الجراثيم bacteria كائنات صغيرة جداً لا ترى بالعين المجردة ويتألف كل واحد منها من خلية واحدة أولية النواة البسيطة التركيب. واكتشفت الجراثيم أول مرة في القرن السابع عشر على يد الهولندي فان لوفنهوك Van Leeuwenhoek الذي اخترع المجهر، وقاده اختراعه هذا إلى الكشف عن وجود كائنات دقيقة لا ترى بالعين المجردة، ولكن المعرفة المعمقة للجراثيم ودورها الممرض لم يكتمل إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر على يد باحثين مثل الألماني كوخ Koch والفرنسي باستور Pasteur والإنكليزي ليستر Lister.
وللجراثيم أنواع كثيرة تنتشر في كل مكان في الطبيعة فقد توجد في التراب والماء وعلى النباتات، كما يمكن أن تشاهد على سطوح أجساد الحيوانات والإنسان، وفي بعض أجزاء الجسم المفتوحة على الوسط الخارجي كالفم والجهاز الهضمي والتناسلي. وتدعى الجراثيم المستقرة في هذه الأماكن بالجراثيم المطاعمة وهي تستفيد من الجسم وتفيده، ويطلق عليها اسم النبيت الجرثومي الطبيعي (الفلورا flora).
تمتاز الجراثيم بقدرتها على البقاء في ظروف شديدة التباين، وحتى في تلك الظروف التي لا تلائم الكثير من الكائنات الأخرى. وتقوم الكثير من الأنواع الجرثومية بدور هام في توازن البيئة المحيطة بالإنسان، وتحصل الجراثيم على الطاقة اللازمة لها من التفاعلات الكيمياوية التي تقوم بها على المركبات العضوية وغير العضوية في الوسط الذي تعيش فيه.
أشكال الجراثيم وبنيتها
تكون الخلية الجرثومية من حيث الشكل الخارجي إما بشكل كروي (مكورة) وإما بشكل متطاول مستقيم (عصية) وإما متطاولة دقيقة مع بعض الانثنائات (ملتوية)، ويقيس الجرثوم وسطياً بين ميكرون واحد وعدة ميكرونات، (الميكرون = 1/1000 من الملمتر)، أما من حيث البنية الدقيقة للجرثوم فهو يتكون من أغلفة خارجية تحيط بالهيولى الخلوية التي هي مادة هلامية تحوي المادة الوراثية الجرثومية (الصبغي الجرثومي) الذي يضم المعلومات الوراثية الخاصة بالجرثوم، ولا يحيط به غشاء نووي، إضافة إلى الأجسام الريبية وبعض الحبيبات الادخارية. وتحاط الهيولى الجرثومية بغشاء رقيق يدعى الغشاء الهيولي، وهو محاط بغلاف ثخين وقاس نسبياً هو الجدار الخلوي الجرثومي الذي يتكون بصورة رئيسية من مادة فريدة تدعى الببتيدوغليكان peptidoglycan الموجودة في الجراثيم فقط، وهي شبكة معقدة تتركب من مواد بروتينية وعديدات السكاريد، ويحوي الجدار الخلوي إضافة إلى الببتيدوغليكان مركبات أخرى شحمية وسكرية.
وتقسم الجراثيم بحسب بنية جدرها الخلوية وتركيبها، ومن ثم تلونها بطريقة معينة تدعى طريقة غرام Gram، إلى جراثيم إيجابية الغرام وجراثيم سلبية الغرام.
تملك بعض الجراثيم طبقة هلامية مكونة من عديدات السكاريد تحيط بالجدار الخلوي وتدعى المحفظة الجرثومية، كما تملك بعض الجراثيم استطالات بروتينية دقيقة تدعى السياط تساعد الجرثوم على الحركة.
تستطيع بعض الأنواع الجرثومية حين تعرضها إلى ظروف قاسية غير مناسبة لبقائها، أن تتحول إلى شكل خامل استقلابياً لكنه شديد المقاومة يدعى البوغ spore، الذي يتحول مرة أخرى إلى جرثوم نشيط استقلابياً حين توافر الظروف المناسبة.
