الأتروسكيون (اللغة)
اللغة الإتروسكية: كان الإتروسكيون يتحدثون لغة تختلف في أصولها عن لغات الأقوام الإيطالية القديمة وهي ليست من أسرة اللغات الهندية الأوربية على الرغم من تأثرها بها. وبعدسيادة رومة حلت اللغة اللاتينية محل اللغة الإتروسكية التي اضمحلت تدريجياً إلى أن غدت لغة ميتة. وأغلب النصوص الإتروسكية التي عثر عليها هي نقوش جنازية في المدافن، ويرجع أغلبها إلى القرن السابع ق.م، وقد ساعدت هذه النصوص الكثيرة بمقارنتها مع بعض النصوص اللاتينية المستعملة في مناسبات مماثلة، على توفير معلومات مهمة، على ضآلتها، كمعرفة شجرات نسب بعض الأسر الإتروسكية والرومانية والتقاليد الدينية والتنظيم السياسي، كما ساعدت على كشف بعض جوانب اللغة الإتروسكية التي لاتزال صعبة الحل. وثمة ثلاثة نصوص مطولة نسبياً باللغة الإتروسكية تمثل مكانة خاصة عند علماء اللغات القديمة، وأول هذه النصوص وأطولها مكتوب على لفيفة كتانية قطعت إلى عصائب تشبه العصائب التي استعملت في تحنيط مومياء مصري، وهي محفوظة في أحد متاحف مدينة زغرب في كرواتية اليوغوسلافية، ويتألف النص من 281 سطراً ويضم 1300 كلمة. أما النص الثاني فمنقوش على قطعة من الآجر عثر عليها في مدينة كابا في كامبانية ويتألف من 46 سطراً. أما النص الثالث فهو نقش شاهدة مدفن نذرية عثر عليها في مدينة بروجيه. وقد عثر في عام 1964 على نصين منقوشين من لوحين من ذهب، كما عثر كذلك على نموذج كبير من البرونز عليه نقش من 45 كلمة ربما كانت إرشادات لشعائر دينية.
وقد غدا من الممكن اليوم قراءة الكتابات الإتروسكية، لأن الألفبائية الإتروسكية مشتقة بوجه أو بآخر من الألفبائية اليونانية (الصيغة الخلقيدونية على الأرجح) وتكتب من اليمين إلى اليسار كأغلب اللغات المشرقية واللغة اليونانية القديمة، وقد تكتب بعض نصوصها بالأسلوب المحراثي boustrophedon (أي أن اتجاه الكتابة يتبدل في كل سطر، فيكون السطر الأول من اليمين إلى اليسار والثاني من اليسار إلى اليمين وهكذا). وقد طرأت تعديلات كثيرة على أشكال الحروف وعددها وتركيب الكلمات والجمل بمرور الزمن إلى أن اتخذت صيغتها الأخيرة (الكلاسيكية) نحو سنة 400 ق.م فصارت تتألف من عشرين حرفاً (أربعة صوائت وستة عشر ساكناً). ومع أن اللغة الإتروسكية ظلت متداولة قروناً عدة بعد ذلك، إلا أن الكتابة بحروفها توقفت في القرن الأول للميلاد. ولايعني فك رموز الأحرف أو قراءة الكلمات القدرة على فهم معناها، إذ لاتزال اللغة الإتروسكية مستعصية على الفهم على الرغم من مختلف الدراسات المقارنة للغة الإتروسكية مع مفردات اللغات القديمة المعروفة كاليونانية والمصرية والآشورية والكنعانية، ومنها اللغة البونية القرطاجية. وكل ما يمكن تأكيده في هذا المجال أن الإتروسكية تشبه اليونانية في تركيبها وتصريف بعض كلماتها، وأنها تضم مفردات وصيغاً مشتقة من لغات سكان إيطالية القدماء وأوربة الجنوبية، وأنها قد تكون متفرعة عن بعض لغات آسيا الصغرى القديمة أو الساحل السوري.
الإتروسكيون (الإنسانية)
الإتروسكيون Etruscans شعب قديم سكن منطقة إترورية الإيطالية (بين نهر التيبر ونهر آرنو غربي جبال الأبنين وجنوبيها). وبلغت حضارته أوج ازدهارها واتساعها في القرن السادس قبل الميلاد. وقد اقتبس الرومان الكثير من حضارة هذا الشعب الذي تمكنوا من إخضاعه وطمس آثاره بعد صراع مديد. وكان للإتروسكيين دور كبير في تاريخ شبه الجزيرة الإيطالية من بداية القرن السابع قبل الميلاد حتى نهاية العصر الجمهوري في رومة، إلا أن سيطرتهم السياسية التي كادت توحد إيطالية كلها أخذت تنحسر شيئاً فشيئاً منذ القرن الخامس ق.م مع مزاحمةالإغريق والقرطاجيين، ثم الرومان، إلى أن زالت تماماً بسقوط آخر معاقل الإتروسكيين أمام ضربات الفيالق الرومانية في معركة سنتينيوم Sentenium سنة 195 ق.م.
