ثورات 1830 و1848 في أوربة
هي مجموعة من الثورات التي قامت في عدد من البلدان الأوربية، نتيجة الصراعات السياسية والاجتماعية بين القوى الرجعية الحاكمة والقوى الليبرالية المتأثرة بأفكار الثورة الفرنسية، التي تدعو إلى الحرية والحكم الدستوري والوحدة الوطنية والقومية.
أوربة بعد مؤتمر ڤيينة
دعت حكومات أوربة إلى حلف مقدس للدول الكبرى، من أجل التصدي للحركات الثورية والحفاظ على الوضع الراهن آنذاك، وقد عُقد هذا الحلف في باريس سنة 1815 بين روسية والنمسة وبروسية وإنكلترة، ولكن عصر نابليون وتصرفات القادة في تلك الدول، كان قد أيقظ روح الحرية والوطنية عند الشعوب، وكانت فرنسة في نظرهم منبع الأفكار الثورية، فتقرر إبقاء جيش الحلفاء فيها، حتى سنة 1818، حينما تقرر ضم فرنسة إلى الحلف الرباعي، وكان لويس الثامن عشر Louis XVIIIمعتدلاً في تصرفاته مع الشعب الفرنسي حتى وفاته سنة 1824.
ثورات 1830 ونتائجها
خلف شارل العاشر Charles X أخاه لويس الثامن عشر، وكان متعصباً ميالاً إلى الرجعية، فأصدر مراسيم قضت بحل المجلس النيابي وتعديل قانون الانتخاب والحد من حرية الصحافة، مما أغضب أهل باريس فثاروا، وأرسل الملك قوات اشتبكت مع الثوار في قتال دام ثلاثة أيام 27-29/7/1830، ثم انضمت إليهم، ورفع الثوار العلم الثلاثي الألوان، واستولوا على القصر الملكي، ففر الملك إلى إنكلترة، وتشكلت حكومة مؤقتة قررت تولية ملك دستوري، واختارت لويس فيليب Louis Philippe، الذي تولى فعلاً باسم ملك الفرنسيين، ولم تستطع الدول الكبرى التدخل بسبب انشغال روسية بثورة بولونية (بولندة) والنمسة بثورة إيطالية، وبروسية بمشكلاتها الداخلية، لذلك اعترف الجميع بلويس فيليب الذي نال بحسن تصرفه ثقة الجميع.
كان من نتائج ثورة باريس أن قامت في بلجيكة ثورة في آب 1830، للتخلص من الحكم الهولندي، وبعد معارك دامية في شوارع بروكسل، انسحب الجيش الهولندي، وأُعلنت في بلجيكة حكومة مؤقتة، قررت الانفصال عن هولندة في 4/10/1830، وأيدت ذلك فرنسة وإنكلترة بينما ترددت روسية والنمسة وبروسية، ثم أحجمت عن التدخل بسبب انشغالها بالثورات. وفي عام 1839، عُقدت معاهدة دولية ضمنت حياد بلجيكة. وفي بولونية كان الشعب يئن تحت الحكم الروسي الذي قرره مؤتمر ڤيينة، وما إن وصلت أخبار نجاح ثورة باريس حتى اشتعلت الثورة في وارسو، وقتل الثوار الضباط الروس واليهود الموجودين هناك، وأعلنوا استقلال بولونية، ولكن جيشاً روسياً ضخماً اتجه إليها وأخمد الثورة بالقوة.
وكان من نتائج ثورة باريس أيضاً ظهور أفكار جديدة، فاقترح أتباع سان سيمون Saint Simon نظاماً عالمياً يلغي مبدأ التوريث، ونادى فورييه Fourier بإلغاء الدولة وإيجاد خلايا عمالية بدلاً منها، كما ظهرت الأفكار الاشتراكية والشيوعية، كل هذا أثار روح التذمر والثورة بين جماهير الشعوب التي لم تعد ترضى بالآراء الرجعية السائدة آنذاك، وهكذا كانت ثورة 1830 من الأسباب البعيدة لقيام ثورات 1848 في أوربة، وباعثة على انتشار الأفكار الليبرالية والاشتراكية والوطنية والدولية فيما بعد.
ثورات 1848
الأسباب المباشرة للثورات: في هذه الظروف غير المستقرة قبيل سنة 1848، برزت قضية «الزواج الإسباني»، وتتلخص في أن ملك فرنسة لويس فيليب أراد زواج ملكة إسبانية ماري لويز إيزابيل Marie-Louise Isabell وأختها من أميرين فرنسيين من آل بوربون في يوم واحد، مما هدد التوازن الأوربي بالخطر، فعارضت إنكلترة بشدة، بينما لم تكن إسبانية نفسها راضية عن مثل هذا الزواج، كل ذلك أثار الرأي العام الفرنسي الذي رأى أن الملك ورئيس وزارته فرانسوا غيزو François Guizotيضحيان بالمصالح الفرنسية الدولية لمصلحة آل بوربون.
