Search - للبحث فى مقالات الموقع

Saturday, February 19, 2011

التصوف mystiticism


التصوف
 
التصوف mystiticism، عامة: نشاط معرفي وسلوكي، يتخذه الإنسان لتحقيق كماله الأخلاقي، والاتصال بمبدأ أسمى، وعرفانه بالحقيقة، وتحقيق سعادته الروحية. والتصوف مشترك بين ديانات وفلسفات وحضارات متباينة في عصور مختلفة. والتجربة الصوفية واحدة في جوهرها، ولكنها مختلفة في أساس تفسيرها المتأثر بالحضارة التي ينتمي إليها كل صوفي.
والتصوف نوعان: ديني وفلسفي، فالديني ظاهرة مشتركة بين الأديان جميعاً، سواء في ذلك الأديان السماوية (اليهودي والمسيحي والإسلامي) أم الأديان غير السماوية أو الشرقية القديمة الكونفوشية والبراهمانية والأورفية والفيثاغورية والهندوسية والبوذية والطاوية وبوذية زن (بوذيةالتأمل في التصوف الصيني والياباني). والتصوف الفلسفي قديم كذلك، عرف في الشرق، وفي التراث الفلسفي اليوناني (هيراقليطس وأفلاطون وبارميندس وأفلوطين)، وفي أوربة في عصريها الوسيط (أوف كليرفو وإيكهارت وتولر)، والحديث (بوهمه وسويدنبرغ)، ولم يخل العصر الحاضر من فلاسفة أوربيين ذوي نزعة صوفية مثل برادلي في إنكلترة وبرغسون في فرنسة. كما تطور التصوف ليشمل جميع الفلسفات المثالية المعاصرة، خاصة الشخصانية الأمريكية (باون)، وبعض أشكال الوجودية المؤمنة (غريغارد و مارسيل وياسبرز)، والفلسفة الدينية التصوفية على أيدي أصحاب النزعة السلافية سولوفييف ومريديه (برديائيف وتروبتسكوي).
وكان التصوف الديني يمتزج أحياناً بالفلسفة، كما هي الحال عند بعض صوفية المسيحية والإسلام. وكذلك كان يحدث امتزاج بين النزعة العقلية والنزعة الصوفية، كما لاحظ رسل في بحثه «التصوف والمنطق».
وتتفق أنواع التصوف في مختلف الثقافات والأديان والعصور والأمكنة بخصائص واحدة، هي الترقي الأخلاقي، ومفهوم الفناء في الحقيقة المطلقة، ومنهج المعرفة أي الكشف أو الذوق: الحدس الصوفي، الطمأنينة والسعادة، والرمزية في التعبيرعن الحقائق.
يرى «وليم جيمس» مثلاً أن التغلب على جميع الحواجز بين الفرد والمطلق هو الإنجاز الصوفي العظيم، ونحن نصبح في «المقامات الصوفية» واحداً مع المطلق ونكون على وعي بهذه الواحدية، وهذا هو التراث الدائم الذي لا تغيره اختلافات الظروف والعقائد، وهذه الفكرة موجودة في التصوف الإسلامي والمسيحي والأفلوطينية والهندوسية، والبوذية القائمة على تجربة «الاستنارة» عند بوذا.
إن الوعي الصوفي  في الحالات الصوفية  يسير متزامناً مع الوعي العادي وينصهر فيه، وهذه الحالة معروفة في التراث المسيحي بـ«التألّه» ويشار إليها باسم «الزواج الروحي» أو «الحياة الموحدة»، وهي الحالة التي بلغتها «القديسة تيريزا» و«روزبروك» وآخرون، كما يذكر التراث البوذي أن بوذا وصل إلى الوعي المستنير الدائم، إلى «النيرفانا» (الانطفاء)، لأنها الحالة الأخيرة للوعي الصوفي الدائم، والقيمة العليا للحياة الصوفية، وهي كذلك «الوحدة المطلقة» التي يسميها أفلوطين «الواحد».
ويؤوّل المتصوف المسيحي «إيكهارت»، التجربة الصوفية ذاتها على أنها الوحدة التي لا تمايز فيها للألوهية، قبل أن تمايز نفسها في ثلاثة أشخاص في الثالوث. والمتصوف البوذي يؤول تجربته بألفاظ غير لاهوتية.
