Search - للبحث فى مقالات الموقع

Monday, March 28, 2011

الثورات الوطنية في سورية



 
لم تسفر الحرب العالمية الأولى، وخروج العثمانيين من الأراضي العربية عن تحقيق تطلعات الحركة العربية في الاستقلال والوحدة، وعلى الأقل ضمن الحدود التي طالب بها الشريف حسين قبل إعلان الثورة العربية. فقد وثق العرب بوعود الحلفاء وبريطانية بالذات، التي خذلتهم، تنفيذاً لاتفاقها مع فرنسة في الحرب العالمية الأولى (اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916) على تقسيم البلاد المنفصلة عن الدولة العثمانية السابقة. ولم يكن بيد الحكومة العربية التي أعلنت في دمشق في مطلع تشرين الأول 1918، إلا القسم الداخلي من سورية، في حين كانت فلسطين تحت الإدارة العسكرية البريطانية، والساحل السوري الشمالي في ظل الإدارة العسكرية الفرنسية، وقبل العرب هذا الإجراء المؤقت إلى أن تتم التسوية النهائية في مؤتمر السلم في باريس. وكانت دمشق في هذه الأثناء «جائشة بالحركة الاستقلالية الوحدوية والرافضة كل حماية ووصاية، والمطالبة باستقلال سورية الطبيعية ضمن وحدة عربية مستقلة»، كما يصفها أحد رجالها 
(محمد عزة دروزة).

وأخفق مؤتمر السلم في تحقيق الآمال القومية العربية التي دخل العرب من أجلها الحرب، بل عمد إلى توزيع الانتداب (وهو الصيغة المقنّعة للاستعمار) على الشعوب الصغيرة (بمن فيهم العرب) مخالفاً بذلك مبدأ حق تقرير المصير. ونجحت المؤامرة البريطانية الفرنسية في اغتيال استقلال سورية في ميسلون (تموز 1920)، حين فرض الانتدابان البريطاني والفرنسي، عملاً بمقررات سان ريمو، على أجزاء المشرق العربي، وضرب بذلك الحد الأدنى من الوحدة الذي التقى عنده أمل السوريين العاملين في سبيل الاستقلال والوحدة، وانتهى الحكم العربي في دمشق.

بدايات الثورة المسلحة (1918ـ 1920)

منذ أن وطأت أقدام الفرنسيين الساحل السوري في خريف 1918، إثر انتهاء الحرب، واجهوا مقاومة وطنية كبيرة لم تقتصر على اتباع الطرق السياسية، من مظاهرات ومذكرات احتجاج، بل تعدى الأمر، في عدد من المناطق الريفية إلى حركات شعبية ثورية، على اعتبار أن المقاومة المسلحة للاحتلال هي الطريقة الوحيدة والمثلى للدفاع عن الوطن، والحل الحاسم بين الشعب وقوى المستعمر. وقد تفجرت ثورتان، الأولى على طول وعرض المنطقة الساحلية من الإسكندرونة إلى طرابلس بقيادة الشيخ صالح العلي[ر]، وتولى قيادة الثورة الثانية إبراهيم هنانو[ر] في شمالي وشمال غربي سورية في مناطق جبل الزاوية وإدلب وأنطاكية. وأفهمت هاتان الثورتان المحتلين بلغة السلاح أن الشعب مصمم على المقاومة، وأنه إذا لم يستطع الثوار إجلاءهم فإنهم سيجعلون مهمة فرنسة في بسط السيطرة، وهي الشرط الأول لتوطيد الانتداب، مهمة شائكة، لم يكن من السهل على قوى الاحتلال تجاوزها، ولاقت الحركات المسلحة في المنطقتين دعم حكومة دمشق العربية. وبعد سقوطها، ظلت الثورتان مشتعلتين وحدث التنسيق بينهما، فعززتا مظاهر الوحدة والتكامل وناهضتا خطط المستعمرين، وكانت تجربة رائدة ضد المحتل الفرنسي. وجرت معارك حامية تكبدت فيها القوات الفرنسية خسائر كبيرة، قبل أن يتم القضاء عليها في أواخر عام 1921.

وقد تضافرت عوامل كثيرة أدت إلى اضمحلال الثورتين ومن ثم نهايتهما، بعد أن نضبت مواردهما المالية والعسكرية، واستنفدت المعارك كل طاقاتهما المحدودة. وربما كان بإمكان الثورتين أن تصمدا مدة أطول لو كانت الأوضاع العامة الداخلية والخارجية تساعد في مدهما بحد أدنى من أسباب الصمود.

