Search - للبحث فى مقالات الموقع

Tuesday, March 29, 2011

ثورة الزنج



 

ثورة دامت أكثر من أربع عشرة سنة (255-270هـ/868-883م) أنهكت الدولة العباسية، وأرَّقت مضاجع الناس سنوات طويلة. وكان مسرحها المستنقعات الممتدة بين البصرة وواسط، وأكثر عناصرها من الزنج الذين جيء بهم من سواحل إفريقية الشرقية لكسح السِّباخ (أرض نز وملح) في الأراضي قرب البصرة، وكان هؤلاء ملكاً لأصحاب هذه الأراضي يعملون في الأرض فيعزقونها ويرفعون عنها الطبقة المالحة ليصلوا إلى الأرض الخالية من الأملاح الصالحة للزراعة، وكان عملهم شاقاً ومعيشتهم متدنية فهم لا يتقاضون أجراً عن عملهم، ويقتاتون بقليل من الدقيق والتمر والسويق، ولذلك فإنهم كانوا مستعدين لتلبية نداء دعاة التحرر الاجتماعي.
أثارت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة لهؤلاء الزنوج اهتمام أحد المغامرين، وهو علي بن محمد الذي زعم أن نسبه ينتهي لعلي بن أبي طالب، وادَّعى ادعاءات أخرى ليثبت مركزه ويزيد عدد أنصاره، فهو فضلاً عن ادعائه النسب العلوي، نادى بالمبادىء الديمقراطية التي يتطلع إليها العديد من أفراد الطبقة الدنيا، كما ادعى علم الغيب وزعم أن له آيات عَرَف بها ما في ضمائر أصحابه، وتمكَّن بفضل ذلك كله من أن يضم إليه هؤلاء الزنوج إضافة إلى العبيد الفارين من القرى والمدن المجاورة تخلصاً من سوء حالهم.
أما فيما يتعلق بأصله الحقيقي فإن الطبري يورد أن اسمه هو علي بن محمد بن عبد الرحيم ونسبه في عبد القيس، وأمه ابنة علي بن رحيب من بني أسد بن خزيمة من ساكني قرية من قرى الري يقال لها وَرْزَنين كان بها مَولده ومنشؤه.
بدأ طموح علي بن محمد الذي عرف بصاحب الزنج بالظهور منذ سنة 249هـ عندما أقام في البحرين، وأخذ يبشر بمذهبه حتى كَثُرَ أتباعه وعَظُم مقامه، ولكنه اضطر إلى مغادرة البحرين إثر فتنة وقعت بينه وبين المناوئين له، فنزل البصرة سنة 254هـ، ونزل في بني ضُبَيْعة فاتبعه جماعة كثيرة، منهم علي بن أبان المُهلَّبي الذي صار من كبار قادته، إلا أن قوة والي البصرة محمد بن رجاء الحضاري أجبرته على ترك البصرة فالتجأ إلى بغداد ليعود بعد سنة إلى البصرة إثر عزل واليها ابن رجاء.
أخذ صاحب الزنج يُحِّرض الزنوج على هجر أسيادهم والانضمام إليه واعداً إياهم بتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، ولمع نجمه منذ أن استطاع استمالة بعض غلمان البصرة الذين أقبلوا عليه لمبادئه في تحرير العبيد وتحسين أوضاع الفقراء، وقد وعدهم بأن يجعلهم قواداً ويٌرئسهم ويملكهم الأموال وحلف لهم الأيمان الغلاظ ألاَّ يغدر بهم ولا يخذلهم ولايدع شيئاً من الإحسان إلا أتى إليهم، وقد نفذ وعده حين سمح لهؤلاء بضرب سادتهم الذين جاؤوا لمفاوضة صاحب الزنج لردّهم مقابل خمسة دنانير عن كل منهم.
كانت حركة صاحب الزنج في بادئ الأمر حركة ضد كبار الملاّكين، ثم تطورت فصارت حركة مناهضة للدولة «لأن الخلفاء والولاة ظالمون ينتهكون حرمة الله»، فسمح صاحب الزنج لرجاله بسلب السلاح والأموال لاستخدامها في قتال أعدائهم وأن من يأسِر رجلاً يغدو هذا الرجل عبداً له، وبذلك تحولت جموع هؤلاء إلى قوى مسلحة واستطاعوا أن ينتصروا على جيوشالخلافة فتملكوا الأبُلَّة وعبادان والأهواز سنة 256هـ، واستولوا سنة 257هـ على البصرة وقتلوا الكثير من أهلها، وأُحرقت البصرة في عدة مواضع وعظم الخطب وعمها القتل والنهب والإحراق، ثم اجتاحت جموع صاحب الزنج واسط ورامهرمز وأصابوا مالاً كثيراً، وصار هؤلاء الزنوج يملكون السادة من البيض.
