إِرم ذات العماد المعنى الذي تذكره كتب اللغة للفظ «إِرم» هو الحجارة التي تُنصَب في المفازة عَلَماً, والجمع آرام وأُروم. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة, ورد مقروناً بصفة «ذات العماد», وذلك في قوله تعالى:)ألم ترَ كيف فَعل ربُّك بعاد. إِرم ذاتِ العمادِ. التي لم يُخلَقْ مثلها في البلاد( (سورة الفجر, الآيات 9,8,7). وقد ذهب المفسّرون مذاهب شتّى في تفسير هذه الآيات, ذلك أن ورود لفظ «إِرم» بعد لفظ «عاد» جعلهم يختلفون في إِعراب «إِرم», فذهب بعضُهم إِلى إِعراب «إِرم» عطف بيان أو بدلاً من «عاد», فتكون «عاد» عندهم هي «إِرم» عينها, وفسّروا قوله تعالى «ذات العماد» بأن قوم عاد كانوا طوال القامة حتى ليبلغ طول بعضهم أربعمئة ذراع. وذهب آخرون إِلى أن لفظ «إِرم» مضاف إِلى «عاد» ويجعلون «إِرم» اسم أُمّهم أو اسم البلدة. واختلفوا كذلك في تفسير قوله «ذات العماد» فهي عند بعضهم اسم مدينة وعند آخرين وصف لإِرم. وظاهر أن قول بعض المفسّرين إِن «إِرم» هنا اسم لقوم عاد لا يصح لقوله تعالى: )التي لم يخلَق مثلُها في البلاد(, فإِرم اسم المدينة التي كانت تقطنها قبيلة عاد, وعلى هذا القول جمهور المفسرين. وهنا برزت معضلة أخرى: أين كان موقع هذه المدينة؟ هل كان في بلاد الشام أو في بلاد اليمن أو في مواضع أخرى؟ والقرآن الكريم ذكر في أكثر من موضع خبر هلاك قوم «عاد» بسبب عصيانهم نبيّهم «هوداً», وذكره مفصلاً في سورة الأعراف (الآيات 65 وما بعدها). وذكر تعالى أن هلاك «عاد» كان بريح عاتية اجتاحت بلادهم: )وأمَا عادُ فأُهلكوا بريحٍ صَرصَرٍ عاتية. سخَّرها علَيْهم سبعَ ليالٍ وثمانية أيّامٍ حُسُوماً فَتَرى القَوْمَ فيها صَرعَى كأنَّهمْ أعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة. فَهَلْ تَرَى لهُم مِنْ باقِيَة( (الحاقّة/الآيات 7 وما بعدها). ويذكر بعض الأَخباريين أنَ «عاداً» وبعض الأمم القديمة هم من نسل «إِرم بن سام بن نوح», فإِرم عندهم اسم أحد أبناء سام, وإِليه تُنسب قبيلة عاد. ولكن ليس في التوراة ذكر لقبيلة «عاد». ويستظهر جرجي زيدان أن «هدورام» المذكورة في التوراة (الإِصحاح العاشر /الآية 7, والإِصحاح الأول /الآية 2), هي عاد, وهي عنده من الأمم الأرامية القديمة. وقد ورد لفظ «أرام» في الإِصحاح العاشر في عداد أبناء سام: «بنو سام: عيلام, وأشور, وأرفكشاد, ولود, وأرام», ولكن لم يرد في التوراة لفظ «إِرم» المذكور في القرآن الكريم والموصوف بذات العماد. وقد ورد اسم موضع قبيلة عاد في القرآن الكريم على أنه في «الأحقاف». وذلك في قوله تعالى: )واذكُرْ أخَا عَاد إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بالأحْقَاف( (الأحقاف /الآية 21). وأكثر الأخباريين والمفسّرين على أن الأحقاف في بلاد اليمن. فذكر ياقوت أن الأحقاف المذكورة في القرآن الكريم هي وادٍ بين عُمان وأرض مَهرة, أو هي رمال مشرفة على البحر بالشِحْر من أرض اليمن. إِن ورود لفظ «الأحقاف» في الآية الكريمة قد دفع بعض الأخباريين إِلى اختراع خبر طويل حول «إِرم ذات العماد», وقد أورد ياقوت الخبر مفصلاً في معجم البلدان (مادة أحقاف ومادة إِرم) وخلاصته أن إِرم ذات العماد كانت باليمن بين حضرموت وصنعاء, بناها شَدّاد بن عاد, وأن شدّاداً كان ملكاً جبّاراً ولَما سمع بالجنة وما أعدّ الله لأوليائه من قصور الذهب والفضة والمساكن التي تجري من تحتها الأنهار أراد أن يبني مدينة يضاهي بها الجنة, فأمر أعوانه أن يختاروا لها مكاناً مناسباً وأغدقَ عليهم الأموال وأمرهم بجمع ما في البلاد من الذهب والفضة والجواهر الكريمة, وجعل فيها العَمد الطوال وأجرى فيها الأنهار وجعل