استمرار المقاومة المسلحة (1920ـ 1925)

ولا تعني نهاية الثورتين نهايةً للكفاح الوطني المسلح، فقد ظن الفرنسيون أنه بإمكانهم بسط سيطرتهم على سورية عن طريق إدارة مباشرة تعضدها قوات عسكرية، واتباع سياسة الضغط وتشريد الوطنيين. إلا أن السلطة الفرنسية أخطأت في تقديرها قوة العامل القومي العربي، فدخلت مباشرة في صراع مع الحركة الوطنية في سورية، وأصبحت البلاد مسرحاً للحركات الثورية التي كانت امتداداً لأعمال المقاومة المسلحة السابقة.

وإثر ميسلون، ثارت القبائل في منطقة حوران ضد سلطات الاحتلال وقامت بمهاجمة القطار الذي أقل وفداً رسمياً، قدم لتهدئة الأهالي نزولاً عند رغبة الفرنسيين، وقتل رئيس الوزراء علاء الدين الدروبي وعبد الرحمن اليوسف رئيس مجلس الشورى عند خربة غزالة في أيلول 1920، فجهزت سلطات الاحتلال الفرنسي حملة عسكرية لإخماد الانتفاضة في المنطقة، وتصدى لها الأهالي وكبدوها خسائر كبيرة، وردت الطائرات الفرنسية بالقصف وفُرِضْت غرامة مالية باهظة على الأهالي.

وفي 23 حزيران 1921، تعرض أول مفوض فرنسي سامي الجنرال غورو في أثناء زيارته القنيطرة لإطلاق النار، فقتل أحد مرافقيه، وسيَّر الفرنسيون حملة دمرت عدداً من قرى المنطقة وفرضت غرامات مالية بعد أن صادرت الممتلكات، وامتدت الثورة في تموز 1922 إلى منطقة جبل العرب، إثر اعتقال أدهم خنجر الذي لجأ إلى سلطان باشا الأطرش زعيم الجبل، بعد إخفاق محاولة اغتيال غورو، وحاول سلطان باشا أن يحشد الريف حوله، وتصدى مع قوة من أتباعه لكتيبة فرنسية، وبعد قصف منزله اضطر إلى اللجوء إلى شرقي الأردن، وفرض الفرنسيون غرامة على الجبل.

مكن التفوق العسكري الفرنسي من إخماد الأعمال الثورية مؤقتاً في سورية، ولكن القوى الوطنية تابعت  تعبيرها عن رفض الاحتلال بشتى الوسائل وفي مختلف المناسبات، الإضرابات والمظاهرات والعمل السياسي السري داخل البلاد أو حركة في المنفى في المجال السياسي والإعلامي.

تفجر الثورة السورية 1925ـ1927

 استمرت البلاد تعيش جواً من التوتر في السنوات التي انقضت بين وضع سورية تحت الانتداب واندلاع الثورة السورية، نتيجة لأعمال القمع وسوء الوضع الاقتصادي والتجزئة السياسية. وفي 17كانون الثاني 1925، توجه وفد من دمشق وحلب لمقابلة المفوض السامي في بيروت، الجنرال سَراي حاملاً مطالب البلاد، ومنها: التأكيد على الوحدة السورية وتشكيل جمعية تأسيسية منتخبة تضع للبلاد دستورها، وقام رجال الحركة الوطنية بتأليف أول حزب في سورية بعد فرض الانتداب، يمارس نشاطه رسمياً هو حزب الشعب برئاسة عبد الرحمن الشهبندر، ومن أهم برامج الحزب العمل لتأمين استقلال سورية ووحدتها، وبرز الحزب في وقت كانت البلاد تتطلب بروز زعامة سياسية توحد الصفوف وتقودها، وعلى الرغم من الوعود التي قطعها المفوض السامي الجنرال سراي ظلت الشكاوى القديمة من غير معالجة ولاسيما في جبل العرب، وذهب وفد من زعماء الجبل وشيوخه في نيسان 1925 لمقابلته مؤكدين أن الجبل جزء لا يتجزأ من البلاد السورية مع المطالبة بتعيين حاكم للجبل من أبنائه. وبعد رفض سراي هذه المطالب دعا سلطان باشا الأطرش إلى عقد اجتماع في السويداء، وطافت المظاهرات أنحاء الجبل، وجرى الاتصال مع عدد من الزعماء السياسيين في دمشق، معظمهم من أركان حزب الشعب، للتشاور وتنسيق المواقف. ومع أن حزب الشعب أعلن أنه يسعى لتحقيق مبادئه وبرنامجه بالطرق القانونية المشروعة، فقد تم التعاهد بين عدد من أعضائه، بصفة شخصية، ووفد من الجبل على إشعال نار الثورة في سورية لتحقيق الاستقلال والوحدة.

