الإحصاء Statistics هو مجموعة الطرائق التي تهدف إلى تجميع معطيات رقمية تخص ظاهرة أو ظواهر تتعلق بمجموعة أفراد من مجتمع ما، وتحليل هذه المعطيات وتفسيرها واستخدامها في تفهم حقيقة الظواهر وفي معرفة القوانين التي تخضع لها. وتستعمل عبارة الإحصاء أيضاً للدلالة على ما يقدَّم وفق جداول أو بيانات من معلومات رقمية أو وصفية تخص الدولة أو إحدى مؤسساتها أو تتعلق بمشروع ما بغية دراستها واتخاذ القرار الأمثل استناداً إلى تلك المعطيات مع تقدير كمي للمخاطرة.
والإحصاء، بمعنى العدّ والحصر، فكرة قديمة يرجع منشؤها إلى عهد بعيد في تاريخ المدنية الإنسانية، فالحاجة إلى الحصول على معلومات رقمية أو وصفية عن المجتمعات وظروفها المادية وشروط وجودها كانت حاجة ملحّة منذ أن وجدت المجتمعات البشرية المنظمة، وهنالك إحصاءات عند قدماء المصريين والصينيين والإغريق تخص مجتمعاتهم من حيث عدد السكان ومقدار الثروة الزراعية والمعدنية جُمعت للاهتداء بها في تصريف أمور الدولة ورسم سياستها.
ولقد كان العرب المسلمون من أوائل من استعان بلغة الأرقام في إحصاء مواردهم وحصر غنائمهم وجندهم وأعطياتهم وأسلحتهم، ومعرفة الثروات لتحصيل الزكاة عنها. وكان لهم في الإحصاء اللغوي الباع الأطول فالكندي المتوفى سنة 260هـ، يصف في مؤلَّفه «رسالة في استخراج المعمَّى» عملية إحصاء تواتر الحروف في لغة ما، وذلك بأخذ عينة كافية من الكلام المنثور في تلك اللغة، وقد أحصى نصاً مؤلفاً من 3667 حرفاً ثم استعمل تلك النتائج بعد ترتيبها في استنباط نص معمَّى وينبه فيها على أمرٍ ذي بال، وهو أن النص المعمَّى ينبغي أن يكون ذا طول كافٍ يسمح بانطباق القواعد الإحصائية عليه، وهي فكرة رياضية على غاية من الأهمية، هي فكرة قانون الأعداد الكبيرة.
ولعل الكندي هو أول من أجرى ذلك الإحصاء في تاريخ الدراسات الكمية على اللغة، ولا شك في أنه أفاد من إحصائيات حروف القرآن الكريم التي سبقت عصره (وهي تعود إلى القرن الهجري الأول، وينسب بعضها إلى صدر الإسلام).
كما كان للعرب في الإحصاء الاجتماعي أيضاً أثرٌ يجدر ذكره، وهو أن المفكر العربي ابن خلدون ربما كان أول من عالج قضايا السكان معالجة علمية، فبحث في عمران الدول واتساعها وتأخرها، وربط كل ذلك بنمو عدد السكان ونقصانهم.
وقد عَرف القرن السابع عشر الميلادي مدرستين للإحصاء، أولاهما المدرسة الألمانية الوصفية، وكان على رأسها هـ. كُنْرِنْغ H. Conring (1606-1681) الذي بدأ بتدريس علم جديد سماه علم شؤون الحكومات Staatkunde يتناول دراسة الدولة وما يتعلق بها من أمور كثيرة كالأرض والسكان والثروة وغيرها، وكان ذلك في عام 1660، ولقد كان هذا العلم وصفياً لا يُعنى بالتعبير الرقمي كثيراً، وقد تبع كنْرنغ في هذا العلم غ. آخِنْوول G. Achenwall (1719-1773)، وأطلق على هذا العلم تسمية جديدة هي الإحصاء Statistic، وهذه التسمية هي التي انتقلت من الألمانية إلى كثير من اللغات الأخرى. وقد نشر آخِنْوول عام 1749 كتاباً حول مبادئ الإحصاء في الدول الأوربية.
