال أمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد وأحد كبار المؤيدين لبريطانيا، فقفز اسمه إلى الصحف، وعلى إثرها قبض عليه ليقضي في سجن القلعة سنتين ونصف السنة، منها عام ونصف العام وحيداً في الزنزانة "54"، ثم حُكِمَ ببراءته عام 1948. وأثناء فترة حبسه هذه بدأ يمارس الكتابة الأدبية، خاصة الساخرة منها.
وقد عرف بخفة ظله وافتخر بها، وكثيراً ما كان يطلب منه أصدقاؤه أن يقلد لهم صوت قادة الجيش، ومشاهير الممثلين. وهو يذكر في كتابه "30 شهراً في السجن" أنه أصدر مع بعض رفاق السجن صحيفة "الهنكرة والمنكرة"، بل وقام مع بعض المساجين بعمل إذاعة داخل السجن، وقدم بنفسه فقرتين، وكان يكتب في لوحة إعلانات السجن برنامج اليوم، ومنه:
الساعة 6.00 حديث للأطفال للمربي الفاضل بابا أنور
الساعة 11.00 أغنية حديثة "للمجعراتي المتسول" أنور السادات
ومن أغانيه التي أوردها في كتابه (ص 57):
"أنا جيت لكم والله يا ولاد ... أنا أحبكم قوي قوي يا أولاد
أنا جيـت لكـم أنا جيت ... والاتهامـات آخـر لخابيط"
لم يجد السادات حرجاً أن يكتب هذا الكلام في مذكراته وكتبه، ومنها: "قصة الثورة كاملة"، و"صفحات مجهولة من الثورة"، و"يا ولدي هذا عمك جمال"، و"البحث عن الذات"... إلخ.
وبعد خروجه من السجن بفترةٍ، عمل صحفياً محترفاً في صحف دار "الهلال" و"المصور" ونشر مذكراته في السجن بها، كما نشر بعض القصص القصيرة، واستمر يعمل بتلك الدار في حين كان يحاول باستماتة شديدة العودة للجيش ثانية.
استعان بيوسف رشاد طبيب الملك الخاص، فأشار عليه بأن يلقي بنفسه على يد الملك ليقبلها أثناء صلاة الجمعة في مسجد الحسين، وفعل السادات وطلب الصفح فأجاب الملك بهزةٍ من رأسه، وفي العاشر من يناير كانون ثانٍ عام 1950 كان السادات في مكتب وزير الحربية محمد حيدر باشا الذي وبخه وانهال عليه بالسباب قائلاً: "أنت ولد مجرم..تاريخك أسود.. ولا داعي للكلام"! ثم دق الجرس ودخل كاتم الأسرار فقال له: "الولد ده ترجعه للجيش النهارده"!..وصدرت النشرة بعودة السادات إلى الجيش اعتباراً من الخامس عشر من يناير كانون ثانٍ عام 1950برتبة يوزباشي، لتستقيم الحياة للسادات ثانياً.
وفي شهادته، يروي السفير جمال الدين منصور ¬أحد مؤسسي "الضباط الأحرار" أن السادات التقى الدكتور يوسف رشاد ¬ قائد الحرس الحديدي¬ بعد خروجه من السجن، وأحاطه الأخير برعايته وأعطاه مبلغ ألف جنيه ليساعده في تدبير أموره، وأصبح عضواً في الحرس الحديدي..وكان حسن التهامي وحسن فهمي عبد المجيد وخالد فوزي أعضاء معه، واشتركوا في الاعتداء بالقنابل والرشاشات على منزل زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا في جاردن سيتي تنفيذا لتعليمات الملك.
وعندما روى جمال الدين منصور ما يعرفه عن هذه المسألة أمام جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين، قال عبد الناصر في حدة: "أنا حأعرف إزاي اكشفه"!. وبعدها في أحد اجتماعات مجلس قيادة الثورة كشف عبد الناصر عن حقيقة انتماء السادات إلى الحرس الحديدي، وبذلك طواه تحت جناحه.