سيّر الخليفة المعتمد (256-279هـ/870-892م) الكثير من مشهوري قواده من أمثال موسى بن بغا الذي قتل عدداً كبيراً منهم، غير أن هذه الانتصارات التي حققها بعض القواد لم تفل شوكتهم بل ظل خطرهم يتزايد وانتصاراتهم على جيوشالخلافة تتوالى حتى أمسك زمام المبادرة أبو أحمد الموفق أخو الخليفة المعتمد الذي انتقلت إليه السلطة الحقيقية في الإدارة والجيش، ولم يكد الموفق يفرغ من معالجة مشكلة الصفَّارين الذين ثاروا في سجستان حتى عمد إلى تعبئة الجيوش وإعدادها للقضاء على ثورة الزنج، وخرج من بغداد إلى واسط سنة 267هـ/881م، ونجح في إجلاء الزنج عن الأهواز وأحرز عدة انتصارات إلا أنها لم تكن حاسمة لأن الثوار كانوا متحصنين في مناطق صعبة المسالك، فعزم الموفق على أن يحاصر «المختارة» مدينتهم، وبنى إزاءها مدينة سماها «الموفقية» وأمر ابنه أبا العباس أحمد (المعتضد بالله) بقطع الميرة عن مدينة صاحب الزنج فاستولى الجزع عليهم وطلب جماعة من وجوه أصحابه الأمان، فأمَّنهم الموفق وخلع عليهم ووصلهم بصلات كثيرة، وكان ذلك كما يقول ابن الأثير من أنجح المكايد لأن هذا شجع آخرين على الانضمام إلى الموفق، وفي أواخر ذي الحجة 267هـ، أجمع الموفق على العبور إلى «المختارة» مدينتهم بجيوشه أجمع وأمر الناس بالتأهب، وجمع المعابر والسفن وفرَّقها عليهم. وقصد الموفق إلى ركن من أركان المدينة وهو أحصن ما فيها، وعليه من المجانيق والآلات للقتال ما لا حدّ له، فأمر الموفق غلمانه بالدنو من ذلك الركن، فتسلقوا السور بسلالم كانت معهم، ونصبوا على الركن علماً من أعلام الموفق فانهزم الزنج وتخلوا عن الركن بعد قتال شديد، وكان أبو العباس قصد ناحية أخرى فتوجه علي بن أبان لمقاتلته فهزمه أبو العباس، وقتل جمعاً كثيراً من أصحابه، ولمَّا حلَّ الظلام أمر الموفق الناس بالرجوع، وهبَّت ريح عاصفة وقوي الجزر فغاص أكثر السفن في الطين، فهاجمهم الزنج وقتلوا منهم جماعة وأسروا جماعة وهذا ما أضعف أصحاب الموفق، ثم أقام الموفق لا يحارب ليريح أصحابه حتى شهر ربيع الآخر سنة 268هـ، ثم قصد الموفق مدينة الزنج المختارة وفرَّق قواده على جهاتها، وجعل مع كل طائفة منهم جماعة من النَّقابين وأخرى لهدم السور، وأمرهم أن يهدموا السور فقط ولا يدخلوا المدينة. وفي تلك السنة عينها أوقع أبو العباس أحمد بن الموفق بقوم من الأعراب كانوا يحملون الميرة إلى عسكر صاحب الزنج وأرسل إلى البصرة من أقام بها لقطع الميرة، وسيَّر رشيقاً مولى أبي العباس فأوقع بقوم من بني تميم كانوا يجلبون الميرة إلى الزنج، وبذلك انقطعت الميرة كلها عنهم فأضر بهم الحصار وأضعف أبدانهم فكثر المستأمنون عند الموفق، فكان يعرضهم، فمن كان ذا قوة وجلد أحسن إليه وخلطه بغلمانه، ومن كان ضعيفاً أو شيخاً أو جريحاً كساه وأعطاه دراهم وأمر به أن يحمل إلى معسكر صاحب الزنج فيلقى هناك لكي يذكر ما رأى من إحسان الموفق إلى من صار إليه، فتهيأ له بذلك استمالة الزنج، وجعل الموفق وابنه العباس يتناوبان قتال صاحب الزنج، حتى كان الثالث من محرَّم سنة 270هـ، حين انضم لؤلؤ غلام ابن طولون إلى الموفق في جيش عظيم فأكرمه الموفق وخلع عليه وعلى أصحابه، وطلب من لؤلؤ أن يتأهب لقتال صاحب الزنج، وأقام الموفق حتى الأول من صفر يصلح ما يحتاج الناس إليه وفي الثاني من صفر عبر بالناس وأمر برد السفن وسار بهم إلى المكان الذي قدر أن يلقاهم فيه، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه والرجالة قد سبقوا الجيش وأوقعوا بصاحب الزنج وأصحابه وقعة هزموهم بها، وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون من لحقوا به منهم، وقُتل صاحب الزنج في ذلك اليوم، وأتى غلام من أصحاب لؤلؤ برأسه فعرضه الموفق على جماعة ممن كان بحضرته من قواد المستأمنة فعرفوه، فخرّ للَّه ساجداً وسجد أبو العباس وسجد معه قواد موالي الموفق وغلمانه شكراً للَّه، وأمر الموفق برفع رأس صاحب الزنج على قناة ونصبه بين يديه لكي يراه الناس ويعرفوا صحة الخبر بقتله.
أقام الموفق بعد ذلك بالموفقية ليزداد الناس بمقامه أمناً وإيناساً، وأمر أن يكتب إلى أمصار الإسلام بالنداء في أهل البصرة والأبلة وكور دجلة وأهل الأهواز وكورها وأهل واسط وما حولها أن يعودوا إلى أوطانهم، وأرسل ابنه أبا العباس إلى مدينة السلام ومعه رأس صاحب الزنج ليراه الناس