وكان على رأس المدرسة الثانية التي عرفت باسم «مدرسةِ الَحسَبة السياسيين الإنكليزية» ج. غرونت J. Grount (1640-1674) الذي نشر سنة 1666 كتاباً درس فيه سجلات نفوس لندن وحسَب منها نسب الوفيات، ثم، و. بيتي W. Petty (1623-1687) الذي ألف عام 1683 كتاباً استخدم فيه الطرائق الكمية وسماه «الحساب السياسي»، ومن هذا الاسم أخذت المدرسة الثانية اسمها.
وفي بداية القرن التاسع عشر الميلادي دخل الإحصاء مرحلة من مراحل تطوره على يد لابلاس Laplace[ر] (1749-1827) الذي يجب أن يوضع في مقدمة أولئك الذين جعلوا من حساب الاحتمالات الأداة الأساسية لدراسة التحليل الإحصائي، وقد أوضح في كتابه «النظرية التحليلية للاحتمالات» عام 1812 الفوائد والميزات التي يمكن أن تستخلص من دراسة الظواهر الطبيعية التي أسبابها معقدة جداً إلى حد لا يمكن معه معرفتها جميعاً. ثم وسّع أ. كيتِلي A. Quetelet (1796-1874) حقل تطبيقات الإحصاء مسترشداً بأعمال لابلاس، فدرس الصفات الفيزيائية والفكرية والنفسية للكائنات البشرية، وأوجد بذلك نوعاً من «الفيزياء الاجتماعية» تتوزع وفقها هذه الصفات المتنوعة للجماهير على كائن اعتباري هو «الرجل الوسط». وبناءً على مبادرة كيتلي انعقد في بروكسل عام 1853 المؤتمر الدولي الأول للإحصاء الذي بشر «بالمعهد الدولي للإحصاء» الذي أسس في لندن عام 1885.
وقد توسعت منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا طرائق التحليل الإحصائي فوصلت إلى كل مجالات التحريات والدراسات العلمية، وأدت المسائل العلمية الحديثة المدروسة وفق هذا الأسلوب إلى تطوير سريع وكبير للنظرية الإحصائية.
فبعد أعمال كيتلي والسير ف. غالتون F. Galton (1822-1911) أنشأ ك. بيرسون K. Pearson (1857-1936) فرعاً جديداً للإحصاء يحمل اسم الإحصاء الحيوي«Biostatistics» الذي امتد حالياً إلى ميادين الاختبارات المتعلقة بعلم المداواة والطب العلاجي.
كذلك فقد توطدت الصلة بين الإحصاء والاقتصاد بابتداع فرع علمي جديد هو الاقتصاد القياسي Econometrics[ر] ويدعوه بعضهم الإحصاء الاقتصادي وكان رواده الأوائل أ.أ. كورنو[ر] A.A. Cournot (1801-1877)، وف. باريتو[ر] V. Pareto (1848-1929)، و ل. فالراس[ر] L. Walras (1834-1910)، وف. ديفيزيا F. Divisia (1889-1963)، و ر.فريش R. Frish (1895-1973) الحائز جائزة نوبل عام 1969 في الاقتصاد السياسي وقد أسس مع ديفيزيا الجمعية الدولية للاقتصاد القياسي.
أما أعمال ج.ك. ماكسويل[ر] J. C Maxwell (1831-1879) التي أوصلت إلى النظرية الحركية للغازات فقد كانت نقطة البدء للميكانيك الإحصائي وللفيزياء النووية.
وقد امتدت استخدامات الإحصاء إلى الزراعة على يد ر.أ. فيشر (1890-1962) وإلى الصناعة على يد و. شيوهارت W.Shewhart (1891-1967) بدراسة المراقبة الإحصائية للجودة والوثوق، أما في ميادين العلوم الإنسانية فإن دراسة إ. سبيرمان E. Spearman (1863-1945) حول سلوك الأفراد، التي طِّورت بعد ذلك في علم النفس التطبيقي فقد أدت إلى وجود طرائق التحليل العاملي Factor Analysis الذي هو امتداد منطقي لدراسة الارتباط[ر] Correlation. وفي إدارة الأعمال والمشاريع غدت الطرائق الإحصائية عاملاً مساعداً لابدّ منه في دراسة حالة السوق ومراقبة الميزانية وإدارة المخزون الاحتياطي، وهي إضافة إلى نظرية الألعاب[ر] game theory، ونظرية القرار decision theory وإلى الطرائق الحديثة في الحساب قد مهدّت لولادة بحوث العمليات operations research.