وهناك الوجه الآخر للقصة كما يرويها أنور السادات نفسه في كتاب "البحث عن الذات"، إذ يقول: بعد حريق القاهرة اتصلت بيوسف رشاد ¬وكان صديقاً شخصياً للملك ويرأس جهاز المعلومات الخاص بالسراي، ووجدته يأخذ كل ما أقوله أمراً مسلماً، وإذن الطريق مفتوحٌ لتضليل الملك وتخديره. وكنت أقدم له معلومات خاطئة وعندما يعرض علي منشورات الضباط الأحرار كنت أوهمه بأنها من خيال ضابط معروف بحب التظاهر، وعندما كانت تصل إليه بعض الحقائق كنت أعمل على تصويرها بأنها أكاذيب ومبالغات.. وكنت أسعى للتعرف على أخبار الملك وخططه ونواياه..وعرفت بشعوره أنه لم يعد له مكان في مصر".
ثم ظهر السادات في دور الضابط الوطني، فانضم إلى تنظيم الضباط الأحرار، قبل أن ينجح في رسم ملامح دوره الجديد في ظل جمال عبد الناصر، وهو دور التابع الذي يوافق دائماً، فتمكن من البقاء في حين التهمت الثورة أبناءها واحداً بعد الآخر.
والغريب أن أحد أصدقاء السادات المقربين وهو د. محمود جامع يروي أن "السادات كان يكره ناصر لأنه اعتاد تهميشه ولم يعطه حقه في تولي المناصب القيادية حيث لم يدخله في التشكيلات الوزارية المتعاقبة واكتفى بتعيينه في مناصب ثانوية كوكيل لمجلس الأمة تحت رئاسة عبد اللطيف البغدادي الأقل عطاء وخبرة وموهبة من السادات. وقد قبل السادات المنصب على مضض وهادن عبد الناصر رافضاً الاصطدام به، وبخبثٍ شديد منح عبد الناصر توكيلاً شفهياً بالتصويت نيابة عنه حسب رؤيته وقراره قائلاً: "صوتي دايماً في جيبك يا ريس أنا موافق بلا قيد ولا شرط".
كان حلم الطالب أنور السادات أن يكون ممثلاً، لكنه لم يكن يعلم أنه سيقف يوماً على خشبة أهم مسرح في الشرق الأوسط ليثبت موهبته التمثيلية: رئاسة مصر.
وهكذا، أصبح السادات وعدسات المصورين صديقين لا يفترقان، ورسم الرجل لنفسه أكثر من شخصية ودور، فهو في بعض الأحيان كبير العائلة الذي يتحدث عن العيب وأخلاق القرية ويخاطب شعبه بقوله "يا ولاد"..فكلهم في رأيه أولاد. وكان يحب إجراء حواراتٍ خاصة من قريته ميت أبو الكوم، مع المذيعة التليفزيونية همت مصطفى فيحكي لها عن رحلته من القرية إلى السلطة وهو يخاطبها أكثر من مرة بقوله "يا همت يا بنتي" مع أنها كانت لا تقل عنه في العمر بأكثر من ثمانية أعوام.
وكان يرتدي الجلباب البلدي للفلاح المصري في ميت أبو الكوم ويجلس على المصطبة ليؤكد أنه فلاح ديمقراطي، ثم يخلعه ليرتدي زي القائد الأعلى للقوات المسلحة، وعندما يغضب تتغير ملامح وجهه ويتحدث صارخاً عن أن "الديمقراطية لها أنياب" ويتوعد خصومه بأن "يفرمهم".
وكان غضبه أشد ما يكون حين يخرج أحدهم على النص الذي رسمه هو، إذ يشعر بأن من قف أمامه في لحظات المواجهة شخصاً يتحدى دور البطولة الذي أسنده إلى نفسه، أو أنه يريد أن يسرق الأضواء منه..وعندها تجده يثور على خصمه صارخاً: "الزم مكانك"، وهنا يقوم بدور المستبد الطاغية؛ فعل هذا مع عبد المنعم أبو الفتوح نائب رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة آنذاك في واقعةٍ مشهورة، وتكرر الأمر مع حمدين صباحي الذي قاطع السادات في مدرج جامعة القاهرة.. حمدين كان يدافع برومانتيكية عن عبد الناصر.. رومانتيكية استفزت السادات وجعلته يصرخ في هستيرية مشهورة عنه: "عيب.. عيب". وفعل السادات مثل ذلك مع عمر التلمساني مرشد جماعة "الإخوان المسلمين"، ومع النائب كمال أحمد زعيم الشباب الناصري الذي مزق أوراق اتفاقية الصلح مع إسرائيل وهتف في وجه السادات "خيانة..إنها خيانة، ومن وافق عليها خائن".