ليس في التجربة الصوفية كثرة ولا تمايز، إن ما يدركه ويؤوله صاحب التجربة هو الواحد أو الذات الكلية أو المطلق أو الله. ومعنى هذا أن الذات الفردية تفقد فرديتها وهويتها وتندمج في الواحد أو المطلق أو الله، حيث يندمج صاحب التجربة في الوجود الأعلى ويصير واحداً معه. يقول «إيكهارت»: «تغوص الروح وتضيع في هذه الصحراء وتفقد هويتها»، ويقول روزبروك: «ذلك الصمت المظلم الذي يفقد فيه المحبّون اللامتناهي؟» ويقول أفلوطين:»أنت تسأل كيف يمكن لنا أن نعرف اللامتناهي؟ وأنا أجيبك، إننا لا نعرفه عن طريق العقل، لأن وظيفة العقل التمييز والتحديد، ولا يمكن أن يكون اللامتناهي على مرتبة واحدة مع موضوعاته، إنك لا يمكن لك إدراك اللامتناهي إلا بالدخول في حالة لا تعود فيها موجوداً أنت ولا ذاتك المتناهية، وهذا يعني تحرر ذهنك من الوعي المتناهي، وعندما تتوقف عن أن تكون متناهياً، فإنك تصير واحداً مع اللامتناهي».
ويبدو النزوع الصوفي لوحدة الوجود pantheism واضحاً في الديانة اليهودية، على تغليفه بما يسميه متصوفة الإسلام «الفناء». يقول صموئيل أبو ليفا (1240-1291)، اليهودي المتصوف (القبالة): «جميع القوى الباطنية والأرواح المختبئة في الإنسان تتوزع وتتمايز في الأجسام، غير أنّها مع ذلك بطبيعتها عندما تعود ارتباطاتها، فإنها تعود إلى مصدرها الأصلي الذي هو واحد بلا ثنائية والذي يؤلف الكثرة«. ويشرح «شوليم» ذلك فيقول: «الارتباطات غير المحكمة للأرواح تعني تحررها من قيود التناهي حتى تعود إلى مصدرها الأصلي الذي هو الواحد اللامتناهي». ثم يضيف: «إن المجاز عند هذا المتصوف يعني أن هناك حواجز معينة تفصل الوجود الشخصي للروح عن مجرى الحياة الكونية، إن الذي يعوق الروح في شخصيتها المتناهية، هو الأشكال الحسية والصور التي ينتجها الوعي المتناهي وهي التي تختفي في التجربة الصوفية».
والتصوف البوذي كما يشرحه المفكر الياباني د.ت.سوزوكي هو: «القوقعة الفردية التي توجد فيها شخصيتي مغلقة بإحكام، وهي تنفجر في لحظة الساتوري (الاستنارة) وليس ثمة ضرورة لاتحادي مع وجود أعظم من ذاتي أو أن أمتص بداخله، لكن فرديتي التي وجدتها تتماسك بصلابة، وتنفصل على نحو قاطع عن جميع الموجودات الأخرى، هذه الفردية ذابت وتلاشت في شيء لا يمكن وصفه بأنه شيء له نظام مختلف أتم الاختلاف عن النظام الذي كنت معتاداً عليه».
ومن المؤكد وجود تجربة الفناء في المدونات الهندوسية القديمة، في الأوبنشاد والجيتا: «كما تذوب قطعة الملح التي تلقى في الماء، فكذلك أيضاً الروح الفردية، آه إياماتريا، (ماتريا = بوذا المستقبل) تذوب وتفنى في الوعي الخالص الأزلي، اللامتناهي والمتعالي. إن الفردية تنشأ عن توحيد الذات ـ عن طريق الجهل ـ مع العناصر، وعند اختفاء الوعي بالكثرة أثناء الإشراق الإلهي تختفي«. تجربة الفناء الصوفية وتحطيم حواجز الذات المتناهية والاندماج مع اللامتناهي أمر ينطبق على المتصوفة ابتداءً من مؤلفي الأوبنشاد حتى إيكهارت، ومن متصوفة بوذية زن حتى الحسدية اليهودية ممن كانت لهم هذه التجربة ووصفوها، وكذلك من المحدثين أمثال: ألفرد تنيسون (1809-1892) وأرثر كوستلر (1905-1983).