إن أعمال فيشر وإ.بيرسون E. Pearson (1895-) وج.نيمان J. Neyman (1894-1981) حول نظرية الاختبارات test theory ونظرية التقدير estimation theory التي تمخضت عن البحوث التجريبية المتعلقة بتطبيق طرائق السبر، جعلت من الطرائق الإحصائية أداة قوية وفعالة في البحث العلمي والتقني ومازال حقل استخدامها في نمو مستمر.
الإحصاءات في الفيزياء
يتبنى الفيزيائي وجهة نظر إحصائية كلما دعا الأمر إلى شرح نظام جهري (عياني) macroscopic انطلاقاً من مكوناتها المجهرية الكثيرة جداً. وقد أُدخلت وجهة النظر الإحصائية تاريخياً في منتصف القرن التاسع عشر وذلك مع تطور النظرية الحركية للغازات حيث فُسِّرت القوة الضاغطة التي يؤثر بها غاز في حاجز بالصدمات التي يتلقاها من جزيئات هذا الغاز، غير أن العدد الكبير من الجزيئات الذي يحتويه لتر واحد من الغاز مثلاً، يجعل حساب الصدم الناتج عن كل جزيء على حدة أمراً لا يمكن إجراؤه. لذلك تم اللجوء إلى حساب الصدم بدلالة سرعة الجزيء ومن ثمّ دراسة التوزع الإحصائي لقيم السرعة المختلفة بين جزيئات الغاز.
ويمكن حساب هذا التوزع الإحصائي نظرياً بدءاً من فرضيات بسيطة بظواهر المصادفة وبتطبيق قوانين حساب الاحتمالات. غير أن هذا يتطلب اللجوء إلى المحاكمات الحاذقة والحسابات الدقيقة للترموديناميك الإحصائي للاستفادة من هذه الفرضيات البسيطة التي توجهها الفكرة التالية: يمكن تغيير المعطيات المميِّزة لكل مكوِّن ذري في نظام (مثل وضع كل ذرة، وسرعتها، وجهتها...) من دون أن تتغير نتيجةً لذلك الحالة الإجمالية الجهرية للنظام، ويرى بسهولة أن عدداً كبيراً من الحالات المجهرية المختلفة توافق الحالة الجهرية نفسها، وتسمح الفرضيات الموضوعة بتعداد كل هذه الحالات لنظام ما، هي الحالة الأكثر احتمالاً، أي الحالة التي توافق عدداً أعظمياً من الحالات المجهرية الممكنة.
