Search - للبحث فى مقالات الموقع

Tuesday, March 22, 2011

الأدارسة



الأدارسة
( 173-375هـ/789-985م)
 
    أسرة حكمت المغرب الأقصى وحملت اسم مؤسسها إِدريس الأول, من ولد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب من زوجته المخزومية, ويُنعت بإِدريس الأصغر تمييزاً له من أخ له أكبر منه من أم مطلبيّة يحمل الاسم نفسه.
    قام أبناء عبد الله بن الحسن بثورات متعددة على العباسيين في المشرق, فقد ثار منهم على المنصور العباسي سنة 145هـ/762م: محمد ابن عبد الله في المدينة, وإِبراهيم في البصرة. وفي زمن الهادي العباسي شارك إِدريس بن عبد الله بالثورة التي قام بها ابن أخته الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وقد قتل الكثير من الطالبيين في الموقعة الفاصلة لهذه الثورة في «فخ» بجوار مكة عام 169هـ/786م, ونجا بعضهم بالاختلاط بالحجاج. ومن هؤلاء إِدريس بن عبد الله والمولى راشد اللذان اختلطا بحجاج مصر وسارا برفقتهم إِلى بلدهم. وكان على بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور المتشيع للطالبيين, فكتم أمر إِدريس عندما تعرّفه وساعده في الوصول إِلى برقة, حيث تولى مولاه راشد أمر تسييره من هناك ضمن قافلة تجار إِلى أن حلاّ بتلمسان ثمن طنجة, ثم «وَلِيلَى» التي نزلاها في غرة ربيع الأول 172هـ/19 آب 788م, واستضافهما فيها إِسحاق بن عبد الحميد الأوربي المعتزلي شيخ قبيلة أوربة. بقي أمر إِدريس طي الكتمان ستة شهور قضاها في تدبير أمر دعوته وجمع الأتباع لمواجهة الوالي العباسي المقيم في المدينة آنذاك, بدلالة ما ضربه من نقود في ذلك التاريخ. وعندما حانت الفرصة المناسبة عرض إِسحاق بن عبد الحميد ضيفه على وجوه قبيلته «أوربة» فبايعوه على الإِمارة والقيام بأمرهم وصلاتهم وغزوهم وأحكامهم وتبع ذلك بيعة القبائل الأخرى في وَليلى وما حولها.
    شرع إِدريس بعد ذلك في توسيع دائرة سلطانه فسار غازياً بين رمضان وآخر ذي الحجة من العام 172هـ/ أيار 788م باتجاه الغرب والجنوب انطلاقاً من قاعدته, فسيطر على مدينة شالة (مدينة قديمة تقع في ضواحي الرباط اليوم, حي المطار) وبلاد تامسنة (المنطقة الممتدة بين نهري بورقراق وأم الربيع). ثم انعطف شرقاًَ ليغزو بلاد تادلة (على وادي أم الربيع وعلى بعد 200 كم جنوب شرق الدار البيضاء اليوم).
    ويبدو أن ما استقر في سلطانه آنذاك لم يتجاوز مدينة شالة, في حين عادت السيطرة على تامسنة لبرغواطة المارقة ولعدة قرون بعد هذه الغزوة.
    وفي العام التالي 173هـ قام إِدريس بغزوة أخرى باتجاه الجنوب الشرقي أخضع فيها قبائل فندلاوة ومديونة وبهلولة وغياثة النازلة قرب موقع فاس من ناحية وليلى, وبلاد فازاز الواقعة إِلى الجنوب من ذلك الموقع. وفي السنة نفسها توجه إِدريس نحو الشمال من قاعدته وليلى فهاجم سبتة. أما غزو إِدريس باتجاه الشرق فتم على الأرجح في سنة 174هـ/790م. وكان منطلقه هذه المرة من قاعدة بناها عند مدخل ممر تازة بجوار موقع فاس, ونزل على تلمسان قاعدة المغرب الأوسط, حيث أقر أميرها محمد ابن خزر بن صولات المغراوي بالطاعة له, وتنسب المصادر بناء مسجد المدينة إِلى إِدريس بن عبد الله.