التصوف الإسلامي
التصوف الإسلامي أخلاقيات مستمدة من الإسلام، إنه كما يصفه ابن القيم في «مدارج السالكين»: «التصوف هو الخُلُق». وهو النظرية الباطنة في الإسلام، والسر الذي تضمنه القرآن الكريم. إنه فكر وجداني، فكر محبة وعشق، وهو مسعى إنساني يتوخى تجاوز حال البشر الفانين بالانطلاق من الذات نشداناً لبقاء يمحق الفناء، وبه يعود الجزئي إلى الكلي، وتمحى الفردية الفانية في نعيم الغبطة العظمى، فلا تبقى ذات الفرد في الذات، وإنما تبقى الوحدة الكونية الأحدية الصمدية، الوحدة التي لايعدلها سواها، ولايواكبها غيرها، فتكون بالوجود وجداً، وبالاتصال والوصال ذوباً.
بدأ التصوف تخلياً فتحلياً قبل أن يغدو تجلياً، بدأ تحنثاً وزهداً، وتعبداً ونسكاً قبل أن يُطلق لقب الصوفي على أي إنسان. ذلك أن المسلمين بعد رسول اللهe لم يتسم أفاضلهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله، إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم الصحابة. وتبعهم التابعون فتابعوهم حتى اختلف الناس، وتباينت المراتب، فقيل لمن لهم شدة عناية بأمر الدين الزهاد والعباد، وانفرد أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم «التصوف» (القشيري).
 أكثر الزهاد والعباد من ذكر الله والتفكير في الحياة الآجلة واستشعار الخوف من عذابها وعقد الرجاء على الخلاص ونيل النعيم ولاسيما أمل الغفران. وكان الخوف من المعصية هو القاسم المشترك بين صفوف هؤلاء الأتقياء. ومن أشهر الزهاد أبو ذر الغفاري (ت32هـ) الساخط على الأغنياء، وحذيفة بن اليمان وهو أول من تكلم في القلوب وآفاتها، وسلمان الفارسي(ت35هـ) الذي حظي بشهرة واسعة في مجالات شتى، ثم سعيد بن المسيَّب (ت90هـ) من التابعين، وسعيد بن جبير (ت95هـ). وفي حقبة تالية اشتهر الحسن البصري (ت110هـ)، ومالك بن دينار (ت181هـ)، وإبراهيم بن أدهم (ت161هـ)، وتلميذه شقيق البلخي (ت194هـ).
امتدت مرحلة الزهد والتنسك طوال القرنين الأول والثاني للهجرة. ونشأ في إثرها التصوف الإسلامي بالمعنى الدقيق، وتميزت بعض مدارسه في بغداد وفي مصر والشام وفي نيسابور، حتى نضج الوعي الصوفي على نار الاتصال بالمذاهب الفلسفية، والمنهل من مختلف روافد الثقافات اللاإسلامية كالهندية والفارسية واليونانية.
ففي مدرسة بغداد اشتهر الحارث المحاسبي (ت243هـ) الذي فاز بلقبه لكثرة محاسبته نفسه على أعماله، وبرع في وصف يوم الحشر فالثواب أو العقاب في كتاب «التوهم». وكذلك أبو القاسم الجنيد الملقب بـ «سيد هذه الطائفة وإمامهم» (ت297هـ)، وهو صاحب نظرية التوحيد الكامل الخالص والفناء في الله.
أما مدرسة مصر والشام فإن من أبرز مشايخها ذا النون المصري واسمه ثوبان بن إبراهيم (ت247هـ)، وعنده أن الكتاب والسنة سبيلا معرفة وحدانية الله معرفة فردانية بطريق الكشف، وإنما معرفة اسم الله الأعظم هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده. ولما كانت المحبة «سراً من أسرار الله لايجوز الخوض فيها» وجب اللجوء إلى التعبير الرمزي واستحداث المصطلحات الإشراقية بالدرجة الأولى. وفي داريا من أعمال دمشق ظهر أبو سليمان الداراني (ت215هـ) وقد دعاه الجنيد «ريحانة دمشق»، وعنده أن الدنيا مزبلة ومجمع الكلاب، وأقل من الكلاب من علق عليها، وخاصم أصحابه من أجلها.