إن هذه المحاكمات هي التي قادت إلى قانون بُلتزمان Boltzmann الإحصائي التقليدي: إن أهم المعطيات التي تميز الحالة المجهرية للجسيمات الذرية طاقتها (طا)، غير أن ثمة معطيات أخرى تسمح بتمييز حالات مجهرية مختلفة لها كلها الطاقة نفسها. لتكن ع1 عدد الحالات المجهرية الممكنة لجسيم ما، مميز بقيمة للطاقة طا1، ولتكن ع2 عدد الحالات المجهرية الموافقة للطاقة طا2،.. (هذا ويقال أيضاً إن ع1، ع2،.... هي الأوزان الإحصائية لسويات الطاقة طا1، طا2،...). وحين يكون نظام فيزيائي مكوّنٌ من جسيمات متماثلة، في حالة توازن حراري في درجة الحرارة المطلقة (د) فإن هذه الجسيمات تتوزع بين قيم الطاقة الممكنة طا1، طا2، طا3،... بحسب الأعداد ن1، ن2، ن3..... بحيث تخضع لعلاقة بُلتزمان:
حيث ك هو ثابت بُلتزمان ((k الذي تأكدت قيمته بعدد كبير من التجارب المستقلة ويساوي
1.381×10-23 جول/ درجة سلزيوس
وe # | 2.71828 أساس اللغرتم الطبيعي. |
ويتضح من هذا القانون أن عدد الذرات يكبر كلما انخفضت الطاقة. إن هذا القانون عام في الفيزياء. فحالات الطاقات الصغرى هي الأكثر ثباتاً، وإذا كان الفرق طا2 - طا1 صغيراً جداً بالنسبة إلى الطاقة الحرارية ك × د كان العددان ن1، ن2 قريبين جداً أحدهما من الآخر (يقال إن سويتي الطاقة طا1 وطا2 مأهولتان بالتساوي تقريباً، أو إن عددي المقيمين فيهما وهما ن1، ن2 متساويان تقريباً)، ونقيض ذلك إذا كان الفرق طا2 - طا1 كبيراً جداً بالنسبة إلى ك×د فإن ن2 عدد المقيمين في سوية الطاقة المرتفعة طا2 يكاد يكون معدوماً. ويستخدم الفيزيائيون غالباً درجات الحرارة المنخفضة للحصول على فرق ملحوظ في عدد المقيمين، من بين حالات تكون في الدرجة العادية مأهولة بالتساوي تقريباً. (يمكن باستخدام الهليوم السائل تحت ضغط منخفض، أن تهبط درجة الحرارة إلى أقل من درجتين مطلقتين، أما بإزالة التمغنط الكظوم adiabatic، فيمكن أن تصل درجة الحرارة إلى جزء من مئة من الدرجة المطلقة).
ولا يطبق إحصاء بلتزمان التقليدي إلا في الحالة التي يكون فيها عدد المقيمين ن1، ن2، أصغر بكثير من الأوزان الإحصائية ع1، ع2،... أما في الحالة المعاكسة فيجب تعديل حسابات بلتزمان ليُستخدم، بحسب نموذج الجسيم، أحد قانوني الإحصاء الكمومي quantum statistics.
إن الإحصاء الكمومي لـ بوز - أينشتيْن Boso- Einstein ينطبق على الجسيمات التي يمكن أن توجد في آن واحد بأية أعداد كيفما كانت حالتها الكمومية، وتسمى هذه الجسيمات لهذا السبب بوزونات Bosons. وتتوزع في حالة التوازن الحراري في الدرجة المطلقة «د» بين سويات الطاقة طا1، طا2،.. بحسب عدد المقيمين ن1، ن2،... بحيث تتحقق العلاقة:
حيث يتعلق الثابت أ بعينات الجسيمات المدروسة. وينطبق هذا الإحصاء بصورة خاصة على الفوتونات ويسمح بحساب الطاقة الضوئية المشعة في ظاهرة الإصدار الحراري (قانون بلانك Planck). كما ينطبق أيضاً على ذرات الهليوم (4) ويسمح بتفسير الصفات الخاصة جداً لهذا المائع في درجات الحرارة المنخفضة جداً. وينطبق إحصاء الكم لـ فرمي - ديراكFermi - Dirac على الجسيمات التي لا يمكن أن توجد في الحالة الكمومية نفسها في آن واحد، وتسمى هذه الجسيمات لهذا السبب باسم فرميونات fermions. وتتوزع في حالة توازن حراري في الدرجة المطلقة د بين سويات الطاقة بحسب عدد المقيمين بحيث تتحقق العلاقة:
وينطبق هذا الإحصاء على الإلكترونات خاصة، ويسمح بتفسير سلوك الإلكترونات الحرة في المعادن، والتي تتعلق بها الناقلية الكهربائية والناقلية الحرارية، كما يفسِّر أيضاً خواص أنصاف النواقل.
والخلاصة: يسمح قانونا الإحصاء الكموميان بتفسير ظواهر متعددة لا يمكن تفسيرها في الإحصاء التقليدي، ومن الممكن البرهان على أن النتائج التي يتم الحصول عليها تكون هي نفسها بتطبيق إحصاء بلتزمان وذلك في الحالة التي يكون فيها عدد المقيمين ن ضعيفاً جداً بالنسبة إلى الوزن الإحصائي ع