تكاثر الجراثيم وفيزيولوجيتها
تتكاثر الجراثيم بوساطة الانشطار الثنائي، إذ ينقسم الجرثوم إلى جرثومين متماثلين حين وصوله إلى درجة معينة من النمو. وتختلف سرعة انقسام الجرثوم من نوع جرثومي إلى نوع آخر، فهي تتحمل وسطياً نحو عشرين دقيقة في الجراثيم المعوية، في حين قد تمتد إلى ساعات أو أيام في جراثيم أخرى كالعصيات السلية. ولابد لنمو الجراثيم وتكاثرها من توافر العناصر الغذائية الضرورية كالكربون والنتروجين وغيرها إضافة للشوارد المعدنية المختلفة. وتستطيع بعض الجراثيم استخدام النتروجين الجوي الذي تثبته وتحوله إلى أملاح نشادرية، وهذه الجراثيم تقوم بدور هام في دورة الحياة على سطح كوكبنا وتؤمن خصوبة الأرض، أما بالنسبة لحاجة الجراثيم للأكسجين فهي تختلف بحسب الأنواع الجرثومية، إذ إن بعضها لا يستطيع الحياة بدونه (جراثيم هوائية مجبرة) وبعضها على نقيض ذلك لا يستطيع العيش بوجوده (جراثيم لا هوائية مجبرة) وهناك أنواع تستطيع البقاء في الحالتين معاً (جراثيم لا هوائية مخيرة). وقد استطاع الإنسان اعتماداً على معرفته الدقيقة بفيزيولوجية الجراثيم واحتياجاتها الغذائية إيجاد أوساط صنعية مختلفة تحوي المواد الضرورية لنموها، تدعى الأوساط الزرعية الجرثومية، وهي تستخدم في المخابر لتنمية الجراثيم ودراستها وتشخيص أمراضها.
ولابد، إضافة إلى توافر المواد المغذية الضرورية لنمو وتكاثر الجراثيم أيضاً من توافر الظروف المناسبة كدرجة الحرارة والرطوبة ودرجة الحموضة وغيرها. تفضل معظم الجراثيم درجات الحرارة المعتدلة، وتعد الدرجة 37 مئوية درجة الحرارة المثالية للجراثيم الممرضة للإنسان والحيوان، في حين تتلف معظم الجراثيم (ما عدا الأبواغ) بالحرارة المرتفعة فوق 80 درجة خلال عدة دقائق، أما البرودة فإنها لا تقضي على الجراثيم إنما توقف نموها وتكاثرها، كما يؤثر الجفاف والحموضة والإشعاعات المختلفة سلباً على معظم الأنواع الجرثومية، وتقاوم الأبواغ هذه العوامل كلها.
ويدعى القضاء التام على الجراثيم -بما فيها المبوغة- وعلى غيرها من الأحياء الدقيقة التعقيم sterilization، في حين تسمى العملية التي تمكن من القضاء على معظم الجراثيم-باستثناء الأبواغ والأشكال المقاومة منها- التطهير disinfection.
إمراضية الجراثيم
على الرغم من التنوع الهائل للأنواع الجرثومية المحيطة بالإنسان، فإن معظم هذه الأنواع الجرثومية تعيش على المواد العضوية المختلفة في الطبيعة وعلى نحو مستقل عن الإنسان مسهمة في كثير من النشاطات البيئية وتدعى الجراثيم الرمامة، كما تعيش أنواع كثيرة من الجراثيم على نحو متعايش (مطاعم) على سطح الجسم أو الأغشية المخاطية. ولا تؤلف الأنواع التي يمكن أن تسبب المرض عند الإنسان سوى نسبة محدودة من عالم الجراثيم الواسع، وتدعى الجراثيم الممرضة النوعية، ويسمى المرض الذي تسببه هذه الجراثيم الخمج الجرثومي bacterial Infection. وتتصف الجراثيم الممرضة بإمكانية التغلب على مناعة الجسم واختراق حواجزه الدفاعية، وإحداث أذيات مختلفة الشدة والطبيعة، وتنجم قدرة الجراثيم الممرضة على إحداث المرض عن عوامل عدة أهمها قدرة هذه الجراثيم على الالتصاق بالأنسجة وخاصة بالأغشية المخاطية والتغلغل فيها واختراقها، يساعدها في ذلك بعض الصفات مثل وجود المحفظة الجرثومية أو بعض المركبات الأخرى على سطح الجرثوم والتي تساعده على التصاقه بالأنسجة، إضافة إلى قدرة كثير من الجراثيم الممرضة على إفراز مواد سامة تدعىالذيفانات toxins، أو إفرازها إنزيمات مختلفة تسهم في تخريب أنسجة الجسم أو أذيتها. وتقسم الذيفانات التي تفرزها بعض الجراثيم الممرضة إلى ذيفانات خارجية وذيفانات داخلية. فالذيفانات الخارجية مواد بروتينية شديدة السمية تفرزها على الأغلب جراثيم إيجابية الغرام في أماكن تكاثرها في العضوية وتنتشر إلى أعضاء الجسم المختلفة مسببة تأثيرات خطرة ومميتة أحياناً، كما يحدث في مرض الكزاز أو التسمم بالذيفان الوشيقي. أما الذيفانات الداخلية فليست مواد تفرزها الجراثيم إنما هي في حقيقة الأمر أجزاء من المواد المكونة للجدار الخلوي للجراثيم سلبية الغرام تنطلق حين موت هذه الجراثيم وانحلالها داخل الجسم، وهي مكونة من عديدات سكاريد ومواد شحمية، تؤدي إلى تأثيرات عديدة أهمها ارتفاع الحرارة والتوسع الوعائي وانخفاض الضغط، وقد يصل الأمر أحياناً إلى حدوث حالة خطيرة جداً تدعى الصدمة الإنتانية toxic shock.