    توفي إِدريس الأول في نهاية ربيع الأول 177هـ/15 تموز 793م مسموماً بتدبير من الخليفة هارون الرشيد. وكان الرشيد يخشى من اتساع نفوذ إِدريس إِثر سيطرته على تلمسان باب إِفريقية, فاستعان بشخصية معروفة بولائها لآل البيت لدس السم له بإِجماع من أرّخو لهذا الحدث.
    توطد الدولة في عهد إِدريس الثاني
    توفي إِدريس الأول وليس له ولد إِلا ما كان من حمل جاريته البربرية كنزة في الشهر السابع. وقبل أتباعُه عَرْضَ مولاه راشد بالتريث ريثما تضع الجارية, فإِن كان الوليد ذكراً قدموه مكان أبيه تبركاً بآل البيت, كما قبلوا تكليف المولى تدبير شؤونهم ريثما ينجلي الوضع. وعندما جاء الوليد ذكراً كما كان مأمولاً أعطوه اسم أبيه, وتولى راشد تربيته, وعندما بلغ إِدريس الثاني الحادية عشرة من عمره قُتل المولى راشد على يد بعض خدمه من البرر بتدبير من إِبراهيم ابن الأغلب أمير إِفريقية للعباسيين, في أول ربيع الأول سنة 188هـ/16 شباط 804م, بعد أن أغراهم بمال وفير. فقام بتدبير شؤون إِدريس الثاني أبو خالد يزيد بن إِلياس العبدي وبويع إِدريس بالإِمارة.
    كان في مقدمة اهتمامات إِدريس الثاني مواجهة مساعي إِبراهيم بن الأغلب الرامية إِلى تدمير دولته, التي نجحت, إِضافة إِلى اغتيال المولى راشد, في تحويل ولاء بهلول بن عبد الواحد رئيس مدغرة, التي تنتشر منازلها في طرف الدولة الشرقي, من جانب إِدريس إِلى جانب العباسيين, وأدى ذلك إِلى استيحاش إِدريس الثاني من البربر. ولما وفد عليه بعد مدة وجيزة في سنة 189هـ/804م خمسمئة فارس عربي من إِفريقية والأندلس اعتز بهم وبدا له الاعتماد عليهم, وأضاف لذلك بناء حاضرة بديلة عن وليلى هي مدينة فاس على ضفتي الوادي الذي يحمل اسمها. لكن الأدلة التي قدمها ليفي بروفنسال في عام 1938م جعلت من والده شريكاً له في بناء المدينة, فقد أقام أبوه قبله على الضفة اليمنى للوادي قاعدة كانت ضرورية لعملياته في المغرب الأوسط, ويشرف موقعها على المنفذ الوحيد المؤدي إِلى تلك الناحية وهو ممر تازة. أما ما بناه إِدريس الثاني فالجزء الواقع على الضفة اليسرى للوادي مقابل القاعدة التي شيدها أبوه. وقد اختار الموقع عمير ابن مصعب الأزدي من العرب القادمين عليه, وجلهم من القيروان. وتمت عملية البناء عام 193هـ/809م, وأنزل إِدريس العرب بخطط (أحياء) خاصة بكل قبيلة, وكذلك فعل لبعض قبائل البربر ولجماعة من الفرس وردت عليه من العراق في ذلك الوقت, ومع ذلك طغى على الموقع الجديد اسم عدوة القرويين, نسبة للقيروان, موطن الجماعة العربية, وتمييزاً له من القسم المقابل الذي ازداد عمرانه بعد سنة 202هـ/818م عندما نزل به بعض أهل ربض قرطبة, الذين أجلوا عنها إِثر ثورتهم المعروفة. وما تلاها من تخريب الربض, ودعي الموقع بعدوة الأندلسيين.