على أن التراث الإتروسكي، مع كل ما حظي به من اهتمام الدارسين منذ القرن الثامن عشر، لايزال يكتنفه شيء من الغموض إلى اليوم، ولايزال أصل الإتروسكيين ولغتهم وتاريخهم السياسي موضع جدل وبحث. وربما كانت رومة المسؤول الأول عن إخفاء معالم تلك الحضارة للتدمير الشديد الذي ألحقته قواتها بالمدن الإتروسكية، ومحاولة كتابها إغفال ذكر هؤلاء في حولياتهم، بل إن منهم من يعد الإتروسكيين مستعمرين بكل معنى الكلمة.
أصل الإتروسكيين
يطلق الإتروسكيين على أنفسهم اسم «راسنّا» Rasenna أو Rasna ويدعوهم الإغريق باسم «التورنيّين» Tyrrhenoiأو «التورسنيين» Tyorsenoi ويسميهم الرومان «التوسكيين» Tuscé أو «الإتروسكيين» Etrusci، ويكاد المؤرخون القدامى يجمعون على أن الإتروسكيين هم من اللوديين سكان مقاطعة لودية في آسيا الصغرى، على قول هيرودس، وأن قسماً من شعب لودية اضطر إلى النزوح عن وطنه بسبب مجاعة كبيرة في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وقد غادر هؤلاء ميناء سميرنة (إزمير اليوم) بزعامة أمير منهم اسمه تورنوس بن آتيس، وهاموا على وجوههم في البحرزمناً إلى أن ألقوا مراسيهم عند سواحل إيطالية الوسطى، في أرض الأمبريين (نسبة على أمبرية) حيث أسسوا مدناً جديدة، وانتسبوا فيها إلى أميرهم فسماهم الإغريق التورنيين في حين نسبهم الكتاب الرومان إلى موطنهم الأول فسموهم لوديين، ومن هؤلاء الكتاب فرجيل Vergil وهوراشيوس Horatius وأوفيد Ovide (القرن الأول ق.م) كما دعوهم توسكيين نسبة إلى توسكانة، وإتروسكيين نسبة إلى إترورية وهي المقاطعة التي تألقت فيها حضارة هذا الشعب في القرن السابع قبل الميلاد. وثمة مؤرخون يرفضون هذه الرواية، وفيهم المؤرخ الإغريقي ديونيسوس الهاليكارناسي ( ت سنة 8 ق.م)، ويقول هؤلاء إن الإتروسكيين هم شعب إيطالي محلي من أحفاد سكان توسكانة، وهذا ما يفسر انفرادهم بلغة وحضارة ومعتقدات تخصهم وحدهم، ولم يتمكن الباحثون إلى اليوم من إعطاء الجواب الكافي بهذا الصدد، ومنهم من يزعم أنهم من الشرق وأنهم تسربوا إلى إيطالية عن طريق الألب. ويزيد في غموض هذه المسألة أن اللغة الإتروسكية - على ندرة ما يعرف عنها - تختلف كثيراُ عن لغات شعوب إيطالية الأخرى، وفيها عناصر من أسرة اللغات الهندية - الأوربية، إلا أن تركيبها غامض وحروف كتابـتها بائدة، وربــما كانت لها صلة بلغات شعوب بحر إيجة قبل العصر الهليني، وقد بادت هذه اللغة بسبب طغيان اللغة اللاتينية. وماتبقى من الوثائق الإتروسيكية النادرة مكتوب بحروف إغريقية يسهل تحليلها ويصعب تفسيرها، ومعظمها يطرق موضوعات دينية أو جنازية قصيرة. ومن جملة الوثائق التي عثر عليها نصب في جزيرة لمنوس، إحدى جزر الأرخبيل الإيجي، عليه كتابة إتروسكية، يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد، وقد يكون دليلاً على أن الإتروسكيين جاؤوا من آسيا الصغرى، وأن بعض سفنهم رسا في تلك الجزيرة زمناً قبل أن يواصل إبحاره غرباً. وفي هذه الحالة يكون تاريخ هجرتهم هو القرن الثامن ق.م وليس الثالث عشر ق.م كما يقول هيرودس. ومن الأدلة الأخرى التي تشير إلى أصل الإتروسكيين الشرقي السمة الشرقية التي وسمت تراثهم وعاداتهم ومعتقداتهم الدينية، ومنها مكانة المرأة في الأسرة والمجتمع التي تماثل ما كانت عليه في المجتمع الكنعاني والنبطي والتدمري، ومنها كذلك اعتقادهم بدين مُنزل دونت تعاليمه في كتب مقدسة، واعتقادهم بالعرافة والتنبؤ وفحص كبد الضحية لمعرفة المستقبل، على نهج بلدان المشرق القديمة.