وقبل أن يظهر أمام الكاميرات، كان السادات ـ كأي ممثلٍ عريق ـ يستوثق من كل شيء، بدءاً من الملابس وانتهاءً بالإضاءة والإكسسوارات.
في كتابه "خريف الغضب" صور محمد حسنين هيكل السادات بالشخص العاشق للكاميرات والتمثيل والمقامر بمصير البلد والذي يضع البلد رهناً للحظة متعة أمام الكاميرات وذلك في مشهد أشبه بالفيلم السينمائي وهو يزور القدس ويخطب في الكنيست ولا يشغل باله وتفكيره غير صورته أمام العالم.
ويصف هيكل هذا الجانب من شخصية السادات بقوله: "كانت مشكلة السادات أنه ابن عصر التليفزيون، لم يستطع مقاومة إغراء الإفراط في استغلاله، لقد كان أول فرعون في تاريخ مصر جاء إلى شعبه مسلحاً بكاميرا. وكان أيضاً أول فرعون يقتله شعبه...وعندما اختفى وجهه عن الظهور على شاشات التليفزيون بدا وكأن أحد عشر عاماً من حكمه قد تلاشت بلمسة على زر..إن السادات "الهارب" أصبح السادات "الحالم"، والسادات "الحالم" تحول إلى السادات "الممثل". ففي معظم حياته كان السادات يمثل دوراً في كل مرحلة وفي بعض المراحل كان يمثل عدداً من الأدوار في نفس الوقت. إنه لم يكف أبداً، ولم يخف على أي حال انبهاره بالتمثيل وغرامه به، وإن فضل دائماً أن يخفى الأسباب التي دفعته إلى انتحال شخصيات أخرى غير شخصيته الحقيقية".
لقد استفاد السادات من هذا الخلط، بين السينما ورئاسة الجمهورية. فوظف السادات موهبته في التمثيل في خدمة دهائه في السياسة، ووظف الاثنين معاً في خدمة طموحاته، غير أن الثمن كان باهظاً لأنه كلفه حياته.
لقد بدأ دور السادات على المسرح السياسي في السابع من أكتوبر تشرين أول عام 1970، عندما ألقى خطابه في مجلس الأمة بعد ترشيحه لمنصب الرئيس، فتعهد للمصريين بأن يلتزم بالناصرية عقيدة وسلوكاً: "لقد جئت إليكم على طريق عبد الناصر وأعتبر ترشيحكم لي بتولي رئاسة الجمهورية، هو توجيه بالسير على طريق عبد الناصر، وإذا أدت جماهير شعبنا رأيها في الاستفتاء العام "بنعم" فإنني سوف أعتبر ذلك أمراً بالسير على طريق جمال عبد الناصر، الذي أعلن أمامكم بشرف، أنني سأواصل السير فيه على أية حال، ومن أي موقع".
ثم أضاف قائلاًَ: "..لقد وضعت لتفكيري كله قاعدةً واحدة: هي أن أبدأ كل تصرفٍ بسؤال محدد هو: ماذا كان يطلب منا لو أنه كان ما زال بيننا، وكنت على ضوء معرفتي به، رفقة ثلاثين سنة، وزمالة نضال ومعركة وراء معركة، وفهم صديقٍ لصديق". لقد استغل السادات وفاة عبد الناصر وقدم نفسه في صورة الوريث المخلص لقائده الراحل، حيث قام بتقبيل يد وجبهة عبد الناصر وانخرط في بكاءٍ متواصل فسره البعض بأنه تعبير عن تقدير ورد لجميل الرجل الذي وضعه علي بعد خطوةٍ واحدة من مقعد الرئيس.
وفي واقعةٍ ثانية انحنى بشكلٍ درامي أمام تمثالٍ نصفي للرئيس جمال عبد الناصر وضِعَ في بهو مجلس الأمة المصري بعد وفاة الزعيم الراحل. وعلى الرغم من أنه لا انحناء إلا لله، فإن السادات حمل لاحقاً لقب الرئيس المؤمن، وهو الذي لا يرتاح ما لم يتناول قدحاً من الفودكا بعد كل وجبة غداء - طبقاً لرواية هيكل في "خريف الغضب"- معللاً ذلك بأنه يوسع شرايين القلب ويحسن أداء الدورة الدموية في الأطراف.