    وفي أثناء عملية البناء تخلص إِدريس الثاني من إِسحاق الأوربي فقتله متهماً إِياه بالاتصال بابن الأغلب, وأعلى من شأن الوافدين في إِدارة شؤون دولته, فاتخذ من عمير بن مصعب وزيراً ومن عامر محمد بن سعيد القيسي قاضياً, وربما كان لتدابير إِدريس الثاني هذه أثر في جعل مستشاري ابن الأغلب ينصحونه بالكف عن أعماله العدائية حياله.
    وبعد زوال خطر الأغالبة تفرغ إِدريس الثاني لتوسيع حدود دولته في الجنوب على حساب المصامدة فانتزع منهم مدينة نفيس على الوادي الذي يحمل الاسم نفسه,ويرفد نهر تنسيفت, وكذلك مدينة أغمات الواقعة على مسيرة يوم من المدينة الأولى. ثم توجه عام 199هـ/814م نحو المغرب الأوسط فأخضع قبيلة نفزة (نفزاوة) واحتل تلمسان, وجعل حكمها لأسرته وخص بها ابن عمه محمد بن سليمان بن عبد الله, كما خاض الكثير من المعارك في المغرب الأقصى مع فئتين مارقتين عن الجماعة: وهما الخوارج وبرغواطة. وأدركه أجله ليلة 12 جمادى الآخرة سنة 213هـ/828م.
    تجزؤ السلطة في دولة الأدراسة
    توفي إِدريس عن اثني عشر ولداً, خلفه منهم ابنه الأكبر محمد الذي وزع حكم مملكة أبيه على الكبار من إِخوته. وبقي هو في العاصمة فاس, فأعطى أخاه القاسم حكم طنجة وملحقاتها بما فيها البصرة, أي القسم الغربي من منطقة المضيق, وأعطى أخاه عمر حكم بلاد صنهاجة وغُمارة في الريف, أي القسم الشرقي من المنطقة نفسها, وأعطى عيسى حكم أُزُمّور وشمال تامسنة حيث مدينة شالة, وأعطى حمزة حكم الأودية وبلاد وَليلى, وأعطى عبيد الله حكم بلاد الجنوب مع بلاد لمطة في أقصاه. وبقيت تلمسان إِقطاعاً لمحمد بن سليمان ابن عم والده. وبقي الأخوة الصغار تحت وصاية أخيهم الأكبر وجدتهم كنزة.
    تذكر روايات تلك الحقبة أن التقسيم جرى عملاً بنصيحة الجدة كنزة, ويبدو أنه جاء تلبية للمطامح المحلية القبلية التي تنزع نحو الاستقلالية, وهو أمر تعرفه كنزة بحكم الانتماء والبيئة. وقد تحولت السلطة بذلك من سلطة مركزية إِلى سلطة اتحاد أسري يقوم فيه الأخ الأكبر من الحاضرة بدور السيد الأعلى بين إخوته الذين يحكمون مناطقهم حكماً مباشراً, ويورثونها لأبنائهم. وسرعان ما أسفر الوضع عن انتفاض بعض الإِخوة على حكم أخيهم الأكبر من الجيل الأول, كما أسفر عن تفتت الدولة بحكم تجزئة منطقة كل حكم بين الوارثين في الأجيال التالية.