وهناك سبب آخر مهم جداً، تجلى في أزمة اقتصادية خانقة، سببها القحط وقلة المواد الغذائية، فعمت البطالة التي زاد في حدتها استعمال الآلة بدلاً من اليد العاملة، وازداد غلاء المعيشة وارتفعت أسعار المواد الأساسية بنسبة 80% أحياناً، وانتشر الفقر والبؤس بين الطبقات الشعبية والريفية.
وكان من الطبيعي، في هذه الظروف، أن تظهر حركات بين الفلاحين والعمال في كل من فرنسة وإيطالية والنمسة والمقاطعات الألمانية وبولونية، حيث هوجم عدد من ملاكي الأراضي، بينما قام مفكرون أبرزهم فريدريك إنغلز[ر] وكارل ماركس، ينادون بثورة شاملة لتغيير بنية المجتمع واتحاد عمال العالم، وفي أيلول 1847 ظهرت «المجلة الشيوعية» التي كانت تنادي بالأفكار الجديدة وتنشرها، إضافة إلى تطلع الشعوب إلى الوحدة والحرية، والتخلص من نير الحكم الأجنبي.
أحداث الثورة: بدأت هذه الأحداث في فرنسة، حيث تحولت حركة الجماهير من مجرد المطالبة بالإصلاح إلى ثورة عارمة بدأت في 24 شباط 1848، هادفة إلى قلب نظام الحكم، ونادى الشعب بالجمهورية، حتى اضطر الملك لويس فيليب إلى النزول عن العرش والهجرة إلى إنكلترة، وتولت الحكم في فرنسة حكومة مؤقتة كان أبرز أعضائها الشاعر والخطيب الفرنسي الشهير ألفونس لامارتين Alfonse de Lamartine ولويس لوبلان Louis Leblane صاحب الأفكار الاشتراكية، وكان انتخاب مجلس الأمة قد انتهى بفوز أعضاء جمهوريين معتدلين، فعاد الشعب إلى الثورة، ولكنها أُخمدت. وفي كانون الأول عام 1848 انتخب لويس نابليون بونابرت رئيساً للجمهورية، فقام أولاً بإصلاحات هدأت من روع الشعب، ولكنه بعد أن استمال الجيش، حد من حرية الصحافة، ومنع الاجتماعات، وشتت أعضاء المجلس، وأخيراً أعلن نفسه امبراطوراً باسم نابليونالثالث (1852-1870) Napoléon III ، فتحولت الجمهورية إلى امبراطورية، وهكذا فشلت الثورة في فرنسة، ولكنها أقصت آل بوربون عن الحكم.
أما في النمسة، فقد بدأت الأحداث بمظاهرات شعبية اصطدمت مع الجيش في 13 آذار عام 1848، بعد وصول أخبار ثورة فرنسة، وتفاقم الأمر حتى اضطر مترنيخ رئيس وزراء النمسة وزعيم الرجعية الأوربية إلى الفرار، واضطر الامبراطور إلى السماح بحرية الصحافة، والاعتراف بصلاحية المجلس التأسيسي لإعداد الدستور، كما سمح بتشكيل الحرس القومي، ولكن الثورة في النمسة لم تصل إلى الجيش الذي ظل مخلصاً للأسرة المالكة. وفي 6 تشرين الأول 1848، قامت ڤيينة بثورة أخرى انتهت بنزول الامبراطور فرديناند المريض عن العرش لابن أخيه الشاب فرانسوا جوزيف، واستولى الجيش على المدينة وسيطر على الوضع، إلا أن الثورات الخطرة التي واجهتها النمسة كانت في البلاد الخاضعة لها، خصوصاً في إيطاليةوهنغارية.
أما في إيطالية، فقد تحمس سكان ميلانو والبندقية عند سماعهم بسقوط الملكية في فرنسة وفرار مترنيخ من ڤيينة، وخرجوا على النمسة، وأعلن شارل ألبرت ملك سردينية والبيمونت[ر] عزمه على تحرير إيطالية من الحكم النمسوي، وانضمت إليه توسكانة ونابولي، ولكن القوات النمسوية تمكنت من الانتصار عليهم حتى اضطر الملك «شارل ألبرت» إلى النزول عن العرش لابنه الفتى ڤكتور عمانويل، وهكذا قمعت الحركة القومية في إيطالية.
