إيران قبل الثورة
الثورة الإسلامية في إيران مثل كل الظواهر الاجتماعية، لها جذور ضاربة في أعماق التاريخ، وخاصة الأوضاع التي سادت إيران في مطلع القرن الماضي، وتتمثل بانحطاط في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعدم وجود مشروع حقيقي للنهضة، وتدخّلُ الدول الغربية للسيطرة على كل شؤون البلاد، بما في ذلك توجيهُ الحركات الإصلاحية لتكون وفق مصالحها، أو ضربُ تلك الحركات إن
تعذّر احتواؤها.
تعذّر احتواؤها.
وأمام هذه الحالة المتردية، شهدت الساحة الإيرانية تيارين إصلاحيين: الأول ـ تيار أصيل، يرى أنّ علاج الأمة ينحصر في المحافظة على هويتها وكرامتها، والإصلاح لابد أن يكون مرتبطاً بالجذور الحضارية، ومتفاعلاً مع معتقدات الناس وعواطفهم. والثاني: متغرّب يقوم على أساس تقليد نظم الغرب، والتخلص من نفوذ الدين في الحياة الاجتماعية، وتغيير الحرف العربي إلى حرف لاتيني، وإبعاد المفردات العربية من اللغة الفارسية، وغيرها من التبنيّات التي تتجه نحو قطع علاقة الإيرانيين بدائرة الحضارة الإسلامية وبالعرب.
غير أن التيارين اتفقا في الحركة الدستورية بمطلع القرن الماضي، ونجحا في إقرار الدستور سنة 1905م، وصار لإيران بعد هذا التاريخ دستور ومجلس نواب، غير أنَّ التيَّار الأصيل لم يلبث أن يكتشف أن الحركة الدستورية كانت مشروعاً تديره بريطانية، فانسحب بالتدريج ليمارس نشاطاً تحررياً عبر حركات عسكرية، مثل حركة فدائيان إسلام (في بداية الأربعينات)، أو نشاطاً ثقافياً، مثل الذي مارسته الحوزة العلمية والمثقفون الدينيون، أو نشاطاً من داخل مجلس النواب كما فعل آية الله السيد حسن المدرس، الذي قاد حملة ضد اتفاقية 1919م، التي فرضتها بريطانية على إيران، وسيطرت بموجبها على كل مقادير البلاد، بما في ذلك حقول النفط.
وحين تصاعدت المعارضة داخل مجلس النواب، دعمت بريطانية انقلاباًً عسكرياً على يد «رضا خان» (1930م) الذي توّج نفسه ليصير رضا شاه بهلوي، وليمارس عملية قمع شديدة للمعارضة، وليبدأ بتنفيذ مشروع إبعاد إيران عن دائرة الحضارة الإسلامية بالبطش والقوّة، لكنه فشل بسبب مقاومة الاتجاه الأصيل الذي قاده علماء الدين بالاستناد إلى قاعدته الجماهيرية العريضة.
ثم نشبت الحرب العالمية الثانية، وأعلنت إيران حيادها في هذه الحرب، لكن الحلفاء تذرّعوا بأمور واهية ليتدخلوا في إيران، فدخل الجيش السوفييتي ليحتل شمالي إيران، والجيش البريطاني ليسيطر على الجنوب، وفي سنة 1941م اتجه الجيشان إلى طهران، فقدّم رضا خان استقالته تاركاً العرش لابنه محمد رضا بهلوي.
في بداية الخمسينات تشكلت الجبهة الوطنية، لتضم عناصر ذات انتماءات مختلفة بزعامة محمد مصدّق الذي صار رئيساً للوزراء، وحانت فرصة جديدة لتحرر إيران، حين التحمت خطى عالم ديني كبير هو آية الله الكاشاني (ت 1961م) مع خطى مصدّق، لتأميم النفط وتخليص إيران من سلطة الشاه والسيطرة الأجنبية. لكنَّ وكالة الاستخبارات الأمريكية دبَّرت انقلاباً عسكرياً أطاح بمصدّق، وأعاد الشاه إلى عرشه. ومنذ ذلك الحين دخلت إيران في ساحة النفوذ الأمريكي وانفتحت الأبواب أمام المستشارين الأمريكيين على أوسعها، ثم أمام الخبراء العسكريين وخبراء الأمن الإسرائيليين، وتحولت إيران إلى قاعدة لضرب كل حركة تحررية في المنطقة، بما في ذلك حركات التحرر العربي، وتحرير فلسطين.
مارس نظام الشاه في حقبة السيطرة الأمريكية أفظع ألوان البطش بكل معارضة وبكل اتجاه تحرري، بوساطة جهاز أمنه الرهيب «ساواك» الذي اتجه كذلك إلى إشاعة أحطَّ ألوان الانحدار الخلقي والفساد والتحلُّل بين الشباب خاصة.