    وقد احتدم النزاع على حكم فاس الحاضرة الكبرى. فسرعان ما تمرد عيسى, صاحب أزمور وشمال تامسنة, على سيادة أخيه الأكبر. فطلب محمد من أخيه القاسم حاكم طنجة والمجاور للمتمرد من جهة الشمال تأديبه, ولما رفض القاسم القيام بهذه المهمة عهد محمد بها إِلى أخيه عمر حاكم الريف وأمده بألف فارس, ثم ولاه عمل أخيه المتمرد بعد أن أخضعه. وأتبع ذلك بتكليفه تأديب الأخ الآخر العاصي القاسم ابن إِدريس, فنجح عمر في مهمته هذه أيضاً وأوقع الهزيمة بالأخ العاصي في معركة بجوار طنجة واضطره إِلى الهرب إِلى مدينة أصيلة, حيث بنى لنفسه مسجداً بخارجها وأقام فيه متعبداً زاهداً, إِلى أن أعاده بعض أعوانه من البربر لحكم معاقل الداخل, وحاز أخوه عمر جل ممتلكاته, وأقام يحكمها حتى حان أجله في شوال عام 220هـ/835م. بعد وفاته وافق السيد الأعلى محمد بن إِدريس صاحب فاس على تقسيم المناطق التي حكمها أخوه عمر بين أبنائه, فأقام ابنه الأكبر علي في طنجة, وحكم أخوه عبيد الله بلاد غمارة, وأعطيت قلعة صدينه إِلى ثالث أبنائه محمد. وفي العام 221هـ/836م توفي الأمير محمد بن إِدريس صاحب فاس ورأس الأدارسة واستمر الاستقرار الذي ساد فاس في عهده إِلى منتصف القرن في ظل ولديه. فقد أوصى محمد بن إِدريس بأن يخلفه ابنه علي من زوجته رقية بنت إِسماعيل ابن عمير الأزدي, وله من العمر تسع سنين, فبايعه رؤساء القبائل وقاموا بأمر قبائلهم وكلاء عنه إِلى أن بلغ الحلم وتولى إِدارة شؤون دولته بكفاية, ولما توفي في رجب 234هـ/ كانون الثاني 849م تولى الحكم بعده وبعهد منه أخوه يحيى بن محمد. وفي عهد يحيى هذا الذي امتد حتى سنة 249هـ/863م, استبحر العمران في مدينة فاس وكثر سكانها وازدهرت تجارتها, لكن عهد ابنه وسميه يحيى كان فاتحة فتنة متطاولة أنهكت حكم الأدارسة. فقد كان يحيى الثاني أضعف من أن يسيطر على حكم فاس وتوابعها. فولّى أعمامه وأخواله ما حول فاس, وتبعتهم قبائلها تبعية كلية, في حين انهمك هو في حياة الخلاعة والمجون, فثار به الناس بفاس تحت قيادة عبد الرحمن بن أبي سهل الجذامي, واضطر يحيى إِلى الهرب من مقره في عدوة القرويين إِلى عدوة الأندلسيين حيث توفي سنة 252هـ/866م. ولكن زوجته عاتكة بنت علي بن عمر رفضت الفرار معه, واستدعت أباها صاحب طنجة, فقدم إِلى فاس ونال بيعة أهلها, ثم خُطب له على منابر المغرب كلها, وبهذا انتقلت السيادة العليا على أمراء الأدارسة إِلى فرع عمر بن إِدريس. إِلا أن ذلك لم يدم طويلاً, إِذ خرج عليه عبد الرزاق الفهري الخارجي الصُفري بجبال بويبلان على بعد يوم ونصف اليوم نحو 50كم إِلى الجنوب الشرقي من فاس واتبعه خلق من سكانها, وازداد قوة وجرأة بعد دخوله مدينة صفرو, وخاض عدة معارك مع علي بن عمر قَتَل فيها عدداً كبيراً من جنده وألجأه إِلى بلاد أوربة, ودخل الخارجي مدينة فاس فبايعته عدوة الأندلسيين, وامتنعت عليه عدوة القرويين التي استدعى أهلها يحيى ابن القاسم بن إِدريس المعروف بالعدّام فحماها, وطرد الخارجي من عدوة الأندلسيين, وولى عليها ثعلبة بن محارب من أسرة المهلب بن أبي صفرة الشهيرة. وقد بقي حكمها متوارثاً في أسرة بني صفرة أمداً, كما نشط يحيى العدام في مطاردة الخوارج وإِبعادهم عن حاضرته, لكنه لم يوفق في قتال أبناء عمه عمر, إِذ قتل في معركة خاضها مع ربيع بن سليمان قائد يحيى بن إِدريس بن عمر سنة 295هـ/907م. ودخل يحيى بن إِدريس فاس فخُطب له بها وفي سائر نواحي المغرب. وظل أميراً عليها إِلى عهد الفاطميين بعد ذلك التاريخ بعشر سنوات.