وفي آفاق مدرسة نيسابور، ظهرت في القرن الهجري الثالث حركة الملامتية التي ضمت إلى فضائل الفتوة، ولاسيما النجدة والتضحية، واجب كبح النفس اللوامة لأنها شر لايصدر عنها سوى الرعونة والرياء. ومن أشهر أعلام الملامتية عمر بن سالم الحداد النيسابوري (ت270هـ)، وحمدون بن أحمد القصار النيسابوري (ت271هـ)، الذي يؤثر أن يكون مظهره مظهر السيئين على أن يبعد تعظيم الناس إياه عن الله. ولذا يلوم الملامتية أنفسهم على جميع ما أظهروه من أنواع القرب والعبادات، ويكتمون عن الناس محاسنهم، فيلومهم الخلق على ظواهرهم، ويلومون هم أنفسهم على مايعرفونه من بواطنهم ليسلم لهم حالهم مع الله.
وفي أعقاب تلك الحقبة تفلسف النشاط الصوفي وأنتج فكراً وأدباً رهيفاً ومذاهب بلغت ذروة الإبداع في تقصي أهداف التصوف ورسم السبل وتحديد الرياضات الموصلة إليها. ولم تبق المحبة تتويج الزهد والنسك والفقر والتخلي، وإنما غدا التحلي بالفضائل المتميزة والمجاهدة أداة خلاص أعمق يفلت من براثن الهوية الإنسانية الفردية أو الجزئية، ليتصل، ويتحد، ويذوب، ويفنى، ويبقى، في الكيان الأسمى، كيان الأرفع الخالد الباقي، الكيان الإلهي، وعندئذٍ تتحقق الحقيقة، ويتمّ التجلي، وعلى نحو تعجز عن وصفه لغة البشر، فتتوارى الرموز، ويثمر الذوق والمعاناة.
ولهذا الخصب الرائع في فلسفة التصوف الإسلامي تاريخ حافل بأسماء خالدة نقتطف منها نماذج دالّة عبر العصور المتلاحقة، من عصر الحلاّج في القرن الهجري الثالث حتى عصر الجيلي في القرن الهجري التاسع، مروراً بإسهامات الغزالي والسهروردي المقتول وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والششتري.
فالحلاّج[ر]، وهو أبو مغيث الحسين بن منصور (244-309هـ)، أشهر باعث للاختلاف في نظر الباحثين من معاصريه إلى اليوم، أول من قال بنظرية الحلول، حلول الله في الإنسان، أو حلول اللاهوت في الناسوت. وصاح «أنا الحق» كما قال بقدم الحقيقة المحمدية، أو النور المحمدي، وهو أول من قال بوحدة الأديان، فهي أسماء حقيقة واحدة. وشُغل بكل دين طائفة، لااختياراً منهم، بل اختياراً عليهم، ولذا لايُلام أحد ببطلان ما هو عليه.
وعكف أبو حامد محمد بن محمد الغزالي[ر(ت 505هـ)، حجة الإسلام، ومؤسس التصوف العملي، على تمحيص صنوف المعرفة من كلام وتعليم وفلسفة. وارتضى في آخر المطاف طريقة التصوف التي تتمّ بعلم وعمل، وفيها تتنزّه النفس عن أخلاقها المذمومة، وتتمّ تخلية القلب عن غير الله، وتحليته بذكر الله، وذلك بالذوق والحال وتبدل الصفات، وإن حركات المتصوفة ظاهراً وباطناً مقتبسة كلها من نور مشكاة النبوة. تبدأ طريقتهم بالمكاشفات والمشاهدات، وتنتهي بالفناء كلية في الله. وقد أخطأ القائلون بالحلول أو الاتحاد أو الوصول وأصحاب الشطح كأبي يزيد البسطامي (ت261هـ)، والحلاّج لأنهم صرفوا ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة: فالغبطة الصوفية حال لا يباح الإفصاح عنها، وعلى السائل أن يظن خيراً ولايسأل عن الخبر.