وفي 21 تموز 1925، وبعد اعتقال عدد من زعماء الشعب ونفيهم إلى تدمر، أقدم سلطان باشا الأطرش على إضرام نار الثورة بحرق دار المفوضية الفرنسية في صلخد وإبادة قوة فرنسية جاءت للقبض عليه، ودخل بعدها السويداء، وحاصر قلعتها. وفي آب 1925 توجهت حملة فرنسية للانتقام من أركان الثورة كان نصيبها الإخفاق في موقعة المزرعة. وصلت أنباء الثورة إلى مختلف مناطق سورية، وعقد في دمشق في 20 آب 1925 اجتماع سري بين وفد سلطان باشا الأطرش وبعض زعماء دمشق من حزب الشعب والاستقلاليين القدامى، وتقرر الاشتراك فعلياً بالثورة، وإرسال وفد إلى الجبل لتبليغ زعمائه قرار دمشق، وبلغ سراي الخبر فأمر بحل حزب الشعب وملاحقة رجاله، فقبض على بعضهم بينما التحق آخرون بالثورة.

وامتدت الثورة إلى غوطة دمشق، ودارت فيها معارك ضارية بين الثوار والفرنسيين، وتولى الجنرال غاملان قيادة النجدات الفرنسية في 16 أيلول 1925، ورد الثوار بمهاجمة الحامية الفرنسية في قرية المسيفرة، وتكبيدها خسائر كبيرة، ثم دارت معارك بين الثوار والقوات الفرنسية الزاحفة على السويداء، واضطر الفرنسيون بعد احتلال مؤقت للمدينة إلى الانسحاب بعد أن قررت قيادة الثورة مد نطاقها إلى الشمال لتخفيف  الضغط على الجبل، ودارت المعارك حول دمشق وجبل القلمون.

وفي 5 تشرين أول 1925 بلغت الثورة مدينة حماة بقيادة فوزي القاوقجي، الذي أوقع في صفوف الفرنسيين خسائر كبيرة، فردوا بقصف المدينة بالقنابل واعتقال الكثيرين. ومع أن ثورة حماة لم تدم طويلاً إلا أنها هددت سيطرة الفرنسيين بسرعة انتشارها إلى أقاليم حمص وحماة وطرابلس وأجبرتهم على سحب جزء من قواتهم من منطقة الجبل مما خفف الضغط على الثوار.

واتسع نطاق الثورة واتخذت شكلاً وطنياً عاماً، وتغلغلت قوات الثورة إلى أسواق دمشق وأحيائها الشعبية في تشرين الأول 1925، ولمع اسم كل من حسن الخراط ومحمد الأشمر رمزاً لنضال دمشق ضد الفرنسيين، وردت المدافع الفرنسية بقصف المدينة دون سابق إنذار، وزادت هذه الأحداث من إضرام الثورة، وعُهد إلى القاوقجي بالقيادة العامة لجيش الغوطة وجهات الشمال، فحاول أن يبعث الحياة في معارك الغوطة، وازداد الضغط الفرنسي على الغوطة وأُرسلت قوات فرنسية كبيرة لإجلاء الثوار عن بعض مناطقها، كما شُن هجوم على جبل العرب شارك فيه الطيران.