    الأدارسة بين الفاطميين والأمويين
    بينما كانت أملاك الأدارسة تزداد تجزؤاً وأمراؤهم يمعنون في التناحر مع قدوم القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي, زحف على المغرب الأقصى خطران كبيران: الفاطميون من الشرق, والأندلسيون الأمويون من الشمال.
    وتساقطت بين القوتين أملاك الأدارسة الواحد تلو الآخر, وتمكن بعض الأمراء الأدارسة من البقاء بعدد من معاقلهم بالمسالمة وتقديم الطاعة تارة وبالمقاومة حيناً آخر حتى نهاية الربع الثالث من ذلك القرن, إِلى أن زالت سيادتهم نهائياً عن المغرب الأقصى.
    وكانت بداية النهاية وصول جيش فاطمي يقوده مصالة بن حبوس المكناسي عام 305هـ/917م إِلى جهات فاس, انهزم أمامه يحيى بن إِدريس بن عمر ولجأ إِلى المدينة فحاصره بها مصالة حتى أعلن طاعته للخليفة الفاطمي كتابة, وتعهد بدفع إِتاوة له. بعدها غادر مصالة المغرب الأقصى تاركاً يحيى بن إِدريس بفاس وعملها فقط وعقد لابن عمه موسى بن أبي العافية كبير مكناسة على ما سوى ذلك من بلاد المغرب واندرجت دولة الأدارسة في ملك الفاطميين.
    ولما قدم مصالة بن حبوس إِلى المغرب في حملة ثانية سنة 309هـ/920م سعى موسى ابن أبي العافية عنده إِلى الإِيقاع بيحيى غيرة وحسداً, وأوغر صدره عليه. فلما قرب مصالة من فاس خرج يحيى للقائه فقبض عليه مصالة وقيده واستصفى أمواله ثم نفاه إِلى أصيلة, حيث يحكم بنو عمه القاسم بن إِدريس. غير أنه أنف من العيش على إِحسانهم فغادرهم قاصداً المهدية, فوقع في يد ابن أبي العافية الذي سجنه نحو عشرين عاماً ثم أطلقه ليموت في فقر وغربة بإِفريقية ( تونس) عام 332هـ/ 943م. أما فاس فاستعمل عليها مصالة حاكماً من قبيلته هو ريحان الكتامي فأقام فيها ثلاثة أشهر فقط 310هـ/922م. إِذ ثار عليه فيها الحسن بن محمد بن القاسم بن إِدريس الملقب بالحجام وقتله, وفاز ببيعة أهلها ثم وسع سلطانه وفرضه على قبائل البربر من لواتة وصفرونة ومديونة ومدائن مكناسة, بالإِضافة إِلى البصرة قاعدة الأدارسة في الشمال.
    ثم خاض معركة في فحص الزاد (على مقربة من وادي المطاحن بين فاس وتازة) مع موسى ابن أبي العافية سنة 311هـ وقد رجحت فيها كفة الحسن أول الأمر. وخسر خصمه ثلاثة أضعاف خسائره وكان ابنه منهل بن موسى في جملة القتلى, ومع ذلك, لم يستطع الحسن الحجام استثمار فوزه فكانت العاقبة عليه وانهزم جيشه, ولجأ حسن إِلى فاس منفرداً وجيشه خارجها فقبض عليه عامله عليها حامد بن حمدان الهمداني وقيده وأغلق أبواب المدينة في وجه عسكره, وأرسل دعوة إِلى موسى بن أبي العافية ليسلمه المدينة, ولما أراد موسى قتل الحسن الحجام لم يمكنه حامد بن حيان منه وأطلقه ودلاّه من السور فوقع وأدركه أجله بعد أيام قليلة.