ومنذ بداية الستينات ادَّعت السياسة الأمريكية في عهد جون كندي إجراء إصلاحات في البلدان التابعة، لدفع شعوبها في اتجاه تطبيع علاقاتها مع أمريكا، وطمس الهوية الوطنية والدينية لشعوب هذه البلدان. وكان لابد أن تقترن هذه السياسة بحريَّة نسبية، شهدها المجتمع الإيراني آنئذ، وأعلن الشاه لائحة «الإصلاحات»، وكان ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب ومزيد من التبعية لأمريكا مع توجّه واضح لمحاربة الهوية الحضارية لإيران.
أسباب الثورة
أبرز سبب لهذه الثورة هو الروح الدينية للشعب الإيراني، الذي التفّ حول علماء الدين الذين تصدّوا للمخططات البريطانية والأمريكية والصهيونية، رافضين كل محاولات عزله عن دائرة الحضارة الإسلامية، ومؤكدين انتماءه الحضاري ودعمه القوي للقضية الفلسطينية.
حاول الشاه محمد رضا أن يغرق إيران بالبضائع الاستهلاكية المستوردة، وأن يغمر شبابه بالفساد والموبقات، ليعيش الشعب بمعزل عن قضاياه الكبرى، ولتتم صفقات الخيانة دون ردّ فعل شعبي، لكنه فشل بسبب قوة الانتماء الحضاري الإسلامي في الشعب الإيراني، مثلما فشل أبوه من قبله في أن يلغي الحرف العربي، ويفرض ارتداء القبعة الغربية، ويجرد المرأة عن لباسها التقليدي، وينزع العمامة، ويلغي الدراسات الدينية.
وقد بدأت روح الانتماء الحضاري هذه تتخذ، بعد انتفاضة الإمام الخميني في الستينات، صيغة مشروع عملي ونظري للعودة إلى دائرة الحضارة الإسلامية. وكان الإمام الخميني المنفي في مدينة النجف الأشرف بالعراق ينظّر لهذا المشروع، ويرسم الطريق أمام الشعب في حركته لمواجهة مخططات الشاه. ومع تصاعد عنف الساواك (جهاز أمن الشاه) واتساع نطاق تذويب الهويّة الإسلامية عن طريق الثقافة التشويهية للإسلام، لم يستطع نظام الشاه أن يقضي على روح الانتماء الحضاري للإيرانيين، وفشل في كل خططه حتى في تغيير التاريخ الهجري المعمول به في إيران إلى تاريخ شاهنشاهي يبدأ من تأسيس الإمبراطورية الأخمينية، واضطر إلى إعلان العودة إلى التاريخ الهجري.
والمحور الذي كان يؤكد عليه خطاب الإمام الخميني في كل نداءاته إلى الشعب الإيراني هو فضح مثلث: الشاه ـ أمريكة ـ إسرائيل، باعتباره أساس كل ما يعانيه الشعب الإيراني من إذلال ومن تبعية وفقدان هوية. ولذلك كانت الشعارات المرفوعة في أيام الثورة، هي المطالبة بالتحرر من نظام الشاه والاستقلال من التبعية لأمريكة وإسرائيل، ثم المطالبة بالجمهورية الإسلامية.
أهم أحداث الثورة
خلال 12 عاماً قضاها الإمام الخميني في منفاه بالنَّجف الأشرف (1966- 1978م) كان ينظّر ويوجّه لتحقيق مشروع العودة إلى الانتماء الحضاري. وانطلقت شرارة الثورة في 7 كانون الثاني 1978 حين خرجت مظاهرة عفوية سلمية في مدينة قم احتجاجاً على مقال يسيء إلى الإمام الخميني، فواجهت رصاص جيش الشاه وسقط عدد من الشهداء. وفي ذكرى (أربعينية) شهداء قم، أقام أهل مدينة تبريز مجلس تأبين لهم، فلقي المجتمعون في المجلس هجوماً عسكرياً سقط فيه عدد من الشهداء، وتوالت إقامة الأربعينيات، ثم تحولت إلى مسيرات عظيمة في كل المدن الإيرانية، والإمام يرسل النداءات تلو النداءات إلى الشعب الإيراني من النجف الأشرف يطالبه فيها بالاستمرار في انتفاضته. وفي خضم هذا التصعيد طلبت السلطات العراقية من الإمام الخميني أن يغادر العراق، فتوجّه إلى باريس ووصلها في تشرين الأول 1978، وهذا أدّى إلى تشديد انتفاضة الجماهير وانشدادها بأوامر الإمام. وأمام هذه الانتفاضة الشعبية العارمة حاول نظام الشاه أن يُغيِّر الوزارات إرضاءً للناس، ثم ظهر الشاه على شاشة التلفزيون (في 6 تشرين الثاني 1978) ليعتذر عن فساد سلطته ووعد بالإصلاح، ولكن ذلك لم يغيّر من الأمر شيئاً، واستمرت التظاهرات والإضرابات، برغم المجازر اليومية التي ارتكبتها قوات الشاه، ومن أعظمها مجزرة الجمعة السوداء 8 أيلول 1979، حيث استشهد الآلاف من المشاركين في مسيرة سلمية، وأكثرهم من النساء.
وبدأت المجموعات الأمريكية والإسرائيلية العاملة في إيران بالخروج منها، كما تزايد خروج أعضاء العائلة المالكة والمتورطين في المجازر والسرقات. وبعد أن اشتدت الأمور على الشاه خرج من إيران في 16 كانون الثاني 1979 بحجة المعالجة، فعمّت فرحة كبيرة في جميع أرجاء إيران.