إضافة إلى الجراثيم الممرضة النوعية، فإن كثيراً من الجراثيم المتعايشة والرمامة يمكنها، وفي ظروف خاصة كنقص مناعة الجسم أو عند وصولها إلى أماكن عقيمة في الجسم، أن تسبب بعض الأخماج التي تدعى بالأخماج الانتهازية، كما يشاهد ذلك مثلاً عند مرضى متلازمة عوز المناعة المكتسب (الإيدز).
انتقال الجراثيم
لابد لحدوث العدوى بالجراثيم الممرضة من وجود مصدر للعدوى وطرق لانتقالها من مصدر العدوى إلى الشخص السليم. ويشكل المرضى والناقهون من المرض والأشخاص الذين توجد الجراثيم في أجسامهم دون أن تسبب لهم مرضاً والذين يدعون حملة الجراثيم، المصادر الرئيسية للعدوى بالجراثيم الممرضة، إذ يمكن لهذه الجراثيم أن تنتقل إلى الأشخاص السليمين بشكل مباشر بوساطة التماس أو الطريق الجنسي أو عن طريق الرذاذ، أو بشكل غير مباشر بوساطة الأدوات والأشياء والأطعمة والأشربة الملوثة، كما يمكن بعض الحشرات أن تنقل بعض أنواع الجراثيم من شخص لآخر.
مداواة الأمراض الجرثومية
تستخدم لمعالجة الأمراض الجرثومية مواد مختلفة التركيب تدعى الصادات[ر] antibiotics، وهي تؤدي لقتل الجراثيم أو وقف تكاثرها داخل الجسم بآليات مختلفة دون أن تسبب أذية لجسم المريض إذا أعطيت بالجرعات المناسبة، وذلك باستهدافها بنىً تشريحية ووظيفية خاصة بالجرثوم وغير موجودة في خلايا الجسم. وقد أسهم استخدام الصادات واكتشاف أعداد كبيرة منها بشكل مستمر على الحد من الأمراض الجرثومية وتخفيف أخطارها في الخمسين سنة الأخيرة، إلا أن بعض الجراثيم تبدي مقاومة طبيعية أو مكتسبة للعديد منها، وذلك بآليات مختلفة كإفراز إنزيمات تخربها مثل إنزيم البينيسيليناز penicillinase الذي يخرب البنسيلين، أو تغير بنيتها، وقد أدى الاستخدام الواسع وغير الرشيد للصادات في السنوات الأخيرة إلى زيادة ملحوظة في عدد الأنواع والذراري الجرثومية المقاومة لعدد من الصادات مما يسبب مشكلة طبية حقيقية خاصة في المستشفيات.
عاثيات الجراثيم bacteriophages
عاثيات الجراثيم bacteriophages فيروسات تتطفل على بعض الجراثيم وتتضاعف بداخلها مؤدية في كثير من الأحيان إلى انحلال هذه الجراثيم وتخربها.