    خلا المغرب لموسى بن أبي العافية منذ سنة 313هـ فبسط سلطانه على البلاد واستخلص من الأدارسة ما بقي لهم من معاقل على الساحل مثل شالة وأصيلة, وطاردهم فلجؤوا جميعاً سنة 317هـ/929م إِلى حصن لهم يعرف باسم حجر النسر, وهو معقل يقع في قلب أوعار جبلية يصعب اجتيازها, بناه محمد بن إِبراهيم ابن محمد بن القاسم بن إِدريس في أرض قبيلة سوماترا إِلى الشمال الشرقي من مدينة القصر الكبير, وحصرهم موسى هناك, لكنه عجز عن اقتحام الحصن, ولامه أصحابُه لمحاولة استئصال شأفتهم, فانصرف عنهم وترك على حصارهم ألف فارس بقيادة أبي الفتح التْسولي لتقييد حركة الأدارسة. وحول موسى اهتمامه للتمكين لنفسه في فاس وللتوسع في المغرب الأوسط حيث الأسرة الحسنية الثانية من نسل سليمان ابن عبد الله أخي إِدريس الأول. وتخلى في هذه المرحلة عن طاعة العبيديين الفاطميين فخطَب لعبد الرحمن الناصر, خليفة الأمويين في الأندلس, وكاتبه وكان قد اتصل به منذ عام 317هـ/929م. ردّ الفاطميون على خيانة ابن أبي العافية بتوجيه حملة جديدة إِلى المغرب الأقصى قادها حميد بن يصلتن سنة 320هـ/932م, ألحقت الهزيمة بموسى بن أبي العافية بفحص مسون في منطقة تازة واستعادت فاس, فانقض الأدارسة المحتجزون في حجر النسر على قوات ابن أبي العافية المحاصرة لهم فطردوها ونهبوا معسكرها. ثم انضموا إِلى الجيش الفاطمي الجديد الذي قاده ميسور الفتى عام 323هـ/934م واستعادوا بمعونته, وفي ظل الطاعة للفاطميين, أكثر ما كان لهم في المغرب الأقصى باستثناء فاس. وتزعم هؤلاء الأدارسة فرع أبناء محمد بن القاسم بن إِدريس الشقيقان إِبراهيم والقاسم الملقب بكنّون. وانفرد كنّون بالزعامة واتخذ من حجر النسر مقراً وقاعدة. وبذلك تميز هؤلاء من الفرع الإِدريسي الآخر من أبناء عمر بن إِدريس المقيم في جهات غمارة في الريف وسبتة, الذين وجدوا من مصلحتهم أن يخضعوا لأمويي الأندلس, بعد أن احتلوا سبتة وجعلوها قاعدة لهم, وقدموا الطاعة للأمويين في مقابل تعهد الأمويين لهم بالامتناع عن التدخل في شؤونهم الداخلية. واستمر فرع أبناء القاسم على عدائه للأمويين أمداً بسبب تضارب المصالح, وقد تجلى ذلك بوضوح في النزاع على أصيلة التي طلبت عون عبد الرحمن الناصر الأموي لمساعدتها على الأدارسة, فأمر واليه على سبتة بإِرسال قوة أموية لمساعدتها, لكن هذه القوة لم تفلح في منع الأدارسة من احتلالها سنة 326هـ/938م. واستمر هذا العداء طول حكم كنّون الذي توفي عام 337هـ/948م. وخلفه ابنه أبو العيش أحمد بن القاسم كنون الملقب بأحمد الفضل لأخلاقه وعلمه, وقد حوّل ولاءه إِلى خليفة الأندلسالقوي آنذاك, ويبدو أن الأمويين كانوا زاهدين في هذا الولاء بدليل عدم قبول طاعة أحمد الفضل مالم يتنازل لهم الأدارسة عن طنجة. ولما قبل هؤلاء بما طُلب منهم استهان الأمويون بهم إِلى حد تعيين أمير عليها من بني يفرن الزناتيين أعداء الأدارسة. وأدرك أبو العيش أحمد ضعف موقفه في هذه الدولة التي انكمشت واقتصر سلطانها على البصرة وأصيلة فتخلى عن عرشه سنة 343هـ وطلب من الناصر السماح له بالجواز إِلى الأندلس للجهاد, فأذن له وهيأ له سبل الإِكرام