نهضة الإتروسكيين وانحطاطهم
من المتعذر ترتيب تاريخ الإتروسكيين مفصلاً في غياب الوثائق والأساطير التي توارثها هذا الشعب، ولندرة ما تشير إليه الكتابات الإغريقية والرومانية. وكل ما يعرف عنهم أن بلادهم كانت تتألف من مدن - دويلات مستقلة أقامت فيما بينها تحالفاً دينياً وسياسياً كان له أثره في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وأنهم ظهروا في توسكانة (إترورية) في مطلع القرن السابع ق.م وراحوا يمدون نفوذهم شيئاً فشيئاً على المناطق المجاورة، ويشيدون المدن الحصينة، وينشطون زراعياً وصناعياً وتجارياً. فسيطروا على منطقة لاتيوم في وسط إيطالية في العصر الملكي، ويعود إليهم فضل نشوء رومة التي عدت جسراً يربط شمالي إيطالية حيث يقوم الإتروسكيين بجنوبيها الذي كان الإغريق قد وفدوا إليه منذ القرن الثامن قبل الميلاد وأقاموا لهم مستعمرات تجارية وزراعية. وقد استمر الإتروسكيون في زحفهم جنوباً حتى أدركوا ربوع كامبانية وأسسوا مدينة كابوا Capua واصطدموا بالإغريق في هذه البقاع. ووجد الإتروسكيون في القرطاجيين حلفاء طبيعيين لهم فتعاونوا معهم على هزيمة الإغريق في معركة ألريه Aleria البحرية سنة 535 ق.م (تسميها بعض المصادر آلالية Alalia). وتوقف توسع الإغريق مؤقتاً، كما اضطروا إلى الجلاء عن قواعدهم في كورسيكة (قرشقة). وفي الوقت نفسه شرع الإتروسكيون في التوسع شمالاً حتى سهل البو وسواحل الإدرياتي، وهكذا بلغ الإتروسكيون في القرن السادس ق.م أوج سطوتهم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وشجعهم وضعهم هذا على محاولة طرد الإغريق من اليونان الكبرى (جنوبي إيطالية) فحاصروا مدينة كوماي Cumae. ولكن هيرو Hieroحاكم سيراكوزة (سرقوسة) الصقلية هب لنجدة المدينة وأجبر الإتروسكيين على رفع الحصار عنها سنة 474ق.م. وبعد تراجع الإتروسكيين عن مدينة كوماي بدء انحسارهم عن جنوبيإيطالية وأواسطها، ومع أنهم لم يخلوا جميع مواقعهم في كامبانية، فقد تعرضت مواصلاتهم مع الجنوب للخطر بسبب المتاعب التي كان يثيرها اللاتين (سكان مقاطعة لاتيوم ومركزها رومة). عندما لجأ الإتروسكيون إلى تأمين مواصلاتهم بحراً انبرى لهم أسطول الإغريق بزعامة مدينة سيراكوزة فقضى على تجارتهم البحرية قضاء تاماً، كذلك استطاع اللاتين، الذين أخذ نجمهم في الصعود، مد سيطرتهم إلى أجزاء كبيرة من لاتيوم وكامبانية والاستيلاء على مدينة كابوا كبرى مدن كامبانية سنة 421ق.م. وتفاقم الوضع تماماً بظهور الأقوام الغالية في أقصى الشمال الإيطالي، التي عبرت جبال الألب واكتسحت سهل البو وهددت إترورية نفسها. بل إن بعض قبائل الغال أوغلت حتى رومة ونهبتها سنة 390 ق.م ولم يحل منتصف القرن الرابع ق.م حتى كان الإتروسكيون قد فقدوا جميع مواقعهم خارج إترورية، وانتقلت المبادأة إلى أيدي الرومان الذين أقاموا لأنفسهم دولة قوية في لاتيوم واستخدموها قاعدة انطلاق لتوسعهم اللاحق. واستطاعت رومة في المدة ما بين بداية القرن الرابع ومنتصف القرن الثالث قبل الميلاد إخضاع معظم المناطق التي كانت في يد الإتروسكيين والغاليين والإغريق، وتوحيد شبه الجزيرةالإيطالية بزعامتها، ولم يفد الإتروسكيين تحالفهم مع شعوب إيطالية القديمة كالسامنيين (من أقوام إيطالية الوسطى) للحد من السيطرة الرومانية المتنامية، فسقطت مدنهم الواحدة تلو الأخرى، واضطر بعضها إلى الدخول في حلف مع رومة ولاسيما المدن الشمالية منها، التي كانت قد بلغت أوج ازدهارها. وفي المرحلة الأخيرة من تاريخ الإتروسكيين فقدت إترورية استقلالها السياسي بعد معركة سنتينيوم (195 ق.م) واندمجت في الاتحاد الإيطالي الروماني مع احتفاظها بطابعها ولغتها، ثم ألحقت برومة إلحاقاً تاماً في بداية القرن الأول ق.م، وحملت سماتها وحقوق المواطنة فيها.