وكان قد لوحظ أول مرة انحلال الجراثيم وموتها تحت تأثير عامل خارجي عام 1898، وفي عام 1915 توقع الباحثان تفورت Twort وهيريل Herelle أن سبب انحلال بعض مستعمراتالجراثيم التي تدعى المكورات العنقودية هو عامل ممرض ينتمي إلى العوامل الممرضة التي تدعى الفيروسات، ثم برهن كل منهما بعد ذلك على أن الجراثيم تخمج بالفيروسات شأنها شأن الحيوانات والنباتات العليا، إذ ينجم هذا الخمج عن تنسخ فيروسات خاصة بالجراثيم ويتظاهر بانحلال الخلايا الجرثومية. وفي عام 1917 استفردت إحدى الفيروسات التي تخمج الجراثيم من أمعاء مريض مصاب بمرض الزحار العصوي، وأطلق على هذه الفيروسات عندها اسم عاثيات الجراثيم. وقد تبين فيما بعد أن نوعاً محدداً من هذه العاثيات لا يخمج إلا نوعاً معيناً من الجراثيم، بل ذرية محددة ضمن نوع جرثومي معين، وتعود هذه الاصطفائية الدقيقة لإصابة الجراثيم بالعاثيات إلى وجود مستقبلات خاصة لعاث معين على سطح هذه الجراثيم، ويكون سيرالخمج الذي تحدثه العاثية للجراثيم وكأنه مرض معد ينتقل من الجراثيم المصابة فيعديها ويقضي عليها، وقد كانت الدراسات المكثفة الأولى التي أجريت على العاثيات تهدف إلى التوصل لطريقة شفاء طبيعية (حيوية) من الأخماج الجرثومية، لكن ذلك لم يتحقق، إلا أن اكتشاف العاثيات ودراستها كان له أثر كبير على تطور التقانات الحيوية الجزيئية وعلى علم الوراثة الحديث؛ ويقدر اليوم عدد أنواع العاثيات المعروفة والتي تمت مشاهدتها بوساطة المجهر الإلكتروني بنحو 2800 نوع.
شكل عاثيات الجراثيم وبنيتها
تنتمي العاثيات إلى عالم الفيروسات لذا تخضع بنيتها العامة للقواعد التي تخضع لها بنية الفيروسات، إذ تتكون العاثية من جزأين رئيسيين هما المحفظة البروتينية والحمض النووي الذي يوجد بداخل المحفظة ويكون إما دنا DNA أو رنا RNA. وتعد العاثية التي تصيب الجراثيم المعوية (الإشريكيات القولونية) والتي تسمى T2 من أكثر العاثيات دراسة ومعرفة، إذ تظهر هذه العاثية عند دراستها بالمجهر الإلكتروني مكونة من رأس وذيل وقاعدة، ويكون الرأس على شكل متعدد الأضلاع متطاول ذي عشرين وجهاً وطوله نحو 80 نانو متر ويحيط بالحمض النووي، أما ذيل العاثية فيقدر طوله بنحو 100 نانو متر ويتألف من جزء داخلي أسطواني مكون من خيوط دقيقة ويدعى القناة المحورية وجزء خارجي يحيط بالقناة المحورية وهو غمد قابل للتقلص، وتوجد في النهاية القصوى للذيل لويحة سداسية الأضلاع تسمى اللويحة القاعدية، وتلتصق على اللويحة القاعدية شويكات وألياف ذيلية وهي تمثل الجزء الذي تتثبت به العاثية على الجرثوم (الشكل).
مع أن معظم العاثيات تملك هذا الشكل تقريباً إلا أن بعضها يملك ذيلاً لا يتقلص، وبعضها لا يملك ذيلاً على الإطلاق، كما أن هناك عاثيات ذات شكل خيطي.
تضاعف العاثيات
يمر إخماجُ العاثيات للجراثيم بمراحل عدة تبدأ بتثبت العاثية بوساطة الصفيحة القاعدية على مستقبلات نوعية خاصة في الجدار الخلوي الجرثومي. ويمكن لجرثوم واحد أن يملك عدة مستقبلات لعاثيات مختلفة، ويحصل بعد تثبت العاثية على الجرثوم تقلص في الغمد الخارجي لذيل العاثية يقرب رأس العاثية من صفيحتها القاعدية مما يؤدي إلى اختراق قناة الذيل المحورية الداخلية للغشاء الهيولي للخلية الجرثومية المستهدفة وحقن الحمض النووي العاثي داخل هذه الخلية ويقتصر الإخماج على دخول DNA العاثية إلى الخلية الجرثومية من دون المحفظة البروتينية التي لا تمثل إلا غلافاً واقياً للحمض النووي الذي يحمل المعلومات الوراثية الخاصة بالعاثية.