من لحظة نزوله أرض الأندلس حتى وصوله الثغر. وبقي أبو العيش مجاهداُ هناك حتى استشهد سنة 348هـ/959م. واستمر أخوه الحسن بن القاسم كنون الذي تولى الحكم بعده في طاعة الأمويين ما داموا أقوياء, وعندما ضعف سلطانهم مؤقتاً نتيجة لحملة فاطمية كاسحة قادها جوهر الصقلي عام 347هـ حوّل طاعته للفاطميين, وعندما انصرف جوهر عائداً إِلى المهدية سنة 349هـ رجع الحسن إِلى طاعة الأمويين وظل لائذاً بهم إِحدى عشرة سنة أخرى. وعندما قدم بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي إِلى المغرب الأقصى على رأس حملة جديدة ليثأر من زناته الذين قتلوا أباه 361هـ, كان الحسن بن كنون أول من سارع إِلى بيعته وخلع طاعة الأمويين, وقاتلهم واستعاد منهم طنجة. فلما انصرف بلكين إِلى إِفريقية( تونس) بعث الخليفة الحكم المستنصر قائده محمد بن القاسم في جيش كثيف وأسطول يقوده عبد الرحمن بن رماحس لقتال الحسن بن كنون, أواخر سنة 361هـ/971م. وقد أفلح الأسطوال في استرداد طنجة والاستيلاء على دُلُول وأصيلة, لكن التقدم في البرّ كان عسيراً, فاستطاع الحسن بن كنون هزيمة الجيش الأموي بفحص بني مصرخ في أحواز طنجة وقتل قائده في ربيع الأول 362هـ/كانون أول 972م, ولجأ من بقي من الجيش إِلى سبتة. فأرسل الحكم جيشاً آخر بقيادة مولاه غالب قائد الثغر الأعلى وحمّله بالأموال لشراء الأتباع, فاشتبك معه الحسن بن كنون في قصر مصمودة ودار القتال أياماً, واستمال غالب الناس بالأموال فانفضوا عن ابن كنون ولم يبق معه إِلا القليل من خاصته ورجاله فسار بهم إِلى حجر النسر معقل الأسرة وتحصن به, وطارده غالب وأقام على حصاره حتى أوائل المحرم سنة 363هـ, واشتد الحصار على الحسن فطلب الأمان على نفسه وأهله وأجيب إِلى طلبه وحمل مع سبعمئة من رجاله إِلى قرطبة في آخر رمضان سنة 363هـ/24 حزيران 974م, وأقام الحسن وأصحابه نحو عام في أحسن حال, ثم صودرت أمواله وأخرج من الأندلس فتوجه إِلى إِفريقية ومنها إِلى مصر حيث نزل ضيفاً على الخليفة الفاطمي نزار بن معد فأكرم وفادته ووعده بالمساعدة على الثأر. ولم يتم الوفاء بالوعد إِلا في عام 373هـ/984م عندما كتب الإِمام الفاطمي للحسن بن كنون بعهده على المغرب الأقصى وأمر عامله على إِفريقية بأن يمده بالجند, فأمده هذا الأخير بثلاثة آلاف فارس دخل بهم المغرب، وانضمت إليه قبائل عدّة. واضطر المنصور العامري حاجب الخليفة الأموي الأندلسي هشام المؤيد إلى توجيه جيش لمواجهة حملة الحسن بن كنون الإدريسي وأمّر عليه ابن عمه عمر بن عبد الله بن أبي عامر، وأتبعه بقوة أخرى يقودها ابنه عبد الملك المظفر. أحاطت القوتان بالحسن بن كنون خارج سبته فاستسلم مقابل الأمان وأن يعود لحاله الأولى في قرطبة، لكن المنصور لم يمض أمان ابن عمه وأرسل إلى الحسن من قتله في الطريق، وانتهى بموته سلطان الأدارسة في المغرب الأقصى، إلا ما كان من ظهور الحموديين[ر] من نسل عمر بنإدريس الذين أقاموا دولة من دول الطوائف في الأندلس عاشت النصف الأول من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر للميلاد، وامتدت سيطرتها من جنوب الأندلس إلى سبتة.