يرجع بعض المؤرخين أسباب غلبة رومة واندحار الإتروسكيين ثم غيابهم عن صفحات التاريخ إلى عدم وجود وحدة نافذة بين مدنهم المختلفة. فقد كانت إترورية تتألف من اتحاد مدن ـ دويلات مستقلة ومتنافسة فيما بينها، وكان سكانها يتألفون من طبقة فقيرة جلها من سكان إيطالية القدماء، وطبقة موسرة حاكمة من الإتروسكيين. ويعد المؤرخون 12- 15 مدينة - دويلة إتروسكية هي الأكثر شهرة في الاتحاد الإتروسكي ومنها:
أرزّو Arezzo (أرّتيوم Arretium) وبلزنة (فولسيني Volsinii وهي فلزنة اليوم) وروسلانة Rusellana (روسل اليوم Roselle) وبروزية Perusia (بورجية اليوم Perugia) وبوبولانة Pupulana (بوبولونية Populonia) وكايري Caere(سرفتوري Cervetori) وترخونة Trachuna (تركوينية Tarquinia) وخمارس Chamars (كلوسيوم Clusium أو كيوزيChuisi) وكوريونة Cortona وفلخة Velch (فولتشي Vulchi) وفلسينا Felsina (بولونية اليوم Bologna) وفايسولايFaesulae (فيسولي Fiesole قرب فلورنسة) وفلاتري Velathri (فولتيرا Volterra) وفيي Veii (فيو Veio) وفيتولونيةVetulonia. ولعل هذه المدن كانت من قبل قرى يقطنها سكان إيطالية القدماء ثم تحولت في أواخر عصر الحديد (القرنين 8 و7 ق.م) إلى مدن مزدهرة.
وكانت هذه المدن - الدويلات عواصم إقليمية للإتروسكيين ويحكم كلاً منها ملك يحمل لقب «لوكومون» أي شيخ القبيلة، وبيده السلطات السياسية والعسكرية والدينية.
وتقول الروايات إن رومولوس - مؤسس رومة - كان يحمل هذا اللقب، كما حمله الملك الإتروسكي ترقوينس الأول قبل أن يصبح أول ملك إتروسكي يحكم رومة (616- 578ق.م). وقد خضعت رومة لسلالة هذا الملك حتى عام 510 ق.م عندما طرد منها الملك ترقوينس سوبيربوس وغدت جمهورية. كذلك شهدت المدن الإتروسكية، تطوراً جديداً في نظام حكمها، وتبنت النظام الجمهوري تدريجياًُ، فيما عدا مدينة فيو التي تقع على مسافة 21 كم شمال رومة، والتي خاضت معها صراعاً مريراً دام زهاء قرن/ وانتهى بسقوط المدينة في يد الدكتاتور الروماني كاميلوس بعد حصار عشرة أعوام (405- 395ق.م) فنهبها وأحرقها، وأدى سقوط مدينة فيو إلى سلسلة من الكوارث حلت بمدن الإتروسكين الأخرى التي آل أمرها إلى السقوط بيد رومة وحلفائها اللاتين.