وقد عملت الثورة السورية منذ تفجيرها على تجنيد القوى العربية لمساعدتها بالمال والسلاح والإعلام، وأدت الثورة وانتصاراتها دوراً في جعل أبناء الأمة العربية يساندون النضال السوري. ولم تقف الإجراءات البريطانية حائلاً أمام الشعب العراقي لإظهار تعاطفه مع الشعب السوري بالدعم الإعلامي والمادي ومبادرات فردية بالقتال. وأثارت الثورة السورية حماسة الفلسطينيين، وكانت فرصة لإعادة الصلة بين رجالات الحركة الوطنية في البلدين، وكان الصحفيون الفلسطينيون ينقلون أخبار الثورة السورية، وتألفت في القدس منذ تشرين أول 1925 «اللجنة المركزية لإعانة منكوبي سورية» برئاسة الحاج أمين الحسيني وعدد من الزعماء الفلسطينيين والسوريين ومعظمهم من الاستقلاليين القدامى، مهمتها الإشراف على جمع الأموال وتأمين السلاح وإيصالها إلى مواقع الثورة، كما أخذت بتقديم المعونة للمجاهدين الذين لجؤوا إلى شرقي الأردن بعد انتقالهم إلى النبك وقريات الملح في أراضي نجد.

كان معظم المجاهدين السوريين، بسبب استمرار التضييق الفرنسي على حركاتهم، قد اضطروا إلى مغادرة البلاد في خريف 1926، ومنهم سلطان باشا الأطرش، إلى منطقة الأزرق في شرقي الأردن بغية اتخاذها قاعدة لهجماتهم على سورية، قبل أن تضطرهم السلطات البريطانية إلى الخروج إلى أراضي نجد. وتوزع عدد من القيادات السورية بين القاهرة والقدس وعمان، وتحولت الثورة بعد ذلك إلى حركات ثورية متقطعة، قادها فوزي القاوقجي على رأس قوة ثورية صغيرة، وظل حتى شتاء 1927 يبحث عن قاعدة يجدد منها حياة الثورة.

أثبتت أحداث الثورة وأسبابها أنها ثورة وطنية هدفها الحصول على استقلال سورية الموحدة، وشاركت فيها كل الفئات، مع أن الفئة المتنورة كانت الروح المحركة للنضال، إلا أن عمل الثورة كانت تعرقله الخلافات بين الزعامات السورية في الخارج بشأن توجيه الثورة وجمع الإعانات وهي خلافات قديمة تعبر عن انقسامات عقائدية وصراعات شخصية، وأحدث هذا شرخاً في صفوف الوطنيين وانتقل إلى المجاهدين. ولعل السبب الحقيقي لأفول الثورة يكمن في نهاية ثورة الريف واستسلام الأمير عبد الكريم الخطابي، مما مكن الفرنسيين من إرسال النجدات الكبيرة إلى سورية، المزودة بالأسلحة المتطورة التي كان الثوار يفتقدونها.

نتائج الثورة

كان لنشوب الثورة نتائج انعكست على علاقة سورية مع المحتلين الفرنسيين واضطرتهم إلى إعادة النظر في سياستهم، وتقديم بعض الحلول التي تخفف من حدة الغليان الشعبي ولا تتعارض مع مصالح فرنسة الاستعمارية. وقد دفعت عوامل كثيرة فرنسة نحو إقامة نظام برلماني والارتباط بمعاهدة مع سورية، يُذكر منها الثورة السورية التي كوّنت ضغطاً قوياً على السياسة الفرنسية، الرفض الشعبي لفكرة الانتداب، إخفاق فرنسة بالإتيان بحكومة يرضى عنها الشعب، شعور السياسيين الفرنسيين أن وجود هيئة نيابية منتخبة يسهل على فرنسة مهمة التعامل مع جهة واحدة، كما أن وضع الانتداب في صورة معاهدة يوفر لفرنسة ما لم تستطع تأمينه بالقوة والعنف، وأخيراً تعرض فرنسة لضغوط من عصبة الأمم بسبب سياستها.

ومنذ أواخر العشرينات ظهرت الكتلة الوطنية قوة سياسية للعمل على تجديد الحركة الوطنية في سبيل وحدة واستقلال سورية بعد فتور الثورة الوطنية، وإذا كان النضال المسلح قد توقف في أواخر العشرينات، فإن النضال السياسي حل محله، ولم يكن أقل ضراوة منه، إلى أن انتهى الأمر بتحقيق الاستقلال.

إن ضراوة النضال المسلح والسياسي لم يتح لفرنسة إمكانية استغلال سورية على النحو الذي فعلته في مناطق سيطرتها الأخرى. وانتهى الاحتلال العسكري الأجنبي إلى الأبد، ولم يكن الاستقلال السياسي غاية بنفسه، بل كان وسيلة مهمة تفتح طريق الجهاد واسعاً أمام تطوير البلاد، ودفعها إلى التقدم لصيانة الاستقلال وجعله واسطة لإسعاد الأمة ورقيها.