أرسى الغزالي أسس التصوف السنيّ المعتدل، وأرسى شهاب الدين أبو الفتوح السهروردي المقتول (549-587هـ) أسس التصوف الإشراقي، وهو منزع فلسفي يقع بين الاعتماد على الذوق، وبين الفلسفة المستندة إلى الفكر العقلي مع ترجيح الاتجاه إلى الذوق والتشريف الإلهي بإلهام علوي يفيض على النفس إشراقاً روحانياً، ونوراً لا ينقطع، وهذا النور بلغة التصوف هو الروح المقدسة، وبلغة الفلسفة فيض من العقل الفعال، ولامناص لنيله من المناجاة «اللهم، أيدّنا بالنور، واحشرنا إلى النور. واجعل منتهى مطالبنا رضاك، وأقصى مايعدّنا لأن نلقاك». وعن السهروردي نشأ أعلام الإشراقيين في مضمار التشيع (كوربان).
أما محيي الدين بن عربي الحاتمي الطائي[ر] (ت638هـ) فقد لقي القدر الأوفى من الألقاب الصوفية، «كالإمام العارف بالله»، و«الشيخ الأكبر» و«الكامل المحقق المدقق صاحب الإشارات الملكوتية والنفحات القدسية وسلطان العارفين» (الشعراني)، اشتهرت فلسفته بثالوث نظريات تقول بوحدة الوجود، وبالحقيقة المحمدية، وبوحدة الأديان. وهذه النظريات كلها غامرة بالحب الإلهي، إذ الحب عنده أصل العبادة، وسرّها، وجوهرها، وما من معبود إلا وهو محبوب، والمعبود والمحبوب عين واحدة، وإن اختلفت عليها الأوصاف، والحب سببه الجمال، والجمال هو الله، والله جميل فيحب نفسه، ومن أحب الجمال لم يحب سوى الله.
وأجاد عمر بن الفارض[ر] (ت632هـ) التعبير عن التصوف بالشعر حتى عُدَّ أعظم شاعر صوفي باللغة العربية. وهو في تصوفه «سلطان العاشقين»، «إمام المحبين»، وصاحب نظرية «وحدة الشهود». وقد تغنى بأناشيد الحب الإلهي، ونشد النشوة والخمر الإلهية التي سكرت بها أرواح العاشقين من قبل أن تُخلق الخمر، ووصف الجمال والوصل وفناء نفس المحب استغراقاً في ذات المحبوب، ولكنه فناء جلاء فيه تشهد الروح الحقيقية الواحدة متجلية في كل وجود.
وإلى جانب وحدتي الوجود والشهود وحدة ثالثة هي الوحدة المطلقة التي أخذ بها عبد الحق بن سبعين (613-667هـ) وتلميذه الشاعر المجيد علي بن عبدالله الششتري (610-668هـ). فالوجود واحد، وهو قائم بجميع الصور، والقوة الجامعة للكل هي القوة الإلهية، والكل واحد.
وأما عبد الكريم الجيلي (ت832هـ) فإنه يعرب عن نظريته في الإنسان الكامل ماثلة في الحقيقة المحمدية. ولئن ذهب الحلاّج إلى تمييز طبيعتي اللاهوت والناسوت وامتزاجهما امتزاج الخمر بالماء الزلال، ووجد ابن عربي أنهما وجها حقيقة واحدة، ظاهرها الخلق أو الناسوت، وباطنها الحق أو اللاهوت، فإن الجيلي يرى أن الحقيقة المحمدية هي أم الكتاب، والألوهية هي أم الكتاب، والصورة المحمدية إشراقها إشراق وحدة هويّة وإنيّة، «والإنسان الكامل» واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، وله تنوع في ملابس، ويظهر في كنائس، فيُسمى به باعتبار لباس، ولا يُسمى به باعتبار لباس آخر.