كان لكل مدينة إتروسكية مجلس يمثل أسرها الأرستقراطية. وينتخب مجلس المدينة رئيساً من أعضائه يطلقون عليه لقب زلات بورثنه Purthne Zilath أي «حاكم المدينة». وكانت المدن الإتروسكية المختلفة توفد ممثلين عنها إلى مدينة بلزنة في وقت محدد من كل سنة، وينعقد مجلس الممثلين هذا بالقرب من المعبد المخصص للإلهة فولتومنة ويناقشون قضاياهم ومصالحهم المشتركة بعد أداء الواجبات الدينية. وفي القرن السادس قبل الميلاد، عندما بلغ الإتروسكيون أوج ازدهارهم وعظمتهم، عمدوا إلى انتخاب حاكم عام يمثل اتحادهم، ويملك صلاحيات التفاوض مع الأطراف الخارجية، واتخاذ القرار في قضايا السلم والحرب، ووضع الخطط. ولاتعد توجيهاته ملزمة إلا بموافقة جميع مدن الاتحاد. وفي الأوقات الحرجة، عندما يتهدد الشعب الإتروسكي خطر شديد، كانوا يضعون قواتهم بإمرة قائد عام منهم يعاونه ضباط أركان من مختلف المدن. ولكن الإتروسكيين لم ينجحوا أبداً في تحقيق وحدة من أي نوع، أو في إزالة التناقضات بينهم، وعلى الرغم من اضمحلال نفوذهم السياسي فقد حافظوا على تأثيرهم الحضاري في المجتمع الروماني في شتى الميادين، ومنها اقتباس الرومان أنظمة الحكم عنهم، فأطلق الرومان لقب (لوكومون) على من يرث صلاحيات الملك، ثم اقتصرت مهامه، بعد التحول إلى النظام الجمهوري، على الشؤون الدينية. وكان موكب اللوكومون الإتروسكي يضم حرساً يحملون فؤوساً ذات حدين وترمز لسلطة الحاكم. وقد جعل الرومان هذه الفأس رمزاً لسلطان بعض حكامهم كالدكتاتور والقناصل وقادة الفرسان. وقد عرفت بعض جوانب التنظيم العسكري عند الإتروسكيين من إناء برونزي محفوظ في متحف مدينة بولونية، ويعود إلى القرن الخامس ق.م وقد رسمت على هذا الإناء أشكال تمثل جيشاً في حالة المسير، ويأتي الفرسان في المقدمة ثم يليهم المشاة الخفيفو التسلح، ثم المسلحون بأسلحة ثقيلة. أما لباس جندي المشاة فيتألف من ثوب مخصر إلى الركبتين ومن بيضة (خوذة) تقي رأسه ووجهه على نحو ما كانشائعاً لدى الإغريق، وأما سلاحه فيتألف من الفأس المزدوجة والسيف والمزراق والرمح ومجن مستدير يتقي به الجندي ضربات العدو، وكان الإتروسكيون يخصون القائد المنتصر بموكب نصر ديني الطابع، فيطلون جسده بالزنجفر الأحمر (أكسيد الرصاص)، ويحيطون عنقه بسلسلة تحمل تعويذة ذهبية، ويتوجونه بإكليل من ذهب على هيئة غصن سنديان، ويخلعون عليه حلة حمراء، وفي يده صولجان من عاج عليه نسر باسط جناحيه. وقد اقتبس الرومان فيما بعد جل هذه المراسم في مواكب النصر التي كانوا يقيمونها.
الحضارة الإتروسكية
تختلف الحضارة الإتروسكية، من نواح عدة، عما كانت عليه لدى الأقوام التي عاشت في شبه الجزيرة الإيطالية في عصري البرونز الحديث والحديد الأول (1225- 500 ق.م). ومن العسير جداً تحديد مظاهرها جميعاً لندرة الوثائق والمصادر من جهة، وغموض اللغة الإتروسكية التي لم تحل رموز كتابتها حلاً مقنعاً إلى اليوم، من جهة أخرى. ومع أن العثور على مئات المدافن الإتروسكية ودراسة محتوياتها منذ منتصف القرن التاسع عشر قد ألقى بعض الضوء على السمات العامة لهذه الحضارة فلاتزال جوانب كثيرة منها مجهولة تماماً.
المجتمع: يمكن القول إن الإتروسكيين أقاموا حضارة مدينية في عصر كانت شعوب إيطالية الأخرى تعيش فيه حياة الرعي والزراعة البدائية، وإن المجتمع الإتروسكي في المدينة ـ الدويلة كان يقوم على نظام طبقي يضم فئات متباينة المهام والمكانة. وقد ظهر هذا المجتمع بملامحه المميزة منذ منتصف القرن السابع ق.م وكان يضم طبقة أرستقراطية موسرة من التجار والملاك والعسكريين ورجال الدين، ويعيش أفرادها في قلاع وقصور حصينة فوق المرتفعات. كما يضم طبقة متوسطة من حرفيين ووسطاء وغيرهم، وطبقة دنيا من العبيد من أقوام الشعوب المقهورة التي خضعت للإتروسكيين، وكان كل هؤلاء يسكنون المدن والأرياف، ويلزمون بدفع الضرائب والقيام بأعمال السخرة كبناء الأسوار ومد القنوات والعمل في المناجم والمزارع وفي قصور الأرستقراطيين والحكام، وكان عددهم كبيراً جداً. وكانت لكل مدينة من مدن الإتروسكيين مؤسساتها السياسية والدينية، ولها جيش نظامي.