لكن ما ظل في ذاكرة ووعي الجيل الذي عاصر تلك الفترة، تلك الجملة التي رددها السادات: "لقد جئت إليكم على طريق جمال عبد الناصر". تلقفها على الفور الشعب المصري بالتعليق عليها وحولها إلى نكتةٍ سياسية، تقول: إنه جاء على طريق جمال عبد الناصر، لكن "بأستيكة"..للدلالة على أنه جاء ليمحو طريق عبد الناصر
وفي أول خطابٍ له بعد انتخابه رئيساً للجمهورية عاد مرة أخرى فأكد ما سبق وتعهد به، إذ قال: "لقد تلقيت أمركم وادعوا الله أن يكون أدائي للمهمة التي كلفتموني بها على نحو يرضاه شعبنا، وترضاه أمتنا، ويرضاه المثل الأعلى الذي وضعه القائد الخالد (عبد الناصر) وأعطاه كل شيء من الحياة إلى الموت".
لكن عهد السادات شهد هجوماً شرساً على سياسات ومباديء ورجال عبد الناصر الذين أجهز السادات على رموزهم في الخامس عشر من مايو أيار عام 1971، قبل أن يستخدم أسلوب الصدمات الذي يجمع بين التسويق والتشويق السينمائي، من طرد الخبراء السوفييت إلى زيارة القدس والدخول في مفاوضات كامب ديفيد. وعندما أراد بعض وزراء السادات أن يلعبوا دوراً حقيقياً وليس تمثيلياً في المفاوضات طردهم، فعل هذا مع محمد إبراهيم كامل -صديقه القديم- وإسماعيل فهمي.
"شغل سينما" كما يردد المصريون!
والسينما جزء من برنامج السادات اليومي، إذ كان يطلب كل مساء كشف أفلام السينما الجاهزة للعرض، وكانت هناك قاعة للعرض في كل بيتٍ من بيوته أو استراحة من استراحاته, وكانت الأفلام ترسل اليه حتي قبل عرضها على رقابة الأفلام؛ لأنه كان يعتبر السينما تسليته الأساسية. وعادة ما كان يلقي نظره على كشف الأفلام ثم يخط بالقلم إشارة إلى اثنين أو ثلاثة منها. وفي نحو الساعة العاشرة مساء يتوجه إلى قاعة العرض ومعه من يتصادف وجوده من أفراد أسرته أو من أصدقائه.
وفي لحظةٍ فقد فيها أعصابه، اعتقل السادات عدداً من أبرز الشخصيات السياسية والدينية والفكرية في مصر وزج بخصومه في السجون في الخامس من سبتمبر أيلول عام 1981، وهي الإجراءات التي أسمتها صحافة النفاق "ثورة 5 سبتمبر". وفي الأسبوع الأخير للسادات وزعت صحيفة "مايو" الناطقة باسم الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، صورةً جانبية "بروفيل" للسادات وزع فيها المصور الضوء ليبدو السادات كما لو كان مرسوماً على جدران معبد من معابد الفراعنة.
لكن ما لم يتوقعه السادات، هو أن يكون مشهد النهاية مخالفاً لدور البطولة الذي يلعبه، فكان ما كان في العرض العسكري الذي أقيم في السادس من أكتوبر تشرين أول عام 1981.
مات السادات وهو يجرب البِزَّةُ العسكرية الجديدة. لم يكن الجديد فيها فقط هو لمسات بيت الأزياء الإنجليزي الذي اختار للرئيس قبل اغتياله بلحظاتٍ موديل الجيش الألماني.
الجديد تماماً كان عصا الماريشالية المصنوعة من الذهب.. وضعها السادات تحت إبطه، وأمسكها بأطراف أصابعه، قبل أن يرفعها من قبضة اليد اليمني ويشد قامته ليبدو مثل فرعون يحمل مفتاح الحياة.
هذه كانت صورته الأخيرة تقريباًً، قبل أن تظهر له صورته ممدداً وسط وتحت المقاعد بعد الاغتيال.
لم يكن السادات يتصور أن تنتهي حياته بكلمة "مش معقول" التي قالها في وجه الذين اغتالوه أثناء العرض العسكري المقام لإحياء ذكرى حرب أكتوبر تشرين أول عام 1973.
لكن من يزرع الصدمات يحصد المفاجآت..حتى لو كان ممثلاً بارعاً.