التصوف الإسلامي شعور متحقق في السلوك، وقد ظل هذا السلوك ذا صيغة حرة فردية يتميز أصحابها في المراحل الأولى بالعبادة والزهد والتنسك، وماعتم هذا السلوك عندما ظهرت لفظة التصوف اصطلاحاً أن غدا سلوكاً منتظماً ذا قواعد محددة، أساسها مجاهدة النفس لبلوغ الغاية وفق ترتيب معين، وسم بأنه سفر هادف فيه مقامات وأحوال. فالمقامات محطات ينتقل فيها السالك من مقام إلى آخر تبع الأحوال النفسية والأخلاق التي تصحب مسيرته وإقامته.ومن أشهر المقامات سبعة هي: التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والتوكل والرضا. والأحوال كثيرة منها: مراقبة النفس والقرب والمحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس والاطمئنان والمشاهدة واليقين. وعلى هذا تكون الحال شعوراً وارداً ثم متحولاً، ويبقى المقام ثابتاً مادام الصوفي مقيماً فيه حتى يرقى برقي نفسه وخلقه ومجاهدته إلى مايسمو عليه.
نهض قدامى الصوفية بتجربتهم النوعية فرادى، ونشد كل زاهد للخلاص بنفسه على طراز «فرار الواحد نحو الواحد». ولكن الزهّاد أنفسهم دعوا إلى اعتناق أفكارهم فالتف حولهم أنصار وأتباع في ندوات أخذت بالانتظام شيئاً بعد شيء. ولما عرف المتصوف باسم الشيخ صار تلاميذه مريدين، وغدت حلقاتهم ندوات، والندوات طرقاً، والطرق فرقاً صوفية متمايزة، وغلب على هذا التطور اتجاه من التصوف الأنموذجي والتعليمي، أو التفلسف الصوفي، إلى التصوف العملي الجمعي. وبات التصوف في إهاب الفرق والطرق أطول حياةً، وأكثر حيوية، وأبقى على الأيام، ولدى عامة الممارسين منه لدى المتصوفة الزهّاد أو المتفلسفين. بدأ هذا التصوف الجمعي على استحياء منذ النصف الثاني للقرن الهجري الثالث، ومابرح ينمو ويتكامل حتى تحددت في إطاره مراتب ثابتة، وألقاب متراتبة، واشتد القول بتفاوت المنازل الصوفية اشتداد الإيمان بكرامات شيوخ الطرق أو الأولياء.
تكونت في البدء طرق مثل «السقطية» حول السري السقطي، و«الطيفورية» نسبة إلى أبي يزيد طيفور البسطامي، و«الجنيدية» نسبة إلى الجنيد، و«الخزّازية» نسبة إلى أبي سعيد الخزّاز (ت277هـ)، و«الملامتية» أو «القصارية» نسبة إلى حمدون القصار. وما لبث نشاط الطرق الصوفية أن قوي وعظم وازدهر فصار نوعاً مستقلاً من نشاط دائب متعاقب المراحل والميزات، يتفرع بعضه عن بعض، وتصدر عن الأصل شعب متكاثرة لاتكاد تحصى، وهي تبتعد عن منبعها بإضافات جلّها عملي يتصل بالصلوات والأوراد والأذكار والأحزاب. ولاريب في أن هذا التصوف المشترك بلغ مرحلة متقدمة حين وضع عبد القادر الجيلاني أسس «الطريقة القادرية» في القرن الهجري السادس، ووضع أحمد الرفاعي (570هـ) أسس «الطريقة الرفاعية»، ووضع السهروردي أسس طريقته في القرن السابع، ووضع أبو الحسن الشاذلي (ت656هـ) أسس «الشاذلية»، وكان من تلاميذه أبو العباس أحمد المرسي (ت686هـ) ومن تلاميذ الأخير تاج الدين بن عطاء الله السكندري (ت709هـ). ونسب «المولويون» أو «المولوية» إلى «مولانا» جلال الدين الرومي (604-672هـ)، كما نسبت إلى أحمد البدوي (ت675هـ) «الطريقة البدوية»، و«البرهامية» نسبة إلى إبراهيم الدسوقي (ت676هـ)، و«البكتاشية» إلى محمد خنكار الحاج بكتاش (ت738هـ).