الاقتصاد: عاشت المدن الإتروسكية حياة مترفة نسبياً، وكان اقتصادها يقوم على الزراعة والصناعة والتجارة. وتذكر المصادر أن إترورية اشتهرت بخصب تربتها ووفر غلالها، وكانت تزرع الحبوب والأشجار المثمرة والخضراوات، ويندر أن يكون ثمة حقل غير مستثمر فيها، وكانت تصدر ما يفيض عن حاجاتها إلى المدن الأخرى وتتبادل معها منتجاتها. وقد اشتهرت خمور إترورية في مختلف أرجاء حوض البحر المتوسط وكان الإتروسكيون متفوقين على سكان لاتيوم في ميدان زراعة الكرمة وصناعة الخمور. كما عرف الإتروسكيون زراعة الكتان ونسجه وكان لهم في هذا الميدان باع طويل.ويعزو الشاعر اللاتيني «أوفيد» مهارة الإتروسكيين في الزراعة إلى علاقاتهم مع بلاد المشرق ولاسيما قرطاجة التي اشتهر خبراؤها ومهندسوها بمهاراتهم، ومنهم القائد القرطاجي «ماجون» (ق 3ق.م) الذي صنف موسوعة زراعية ضخمة ذاع صيتها، واهتم الرومان فترجموها إلى اللاتينية كما ترجمها الإغريق إلى اليونانية.
وإلى جانب الزراعة تفوق الإتروسكيون في أعمال التعدين ومعالجة الحديد، ومع ما تزخر به إترورية من خامات الحديد والنحاس فقد سعى الإتروسكيون إلى وضع يدهم على جزيرة إِلبة وتوفير موارد إضافية لصناعتهم، وقد اشتهرت بأعمال المعادن كل من بولونية وفتولونية الواقعتين على البر الإيطالي إزاء جزيرة «إلبة».
كذلك شاعت شهرة مدن إتروسكية أخرى بمسكوكاتها من الحديد والبرونز والحلي الذهبية والفضية واشتهر بعضها بصناعة الخزف والفخار. وقد حافظت المدن الإتروسكية على تفوقها الزراعي والصناعي بعد خضوعها لرومة. وتذكر المصادر أن المدن الإترورية زودت حملة القائد سيبيون الإفريقي التي أعدها لمهاجمة قرطاجة سنة 205ق.م، بالقمح والمؤن الضرورية للجيش والأسطول وبالعتاد والأسلحة المختلفة كالدروع والخوذ والرماح والفؤوس والمعاول والأجران والمعالف والرحى والخشب اللازم لصنع المراكب.
أما التجارة فقد سارت جنباً إلى جنب مع التوسع الإتروسكي في شبه الجزيرة وبلغت أوج ازدهارها في أواخر القرن السابع ق.م، وكانت علاقاتها التجارية مزدهرة مع منطقتي اللاتيوم وكامبانية خاصة. وبعد أن أسس الإتروسكيون مدينة كابوا في كامبانية، جنوبي إيطالية، اتسعت تجارتهم حتى شملت مناطق اليونان الكبرى ولاسيما صقلية عن طريق بوسيدونية بوابة الإغريقفي جنوبي إيطالية. وتدل اللقى الأثرية التي عثر عليها في المدافن الإتروسكية على أن الإتروسكيين أقاموا علاقات تجارية واسعة مع بلاد اليونان القارية وبقية بلدان الحوض الشرقي للبحر المتوسط ومصر وقرطاجة.