بعد دخول الحمض النووي للعاثية إلى داخل الجرثوم يبدأ تحول المعلومات الوراثية المرمزة عليه إلى مركبات بنيوية ووظيفية تابعة للعاثية وذلك بالاعتماد على الوظائف الاستقلابية للخلية الجرثومية، إذ يتم أولاً اصطناع نسخ عدة للحمض النووي ثم يتم إنتاج البروتينات الخاصة بالعاثية والتي يتكون منها رأس العاثية وذيلها، يلي ذلك تركيب هذه الأجزاء معاً مما يؤدي إلى ظهور أعداد كبيرة من العاثيات المماثلة للعاثية الخامجة داخل الجرثوم ثم ينحل الجرثوم وتخرج العاثيات (الأبناء) إلى الوسط المحيط، وتستغرق الدورة التضاعفية للعاثية بين 15و40 دقيقة بحسب نوع العاثية.
ويظهر انحلال الخلايا الجرثومية وتخربها بفعل العاثيات الخاصة بها واضحاً فيما لو أضيفت كمية صغيرة من العاثيات إلى وسط مغذ سائل يحوي جراثيم الإشريكيات القولونية، وكانت العاثيات المضافة فعالة تجاه هذا النوع من الجراثيم (يقال هنا إن الجرثوم متحسس بها)، فإن الوسط الزرعي الذي يكون في البداية عكراً بسبب وجود الجراثيم سيصبح رائقاً بعد عدة ساعات، وهذه الظاهرة التي ترى بالعين المجردة تدل على انحلال الجراثيم بفعل العاثيات.
إن دورة تضاعف العاثية هذه والمشابهة لدورة تضاعف الفيروسات الأخرى، والتي تبدأ بدخول العاثية إلى الجرثوم وتنتهي بتخرب الجرثوم وتحرر أعداد كبيرة من العاثيات الجديدة منه، لا تحدث دائماً عند جميع العاثيات، إذ إن بعض العاثيات، وتدعى العاثيات المعتدلة، تسلك طريقاً آخر عند إصابتها للجرثوم، فبعد دخول الحمض النووي للعاثية إلى داخل الجرثوم المستهدف يندمج DNA العاثية، الذي يدعى عندها طليعة العاثية، مع الصبغي الجرثومي، وفي هذه الحالة التي تدعى الاستذابة lesogeny فإن العاثية لا تتضاعف ضمن الخلية الجرثومية ولا يموت الجرثوم، بل يبقى قادراً على النمو والتكاثر، لكن في أثناء انقسام الجرثوم يتضاعف دنا العاثية مع الصبغي الجرثومي وتكتسب كل خلية جرثومية جديدة نسخة من هذا الدنا مندمجاً في صبغياتها.
إن اندماج الحمض النووي للعاثية في الصبغي الجرثومي قد يؤدي إلى اكتساب الجرثوم لصفات أو وظائف جديدة مثل القدرة على إنتاج ذيفانات كما هو الأمر في جراثيم الوتديات الخناقية والمطثيات الوشيقية.
إن طليعة العاثية المندمجة في الصبغي الجرثومي، وتحت تأثير بعض المؤثرات، قد تتحرر من الصبغي الجرثومي، وفي هذه الحالة تعود العاثية إلى التضاعف وبالتالي تؤدي إلى انحلال الجرثوم وموته، فطليعة العاثية إذاً هي جين مميت كامن ضمن الجرثوم، وتعد الأشعة السينية وفوق البنفسجية من محرضات تحرر طليعة العاثية المندمجة.
إن اندماج طليعة العاثية في الصبغي الجرثومي وانفصالها عنه بعد ذلك قد يؤديان إلى حدوث بعض التغيرات الوراثية في الخلية الجرثومية مثل التبدل في عمل بعض الجينات الخلوية، وزيادة إمكانية حدوث الطفرات، كما قد تأخذ طليعة العاثية المنفصلة معها جزءاً صغيراً من الصبغي الجرثومي وتقوم بنقله إلى جرثوم مختلف آخر مكسبة إياه جينات جديدة، وتدعى هذه الحادثة التي تقوم بها العاثية بنقل معلومات وراثية من جرثوم لآخر (التنبيغ transduction).
إن محاولة استخدام العاثيات في معالجة الأخماج الجرثومية كانت مخيبة للآمال لأسباب عدة، لكن العاثيات تستخدم في المخابر المتخصصة من أجل التقسيم الفرعي الدقيق للنوع الجرثومي الواحد إلى عدة أنماط حلية (استذابية) lysogenic، وذلك تبعاً لوجود مستقبلات نوعية لعاثيات معينة على سطح الجرثوم.
تسبب العاثيات أضراراً في بعض الأحيان كالعاثيات التي تتلف الجراثيم المستخدمة في صناعة الألبان، أو المستخدمة في صناعة الصادات.