أما في هنغارية، فقد هب الناس عند سماعهم بسقوط مترنيخ، وشكلوا وزارة وطنية، وأعلنوا استقلالهم عن النمسة، وحذت بوهيمية حذو هنغارية، بينما كانت الجيوش النمسوية منشغلة في إيطالية، فاستجاب الامبراطور لمطالب الثوار. وقد أسرع قيصر روسية لنجدته، وهاجم الثوار بمائتي ألف جندي من الشرق، بينما هاجمهم النمسويون من الجنوب والغرب، وسرعان ما استُعيدت بودابست، وانهارت المقاومة في 10 آب 1849. وهكذا أخفقت الثورة هنا أيضاً، وعُلق الدستور، وساد الحكم المركزي المطلق على الدولة، وعلى جميع القوميات في الامبراطورية.
وفي بروسية وألمانية، وصلت إلى برلين أخبار الثورة في فيينة، فاندلعت الاضطرابات في 18 آذار 1848، وعمت الثورة، وما حل شهر نيسان حتى كانت الحركة الدستورية قد انتصرت في كل ألمانية الوسطى، خصوصاً في بافارية وفي سكسونية، وفي أيار 1848 انعقد أول مجلس نيابي ألماني في فرانكفورت، ولكن حدثت أزمة اقتصادية خانقة أفرزت أحزاباً متطرفة، وتفاقمت الأمور، مما استدعى تدخل الجيش البروسي، وقامت ثورات محلية قومية في كل مكان تطالب بوحدة ألمانية، ولكن تباطؤ مجلس فرانكفورت أدى إلى تنظيم قوى اليمين صفوفها، وكان الملك فريدريك غليوم الرابع قد رفض تاج الامبراطورية الذي قدمه له برلمان فرانكفورت، وتشكلت وزارة يمينية كان يوجهها عم الملك، الجنرال فون براندنبورغ، وأُخضع النواب المعارضون بقوة الجيش، وأخيراً قام الملك بحل المجلس في 5 كانون الأول 1848، وأعلن دستور منح البروسيين بموجبه بعض الحريات، وهكذا أخفقت الحركة القومية الألمانية أيضاً، وأُجهضت الثورة.
أسباب إخفاق ثورات 1848 في أوربة
من أبرز الأسباب الداخلية، الانشقاق بين القوى الثورية، وتباين الأهداف بين قومية ودستورية، وتخلي بعضهم عن الثورة كالفلاحين النمسويين الذين كانوا يؤيدون الأسرة المالكة، والعداء بين الألمان والبولونيين، والمجر والكروات، ومحاولةالبيمونت السيطرة على الثورة الإيطالية لمصلحتها، وغير ذلك من مظاهر الخلاف والانشقاق بين الثوار.
وهناك أسباب خارجية، منها تدخل الجيش الروسي لسحق الثورة الهنغارية، وكذلك السياسة الفرنسية الحذرة، التي كانت حريصة على إشراك إنكلترة في أي تدخل محتمل، وقلقها من قيام دولة جرمانية قوية على حدودها الشرقية، لذلك تخلت عن أي تصرف يخدم القوميات الطامحة إلى الوحدة والحياة الحرة.
نتائج الثورات
أسفرت هذه الثورات، على إخفاقها، عن نتائج مهمة جداً، أبرزها:
1- وضع بذور الوحدتين الألمانية والإيطالية وظهور ألمانية قوية، استطاعت قهر النمسة في معركة سادوفا سنة 1866، ثم الانتصار على فرنسة في معركة سيدان عام 1870، وقيام الجمهورية الثالثة في فرنسة.
2- بروز دولة البيمونت سلطة أوربية ذات تأثير مهم في تحقيق الوحدة الإيطالية.
3- ظهور روسية وسيطاً أعلى في أوربة، يعتمد على جيش قوي ويساند الأنظمة الملكية.
4- خروج النمسة، أقوى ما تكون، بعد انتصارها في كل مكان وتثبيت أسرتها المالكة.
5- نتج من اضطراب الأمور في أوربة سياسياً واقتصادياً، هجرة الكثيرين من الأوربيين إلى مختلف بقاع الأرض، حيث نقلوا خبراتهم وإمكاناتهم، مما أسفر عن تحولات هامة في البلدان التي هاجروا إليها.
وهكذا أخفقت ثورات 1848 جميعها في تحقيق أهدافها المعلنة، ولكنها كانت ذات أهمية كبيرة في التاريخ.