الديانة: لايمكن فهم الحضارة الإتروسكية من دون اعتبار لحقيقة أنها عاصرت الحضارة الإغريقية وعاشت معها جنباً إلى جنب، وأنها كانت على اتصال وثيق ومباشر بالعالم الإغريقي، واكتسبت منه الكثير من المفاهيم والعادات والمهارات. إلا أن الإتروسكيين، كغيرهم من شعوب إيطالية القديمة، لم يسهموا إسهاماً مباشراً في تطور الفكر الإغريقي، وحافظوا في كثير من أوجه تفكيرهم على طابعهم الشرقي وعلى ثقافة المشرق والبحر المتوسط، ولاسيما في معتقداتهم الأولى. وتظهر هذه الحقيقة جلية في ديانتهم التي آمنت بالقدر قوة خفية وبالحياة الآخرة، مع اعتقادهم بإمكانية التنبؤ بما سيحدث، ومعرفة إرادة الآلهة عن طريق تحري أحشاء الحيوانات ومراقبة البرق والرعد وطيران الطيور. ثمة كتب مقدسة للإتروسكيين تتضمن وصايا الإلهة فيغويه Vigoe ونصف الإله تاجس Tages، وتبحث في شعائر العبادة والقدر والإنسان والعالم الآخر وتدبير شؤون العالم. أما آلهة الإتروسكيين وطرائق العبادة وترتيب المعابد ومذابحها فتماثل نظائرها عند الإغريق والرومان. ومن آلهتهم تينية (جوبتر) ويوني (جونو) ومنرفة (مينرفة) وتوران (فينوس) وماريس (مارس) وستلاند (فولكان) ونيثوس (نبتون) وفوفلوس (باخوس) وكاثا (الشمس). وثمة أنصاف آلهة وآلهة للعالم السفلي وشياطين يخشونها ومنهم شارو (شارون) الذي كانوا يعتقدون أنه يسكن عالم ماوراء القبر. وكان الإتروسكيون يعنون عناية خاصة بشعائر الموت ويقيمون الأضرحة الضخمة ويزودنها بالأدوات المنزلية والأسلحة وكل ما يلزم لاستعمال الميت في الحياة الأخرى.
الأتروسكيون (الفن)
الفن والعمارة: بقي الفن الإتروسكي مهملاً إلى الربع الأول من القرن العشرين. وكان مؤرخو الفن القديم يرون الفن الروماني متمماً للفن الإغريقي وتقليداً له، وأن الفن الإتروسكي لايعدو كونه فناً هجيناً ساذجاً ومتفرعاً عما قدمه الإغريق. إلا أن الكشوف الأخيرة برهنت على غنى هذا الفن وأصالته وخروجه عن الكلاسيكية القديمة. ولايمكن فهم مظاهر الفن والعمارة وغيرهما من أوجه الثقافة الأخرى عند الإتروسكيين منفصلة عن مثيلاتها في بقية مناطق البحر المتوسط المعاصرة لهم، ولاسيما بلاد اليونان ومستعمراتها في الشرق وفي إيطالية. ومما لاشك فيه أن للفن الإتروسكي سماته الخاصة وأنه تأثر بالأساليب الإيطالية المحلية وأنه أثر بدوره في تطور الفن عند الرومان. وقد مر الفن الإتروسكي في تطوره بثلاث مراحل كالفن الإغريقي. فقد كانت الحقبة القديمة (800- 475 ق.م) مرحلة ازدهار كبير للفن الإتروسكي حين ساد الاتحاد الإتروسكي وسط إيطالية والبحار المجاورة له، وكان للحرفيين الإغريق ومنتجاتهم أثرهم في إضفاء سمات خاصة. وفي العصر الهليني (475- 200 ق.م) انحسرت الهيمنة الإتروسكية تدريجياً وأخذ الفن الإتروسكي يبتعد عن الأسلوب الإغريقي وتدنت قيمته الفنية. وعندما بدأت رومة توحد إيطالية في القرنين الرابع والثالث ق.م عاد التأثير الإغريقي الهليني يثبت وجوده مع تعديلات فرضتها المعتقدات الدينية الإتروسكية، وازدادت هذه الاتجاهات وضوحاً في أواخر العصر الهليني الروماني (200- 1 ق.م).
Etruscan couple, National Museum at Florence
النحت: استعمل الإتروسكيون الحجر والطين النضيج (تراكوتا) والمعدن لإنتاج منحوتاتهم. ومعظمها سخر لغايات دينية كالمدافن والنواميس والمرمدات (جرار حفظ رماد الموتى) والنصب المقدمة نذوراً أو التي تزين المعابد. وقد عثر على مرمدات فخارية ذات أغطية برونزية ومرمدات على هيئة كوخ ريفي وعلى أقنعة جنازية تحمل زخارف بسيطة، كما عثر على مباخر وجرار وكؤوس فخارية ومعدنية نقشت عليها شخوص أو حيوانات أليفة أو متخيلة أو نقوش تمثل مشهداً أسرياً، وتعود جميعها إلى حقبة ما قبل التاريخ الأخيرة (القرنين 10 و9 ق.م). أو القرنين الثامن والسابع ق.م ويبدو الأسلوب الإغريقي القديم بتفصيلاته القاسية واضحاً في المنحوتات القديمة كالقنطور الذي يحرس أحد مدافن مدينة فولتشي، وهو تمثال لمخلوق خرافي نصفه رجل ونصفه حصان (نحو 600 ق.م)، كما يظهر التأثير الإيوني اللاحق في تمثال الرجل والمرأة المتكئين على أريكة من الطين النضيج على غطاء ناووس في مدينة كايري نحو (500ق.م)، أما أكثر المنحوتات إثارة فهي تماثيل الآلهة المصنوعة من الطين النضيج بالحجم الطبيعي كتمثال أبولو وهرمس (مركوري) وهرقل وغيرهم في سقف معبد في مدينة فيي أوائل القرن الخامس ق.م أما المنحوتات التي تعود إلى العصر الهليني في معبد ببرغي (نحو 450 ق.م) وهي تمثل صراعاً بين أحد الآلهة وأحد العمالقة في حضور تينية ومنيرفة، وقد عثر في بعض الأضرحة التي تعود إلى العصر الهليني، على مئات النواويس الحجرية والمرمدات المنحوتة من الحجر المسامي أو الكلسي أو الطين النضيج أو المصنوعة من الفخار وعليها ألواح جانبية منقوشة بنحت نافر قليلاً، ولها أغطية تحمل نحتاً نصف بارز يتنوع ما بين أشكال هندسية غير متقنة ونماذج واقعية وفق الأسلوب الإغريقي الهليني، ولاسيما المنحوتات المتأخرة منها. وقد مهد هذا النوع من النحت لظهور الأسلوب الروماني الواقعي فيما بعد.
