المفتي عند العلماء الأوائل هو المجتهد، والإفتاء في الأصل هو الاجتهاد، وهو استنباط الحكم الشرعي من دليله، ولكنْ تميز من الاجتهاد بكونه يتطلب مراعاة الوقائع وظروفها. ثم صار لفظ المفتي يطلق على متفقهة المذاهب الذين يقتصر عملهم على نقل نصوص كتب الفقه الإسلامي وتطبيقها على المسائل المستفتى فيها، وهذا الإطلاق من باب المجاز، ومن قبيل الحقيقة العرفية الموافقة لعرف العوام واصطلاح الحكومات. وصار الإفتاء مجرد إبداء الحكم الشرعي الذي يقرره المجتهدون المتقدمون لمسألة تقتضي البيان، أو جواباًَ لسؤال، أو بيان حكم الشرع الإسلامي في بعض الأوضاع الحديثة كالتأمين والمعاملات المصرفية.
الحكم
يجب على العالم الفقيه إذا سئل عن مسألة أن يجيب عنها، فما من نازلة أو حادثة إلا وللإسلام حكم فيها: قال تعالى: )وإذ أخذَ الله ميثاقَ الذين أُوتوا الكتابَ لَتُبيِّنُنَّه للناس ولا تَكْتُمُونَه( (آل عمران 187) وقال النبي r: «من سُئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» لذا كان الإفتاء إما فرض عين إن تعين المفتي، وإما فرض كفاية إن تعدد المفتون.
الفرق بين الإفتاء والاجتهاد وحكم الحاكم
الإفتاء أخص من الاجتهاد فإن الاجتهاد هو بذل الجهد من الفقيه في استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها، أي عملية استنباط الأحكام من مصادرها، كالحكم بأن كتابة الدَّين مندوب إليها وليست واجبة من قوله تعالي: )يا أيُّها الذين آمَنَوا إذا تَدَايَنْتُمْ بِدَينٍ إلى أجلٍ مُسمَّىً فاكتبوه( (البقرة 282). فقد صرف الأمر عن الوجوب بقرينة قوله تعالى: )فإن أَمِن بعضُكم بعضاً فليُؤدِّ الذي ائتُمِنَ أمانَتَهُ( (البقرة 283). وأما الإفتاء فإنه لا يكون إلا إذا كانت واقعة وقعت ويتعرف الفقيه حكمها. والفتوى السليمة تتطلب، عدا توافر شروط الاجتهاد، شروطاً أخرى: وهي معرفة واقعة الاستفتاء، ودراسة نفسية المستفتي، والجماعة التي يعيش فيها ليعرف مدى أثر الفتوى سلباً وإيجاباً. والمستفتي هو من ليس أهلاً للاجتهاد، سواء أكان عامياً أم عالماً بعلوم أخرى اختص بها ليست مؤهلة لرتبة الاجتهاد. والمستفتى فيه: هي المسائل الظنية الاجتهادية، فهي التي يجوز الاستفتاء عنها، ويجب ديانةً اتباع قول المفتي فيها. أما الأمور الأساسية في الشريعة، مثل أصول العقيدة والإيمان، وأركان الإسلام الخمسة، وتحريم جرائم القتل والسرقة والرشوة وشرب الخمر والزنى ونحوها، فهي معلومة بداهة لا تحتاج إلى استفتاء، لقيام الدليل القطعي اليقيني على ثبوتها.
والإفتاء مُلزِم ديانةً فيما بين الإنسان وربه، أما حكم الحاكم فإنه ملزم قضاء، ويستعان على تنفيذه بقوة الدولة وأجهزتها التنفيذية.
والفتيا أوسع من الحكم والشهادة، فيجوز فتيا العبد (في الماضي) والحر والمرأة والرجل، والقريب والبعيد، والأمي المطلع والقاريء، والأخرس ـ بكتابته ـ والناطق، والعدو والصديق، ومن يجوز حكمه له ومن لا يجوز، أما الحاكم فعليه إعلام الخصم بموضوع الدعوى، ولا يجوز مفاجأته غيابياً بالحكم من دون علم بالدعوى.
شروط المفتي
يجب أن يكون المفتي تقياً، ذكياً، عارفاً باللغة العربية، وبالقرآن الكريم، والسنة النبوية، وبمقاصد الشريعة، وباتفاق العلماء، واختلافهم، وبأصول الفقه. ومن لم يكن كذلك ليس له أن يفتي. ويجوز للمفتي أن يقلد فقيهاً مشهوداً له، كأصحاب المذاهب الأربعة.
ومن قواعد المفتي وضوابطه: ألا يفتي في حال غضب شديد أو جوع مفرط أو هم مقلق أو خوف مزعج أو نعاس غالب أو شغل قلب مستول عليه أو بحاجة ماسة لقضاء الحاجة (حال مدافعة الأخبثين). ولا يفتي بما يصادم النص الشرعي، وعليه أن يفتي بما هو راجح لديه، لا بالقول الضعيف، ويحرم عليه إذا جاءته مسألة أن يحتال على إسقاط واجب أو تحليل محرّم، أو يرشد المستفتي إلى مطلوبه بمكر أو خداع، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي عليه أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، وأن يكون حَذراً فَطناً، فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإلا زاغ وأزاغ.
درجات المفتين أو أنواعهم أو طبقاتهم
المفتون الذين هم أهل للفتوى أربعة أقسام:
الأول: العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة، وذلك مثل أئمة المذاهب الفقهية الذين وضعوا أصول الاستنباط، واجتهدوا في ضوئها، ومثل تلامذة أولئك الأئمة الذين اعتمدوا أصولهم ولكنهم توصلوا بها إلى آراء مخالفة للإمام.
الثاني: المجتهد المقيد بمذهب من أئتم به، وهو المجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومآخذه وأصوله، العارف بها، المتمكن من التخريج عليها، وقياسه على أقواله المنصوصة، ولكنه لا يقلِّد إمامه لا في الحكم ولا في الدليل، وإنما يسلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ويدعو إلى مذهبه ويرتبه ويقرره، مثل القاضي أبي يعلى من الحنابلة.
الثالث: المجتهد المنتسب، وهو الذي اجتهد في مذهب من انتسب إليه وقرره بالدليل، وأتقن فتاويه، وعلم بها، لكن لايتعدى أقواله وفتاويه مثل أكثر المصنفين في مذاهب أئمتهم، كالقدوري والمرغيناني من الحنفية.
الرابع: طائفة تفقهت في مذهب من انتسبت إليه، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض، فهم مجرد نَقَلة لآراء المجتهدين، من دون معرفة بأدلتهم تفصيلاً وإنما إجمالاً، كأكثر العلماء المعاصرين.