ازدهرت الفرق أو الطرق الصوفية، بادئ ذي بدء، بازدهار شيوخها ونبوغهم، ولكن الابتكار في التصوف الجمعي ما لبث أن تضاءل وذبل بعد القرن الهجري الثامن، وكثرت التفرعات والتركيبات، فحدث في مجال كل طريقة عدد نام من الطرق الفرعية المتعاقبة، كالطريقة «الشاذلية المدنية» و«الشاذلية الدرقاوية» و«الشاذلية الوفائية الفاسية». وربما لبست الطريقة الواحدة حللاً مختلفة، وتغيرت أسماؤها بتغير أطوارها كـ «النقشبندية» المنسوبة لبهاء نقشبند (ت791هـ)، ونقشبند كلمة تعني «ربط النقش» الذي هو صورة الكمال الحقيقي، فسميت على التعاقد بأسماء: «صديقية» و«طيفورية» و«خوجكانية»، ومابرحت لائحة الطرق الصوفية تزداد باستمرار.
ومن الطرق المتأخرة «الطريقة الختمية»، وقد أسسها محمد عثمان المكي الحسيني بن محمد بن أبي بكر القطب الأعظم الميرغني المحجوب (ت1268هـ)، وجعل رمزها «نقش جم»، وهو تعبير تركيبي ترمز أحرفه على الترتيب إلى الطريقة «النقشبندية» فـ«القادرية» فـ«الشاذلية» فـ«الجنيدية» فـ«الميرغنية». وثمة «الطريقة السنوسية» التي أسسها محمد بن علي السنوسي (ت1276هـ)، و«التجانية» ومؤسسها أحمد بن المختار التجاني (ت1230هـ)، و«الطيبية» ومؤسسها السلطان المغربي مولاي الطيب نحو سنة 1286هـ.
غلا مريدو الطرق الصوفية في الثناء على شيوخهم وإطراء فعالهم وامتداح فضائلهم ومناقبهم، ومنحوهم ألقاب الولي أو القطب أو الغوث، ومضوا على درب الإجلال إلى منزلة التقدير بالمعنى الدقيق. بل ذهبوا إلى أن بقاء العالم وقف على «تنظيمهم». فهم «رجال الغيب» وقوامهم النقباء (300) والأبدال (40) والأمناء (7) والعمد أو الأركان (4) والقطب أو الغوث وهو محور الكون. وحذا مقلّدو المريدين وأتباعهم هذا الحذو، ولكنهم لم يأخذوا من القلادة إلا ما اتصل بالسلوك العملي من الإيمان تسليماً بكرامات الشيخ ومناقبه، قاصرين جهدهم على الإذعان والتقيد براتب الأوراد والأذكار و«الوظائف» المنبثقة عن مؤسس الطريقة أو تابعيه أو وارثيه.
ظل النشاط الصوفي هدف النقد المرير الصادر عن الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة العقلانيين، كما نقد المتصوفة أولئك الأغيار جميعاً حتى قال فريد الدين العطار: «الكفر أحب إلي من فاء الفلسفة». بيد أن بعض المتصوفة نقد بعضاً، فأخذ الغزالي مثلاً على أصحاب الحلول أو الاتحاد أو الوحدة شططهم، ولقي ابن تيمية (ت728هـ) عنتاً شديداً متكرراً في نقده متصوفة عصره وأسلافهم. وأخذ ابن الجوزي (ت597هـ) من قبل في كتابه «تلبيس إبليس» على الزهّاد والعبّاد انقطاعهم عن الدنيا في شتى أحوالهم، مثل لبس الصوف والمبالغة في تقصير الثوب طلباً للشهرة، وكذلك في مطاعمهم ومشاربهم «لأن الغذاء الردي يخرج الوساوس والجنون وسوء الأخلاق». ومن مقابحهم مسلكهم في الغناء والسماع والرقص والوجد وصحبة الأحداث والنظر إلى المرد وترك التكسب والتداوي ومنحاهم في تأويل القرآن وفي الشطح والدعاوى والتوكل والكرامات وسائر الأعمال المخالفة للشرع. ومافتئ باحثون لاحقون ومعاصرون يرفضون التصوف ويوجهون إليه نقدهم انطلاقاً من منازع دينية (فقهية أو كلامية) أو فلسفية أو اجتماعية وسياسية.