    المنجزات الحضارية للأدارسة
    على الرغم من الاضطراب الداخلي والغزو الخارجي فقد تحقق للمغرب الأقصى في ظل الأدارسة تقدم حضاري ملموس. ففي المجال الاقتصادي استخرج الذهب والفضة من منطقة تامدلت في الجنوب، ويظهر أن الأدارسة استعملوا الفضة لضرب دراهم عثر على بقايا منها مضروبة في أكثر من عشرين موضعاً. كما دخل المغرب واحد من أكثر نباتات الشرق أهمية صناعية وهو القطن، وإن تمركز زراعته في البصرة قاعدة الأدارسة وما حولها مثقل كرت وماسيتة يدل على فضلهم في إدخال زراعته.
    وقد مكنت الموارد الاقتصادية الأدارسة من تنفيذ مشاريع عمرانية كبيرة تحقيقاً لأغراضهم السياسية والعسكرية. فأقاموا مدناً كثيرة، شأنهم في ذلك شأن أبناء عمهم سليمان بن عبد الله في المغرب الأوسط. ويذكر ابن حوقل من تلك المدن غير فاس، مدينة زُلُول أو ذُلول إلى الشرق من أصيلة التي أسسها الحسن بن كنون، ومدينة الأقلام التي استحدثها يحيى ابن إدريس على بعد أقل من مرحلة من البصرة، إضافة إلى حصن حجر النسر الشهير. كما بنوا بجانب طنجة القديمة مدينة حديثة على ظهر جبل يبعد ميلاً عنها بعد أن احتل الأمويون سبتة، كما حصّنواتلمسان وجددوا بناء جامعها، وكان من الطبيعي أن يعنى الأدارسة ببناء المساجد في كل المدن القديمة منها كتلمسان، والجديدة كفاس، وينسب إليهم بناء مسجد الشرفاء.
    وقد ظهرت في هذه المدينة التي استبحر فيها العمران طبقة من الموسرين سلكوا مسلك الأمراء في هذا المضمار. ومنهم مريم بنت محمد الفهري التي أقامت مسجد الأندلسيين، كما شرعت أختها أم البنين فاطمة في أول رمضان 245هـ/1 كانون أول 859م ببناء مسجد القرويين الذي حاز شهرة واسعة مع الزمن، وغدا جامعة وأكبر مركز للعلوم الإسلامية والأدبية والتاريخية في المغرب، يفد الطلبة إليه من أقطار شمال إفريقية وإسبانية والسودان. وإليه يرجع الفضل في حمل مشعل الثقافة والعلوم في تلك المنطقة طول أحد عشر قرناً. كذلك اهتم أمراء الأدارسة ببناء الحمامات والفنادق وشق الطرق. وعلى الصعيد الثقافي خطا الأدارسة خطوات واسعة في نشر الثقافة العربية الإسلامية في المغرب.
    أدارسة المغرب
(1)   إدريس الأول بن عبد الله 172-177هـ/788-793م.
(2)   إدريس الثاني بن إدريس الأول 177-213هـ/793-828م.
(3)    محمد بن إدريس الثاني 213-221هـ/828-836م.
(4)    علي الأول بن محمد 221-234هـ/836-849م.
(5)    يحيى الأول بن محمد 234-؟هـ/948-؟م.
(6)   يحيى الثاني بن يحيى الأول.
(7)    علي الثاني بن عمر بن إدريس.
(8)    يحيى الثالث بن القاسم.
(9)   يحيى الرابع بن إدريس بن عمر 292-310هـ/904-922م.
(10) الحسن الحجام بن محمد 310-313هـ/922-925م اغتصب السلطة في فاس موسى بن أبي العافية 313هـ/925م.
(11)    القاسم كنون؟ -337هـ/؟-948م.
(12)   أبو العيش أحمد 337-343هـ/948-954م.
(13)  الحسن بن كنون 343-364هـ/954-974م.