ولم تستطع آخر حكومة عيّنها الشاه (حكومة بختيار) أن تسيطر على الموقف، فتوالت المسيرات صباح مساء، تتخللها بين الحين والآخر اشتباكات دامية هنا وهناك مع قوات الجيش والشرطة، والإمام يحث باستمرار على المواصلة والانضباط. حتى قرَّر الإمام الخميني أن يعود من باريس إلى طهران، فوصلها على طائرة خاصة مع مرافقيه يوم 1 كانون الأول 1979م، واستُقبل استقبالاً جماهيرياً تاريخياً منقطع النظير. وأعلن منذ اليوم الأول من وصوله عن قراره بتشكيل مجلس قيادة الثورة وحكومة مؤقتة، وتمّ ذلك عملياً، وانتُخب بازرجان لرئاسة هذه الحكومة في 3 كانون الأول. حاولت القوات العسكرية الموالية للشاه بدعم أمريكي أن تشنّ هجوماً لقصف مقرّ الإمام الخميني (في مدرسة ثانوية بطهران) والقضاء على الثورة بالبطش والقوة، لكنها فشلت أمام تدفّق الجماهير على الشوارع وإحاطتهم بمقرّ الإمام إحاطة السوار بالمعصم.
وظهر التصدّع على المؤسسة العسكرية، وبلغ التصدع حدّ الانهيار في 11 كانون الأول 1979، وبذلك سقط النظام الشاهنشاهي تماماً.
أهم خصائص الثورة وأهدافها
1- الشعبية: فقد شملت كل فئات الشعب الإيراني.
2- الرسالية: لم تكن مطاليب الثورة محدودة بإصلاحات محدودة في مجال الحكم أو الاقتصاد أو السياسة، بل كانت ثورة أطاحت بكل النظام القائم، وأقامت مكانه نظاماً مختلفاً يتبنى أهدافاً رسالية منبثقة من عمقه الحضاري في جميع المجالات.
3- السلمية: وهي ظاهرة لفتت أنظار كل المراقبين آنذاك، فرغم جماهيرية الثورة، ورغم ما واجهته المسيرات السلمية من هجوم عسكري شرس سقط فيه مئات القتلى، لكن الجماهير حافظت على انضباطها بصورة عامة، والتزمت بأوامر الإمام الخميني في نثر الزهور على الجيش مقابل إطلاق الرصاص.
4- سرعة إقامة دولة المؤسسات: ما إن سقط نظام الشاه حتى جدّت القيادة في إجراء استفتاءات وانتخابات شعبية متوالية لانتخاب نوع النظام، ومجلس خبراء الدستور وإقرار الدستور ومجلس الشورى وانتخاب رئيس الجمهورية، وبناء الدولة القائمة على أساس المؤسسات الشعبية والرسمية، في سرعة لا نظير لها في التحولات الثورية العالمية.
أمَّا أهداف الثورة فلخصتها الجماهير عبر مسيراتها بشعار: استقلال ـ حرية ـ الجمهورية الإسلامية. فالاستقلال يُعبِّر عن الرغبة في التحرر من السيطرة الأجنبية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، والحرية كانت المطالبة بها بدافع التخلص من الموانع التي تحول دون طموح الشعب في الانتماء الحضاري، وفي الالتزام بما يؤمن به في مختلف جوانب الحياة، والجمهورية الإسلامية تعبير عن الإرادة الشعبية في إقامة نظام يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الجذور الحضارية وواقع الحياة المتطورة.
وتبلورت هذه الإرادة في دستور الجمهورية الإسلامية الذي تمت المصادقة عليه في استفتاء في سنة 1979م، والذي يؤكِّد انتماء إيران الإسلامي وتضامنها مع الشعوب الإسلامية، والسعي لتحقيق وحدتها وأهمية تدريس اللغة العربية، بوصفها لغة القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية.
التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية
مع كل ما واجهته الثورة من تحديات داخلية وخارجية ضخمة منذ اللحظات الأولى لقيامها وبعد انتصارها وإقامة دولتها، فإنها حققت على كافة الأصعدة تحولات نوعية عميقة مؤثرة. في المجال السياسي، نجحت في تخليص إيران من دائرة النفوذ الأمريكي والصهيوني، كما أنَّها صارت من دول عدم الانحياز، ومن المهتمين بإقامة علاقات تعاون مع البلدان العربية والإسلامية، ومن المدافعين عن حقوق الشعوب المناضلة والمستضعفة في العالم.
وفي المجال الاجتماعي، عملت الثورة على إقامة نظام اجتماعي يصون حقوق المرأة ويفسح لها في المجال للمساهمة في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويحافظ على عزّة الإنسان وكرامته.
وفي الحقل الاقتصادي، سعت للقضاء على كل استغلال للإنسان، وإلى توزيع الثروة بشكل عادل، وإتاحة الفرص المتكافئة لجميع المواطنين، وتشجيع الطاقات الخلاقة للإبداع والابتكار.