أشجارها من الذهب وثمرها من الياقوت وبنى فيها ثلاثمئة ألف قصر وبنى لنفسه قصراً منيفاً عالياً, فجاءت المدينة أعجوبة لا نظير لها في البلاد. فأرسل الله إِليه هوداً عليه السلام ليهديه سواء السبيل ولكنه لم يستجب لدعوته وتمادى في كفره وطغيانه, فأهلكه الله وقومه بالصيحة, وساخت المدينة في الأرض فلم يدخلها أحد بعد ذلك. وقد علق ياقوت على هذا الخبر بقوله: «هذه القصة ممّا قدّمنا, البَراءَة من صحتها, وظنّنا أنها من أخبار القُصّاص المنمقة وأوضاعها المزوّقة». وكذلك أورد النويري في نهاية الأرب خبر إِرم وشدّاد بن عاد بمزيد من التوسع والتفصيل, ثم ذكر أن معاوية استدعى كعب الأحبار[ر], وسأله عن إِرم وشدّاد بن عاد وما قيل بشأنهما, فأجابه: «والذي نفسُ كعب بيده لقد ظننت أن سأتوسّد يميني قبل أن يسألني أحد عن تلك المدينة, ولكن أخبرك بها يا أمير المؤمنين, ولمن هي, ومَن بناها, أما المدينة فهي حقٌّ على ما بلغ أمير المؤمنين وعلى ما وُصفت له, وأما صاحبها الذي بناها فشدّاد بن عاد, وأما المدينة فهي إِرم ذات العماد التي لم يخلق مثلُها في البلاد». ثم طفق كعب الأحبار يحدّث معاوية عن إِرم وشدّاد حديثاً مفصّلاً حشاه بالعجائب والغرائب والمبالغات, ثم أخبر معاوية أن هذه المدينة سيدخلها رجل أحمر أشقر قصير. ثم يشير إِلى رجل من أتباعه, ويذكر أنه دخل هذه المدينة وشاهد عجائبها. وثمة روايات أخرى تتحدث عن رجال دخلوا مدينة إِرم. وزعم بعضهم أنه دخل مغارة في جبل, فوجد رجلاً مضطجعاً وإِلى جانبه لوح كتب فيه بالمسند (الخط الحميري القديم) شعر على لسان شدّاد بن عاد, بل زعم بعضهم أنه عثر على قبر النبي هود. وقد رجح ياقوت أن الأحقاف رمال في أرض اليمن, واستشهد على صحة ما ذهب إِليه بخبر طويل عن رجل حضرمي أسلم على يد علي بن أبي طالب فسأله عن موضع الأحقاف وقبر هود فزعم أنه دخل كهفاً فوجد فيه رجلاً على سرير وعلى رأسه كتابة بالعربية صورتها: «أنا هود النبي الذي أسفت على عادٍ بكفرها وما كان لأمر الله من مَرَدّ». وظاهر أن الخبر من اختلاق الرجل الَحضرمي, والظن أن ورود كلمة «الأحقاف» في القرآن الكريم على أنها موطن عاد وهود النبي عليه السلام, هو الذي أوحى بأن موطن عاد في أحقاف اليمن, وكل هذه المرويّات من اختراع الأخباريين من أهل اليمن, ومنهم كعب الأحبار, وكثيراً ما كان الناس يسألونهم عن الأخبار المتصلة بآي من القرآن الكريم فيطلقون لخيالهم العنان في نسج الأساطير إِطرافاً لسائليهم. وقد ذكر ابن خلدون أن قوم عاد هم بنو عاد ابن عوص بن إِرم بن سام, وأن مواطنهم الأولى بأحقاف اليمن من عُمان إِلى حضرموت والشحر, وذكر ما يقال من أن أباهم عاداً كان أول من ملك من العرب وقد طال عمره, وكثر ولده فبلغوا أربعة آلاف وتزوج ألف امرأة, ثم أورد ابن خلدون كلاماً للزمخشري والبيهقي والمسعودي حول خبر شدّاد بن عاد, ثم علّق على هذه المرويات بقوله: «والصحيح أنه ليس هناك مدينة اسمها إِرم وأن هذا من خرافات القُصّاص, وإِنما ينقله ضعفاء المفسّرين», وعنده أن «إِرم» المذكورة في القرآن إِنما هي القبيلة لا البلد.. في الحقيقة إِن الأحقاف لا يراد بها في القرآن الكريم أحقاف اليمن, فالأحقاف لغةً هي جمع حقف, وهو المعوجّ من الرمل, ولا يعني لفظ الأحقاف موضعاً بعينه, وفي بلاد العرب أحقاف كثيرة متفرقة في نواحيها, وقد نقل ياقوت عن أحدهم أن الأحقاف جبل بالشام, فالقول إِن موضع إِرم ذات العماد هو في بلاد اليمن غير مقطوع بصحته. وقد ذهبت طائفة من الباحثين إِلى أن «إِرم ذات العماد» إِنما كانت في بلاد الشام, وذهب بعضهم إِلى أنها دمشق عينها, وفي قول ثالث إِنها الإِسكندرية, ولم يعثر على كتابات ونقوش لعاد تعين على معرفة موضعها على وجه التحقيق. وقد ذكر الحسن بن أحمد الهمداني (ت بعد 334هـ) في كتابه «الإِكليل» أن العجم تذكر أن إِرم ذات العماد بدمشق وأن جيرون ابن سعد بن عاد بنى مدينتها وسمّاها «جيرون ذات العماد» لكبر أحجار أعمدتها. ويبدو أن إِطلاق لفظ «إِرم» على دمشق كان معروفاً في حقبة من الزمن, وقد ورد ذكرها في بعض الأشعار, ومنها أبيات للبحتري يقول منها:
طلبتك من أُمّ العراق نوازعاً | | بنا وقصورُ الشام منكَ بمرصدٍ |
إِلــى إِرمٍ ذات العمـــاد وإِنها | | لموضع قصدي مُوجِفاً وتعمُّدي |
على أن هذا القول لا يصح الأخذ به, فلم يذكر أحد أن هوداً عليه السلام كان منزله في دمشق. وقد أدّت الأبحاث التي قامت بها طائفة من الباحثين والاكتشافات الأثرية الحديثة إِلى نتائج أقرب إِلى الصحة في تعيين موضع إِرم, وقد ورد عند الجغرافي بطليموس ذكر موضع «آراماوا» Aramawa في بلاد الشام. والمرجح أنه أراد به «إِرم». وقد دلّت الحفريات التي قامت بها بعثة المعهد الفرنسي ودائرة الآثار الأردنية وحفريات أخرى على أن موضع «إِرم» هو الجبل المعروف باسم «رم» وموقعه إِلى الشرق من العقبة, على مسيرة خمس وعشرين كم, وقد وجدت إِلى جانبه آثار قديمة مندثرة لم يبق منها إِلاّ عين ماء كانت تتوقف عندها القوافل في طريقها من الشام إِلى الحجاز. فالرأي الراجح لدى الباحثين المحدثين أن قوم عاد كانت مساكنهم في الجزء الشمالي الغربي من جزيرة العرب, ممتدة من شمالي الحجاز ونجد إِلى مشارف بلاد الشام, والمرجّح كذلك أنهم كانوا من أصل أرامي, ويقوّي هذا الرأي أن مساكن عاد كانت قريبة من مساكن ثمود, ولذلك ارتبط اسم عاد باسم ثمود في القرآن الكريم وفي المرويات التاريخية, وقد هلكت ثمود لعصيانها نبيّها صالحاً عليه السلام, وقد عثر على كتابات ونقوش ثمودية كثيرة في المنطقة الشمالية الغربية من بلاد العرب, وكانت مساكن ثمود في الحجْر ودُومة الجندل وما حولهما. وقد ذُكر في القرآن الكريم أنهم كانوا ينحتون بيوتهم في الجبال: )وكَانُوْا يَنْحِتُون منَ الْجبَالِ بُيُوتاً آمِنِيْن( (سورة الحجر, الآية 80). وقد زار الرحَالة إِبراهيم بن محمد الإِصطخري (ت 346هـ) صاحب المؤلفات الجغرافية المعروفة, بلاد ثمود فوصفها بقوله: «رأيتها بيوتاً مثل بيوتنا في أضعاف جبال, وتُسمّى تلك الجبال الأثالث, ويطوف بكل قطعة منها الطائف وحواليها الرمل أي (الأحقاف) ولا تكاد تُرتَقى, كل قطعة منها قائمة بنفسها لا يصعدها أحد إِلا بمشقة شديدة, وبها بئر ثمود».
وقد ذكر ياقوت أن إِرم اسم علم لجبل من جبال حِسْمَى في ديار جُذام بين أيلة (العقبة) وتيه إِسرائيل, وذكر أنه جبل عظيم الارتفاع, وذكر ياقوت كذلك اسم موضع يقال له «جِشّ إِرم», فذكر أنه «جبل في بلاد طيء, أملس الأعلى في ذروته مساكن لعاد, وفيه صور منحوتة في الصخر». فالرأي الراجح في موضع إِرم ذات العماد أنه الموضع المكتشف قرب العقبة, ومجاورة عاد لثمود دليل قاطع على أن إِرم ذات العماد لم تكن في بلاد اليمن وإِنما في بلاد الشام, ومَنْ يشاهد مدينة البلقاء الأثرية اليوم يرى أنها منحوتة من الصخر وتذكّر بطريقة البناء التي كان سكان تلك المناطق ومنهم عاد وثمود, يجرون عليها, إِذ كانوا ينحتون بيوتهم في الصخر في أعالي الجبال لحمايتها من المغيرين.
ـ ياقوت الحموي, معجم البلدان (دار صادر, بيروت 1977م). ـ الحسن بن أحمد الهمداني, الإِكليل, الجزء الثامن, تح. نبيه أمين فارس (دار العودة, بيروت). ـ ابن خلدون, تاريخه, الجزء الثاني (بولاق). ـ جواد علي, تاريخ العرب قبل الإِسلام, الجزء الأول (بغداد 1951م). ـ جرجي زيدان, تاريخ العرب قبل الإِسلام (القاهرة).
|