أما التماثيل البرونزية الكثيرة ومن كل العصور فتشهد على مهارة الإتروسكيين في معالجة البرونز وسكبه، ومعظمها من الحجم الصغير المقدم نذوراً وتمثل محاربين أو نساء أو آلهة، ومنها ما هو بالحجم الطبيعي أو على هيئة حيوان. ولكن ثمة خلاف حول من صنع تمثال الذئب الكبتولي (نحو 500 ق.م) وتمثال شمايرا (ق5- 4 ق.م) وهل هم من الإتروسكيين أم من الإغريق في إترورية.
تابوت الزوجين الشهير في فيلا جوليا
التصوير: صور الإتروسكيون رسومهم على جدران الأضرحة وسقوفها إما مباشرة أو بالجص. وقد عثر في مقبرة تركويني على الكثير من اللوحات الجدارية السليمة كما عثر على لوحات أخرى في فولتشي وفيي وكلوسيوم وآرتيوم. ومعظم الصور الإتروسكية باهتة اللون كامدة ومخططة بالأسود، وبشرة الرجال تضرب إلى الحمرة أما بشرة النساء فبيضاء. وثمة لوحة موجودة في ضريح الثيران (نحو 530 ق.م) تمثل أحد مشاهد حرب طروادة وتصور «أخيل» وقد كمن لأمير طروادي يدعى ترويلوس على صهوة حصان أسطوري طويل. ولكن معظم لوحات الأضرحة القديمة تصور الحفلات والمآدب الجنازية للنبلاء الإتروسكيين، مثل لوحات ضريح أورغوس (أواخر القرن 6ق.م) التي تصور مشهد مصارعة ونوعاً من قتال المجالدة يبدو فيه أحد الرجال وقد ألبس كيساً على رأسه ويهاجمه كلب يثيره شخص آخر. أما اللوحات التي تعود إلى العصر الهليني فيطغى عليها التشاؤم والقسوة كما يبدو في لوحات ضريح فرانسواز في فولتشي (أواخر القرن 4 ق.م)، وهي تصور أحداث الحروب الإتروسكية وذبح الأسرى الطرواديين، وكما يبدو من تكرار تصوير شيطان الموت الوحشي «توشولكا» بوجهه الأزرق المخيف، وإلهة الموت «لاسي» وإله الجحيم «شارو» وهم يرافقون الميت إلى عالم الجحيم المظلم.
الفخار: تبين مصنوعات الفخار التي عثر عليها في تركويني وكايري وفولتشي وغيرها مستوى الإتروسكيين الحضاري، وربما استورد الإتروسكيون الفخار المزين بالرسوم من بلاد الإغريق بكميات كبيرة منذ القرن الثامن أو أنهم نسخوا عنه مصنوعاتهم. ويحمل الخزف الملون من القرن السابع ق.م سمات الأسلوب الكورنثي الأول بألوانه السوداء التي تزين الزهريات وزجاجات العطر والأباريق وغيرها، وأما ما يعود منها إلى القرن السادس ق.م فيغلب عليه الأسلوب الأثنيي بألوانه الحمراء بعد عام 525 ق.م ولكن المنتجات الإتروسكية لم تبلغ النماذج الإغريقية في مستواها.
An Etruscan warrior head figure used as a cippus (grave marker) in the necropolis Crocifisso del Tufo outside Orvieto
العمارة: تعد المعابد الإتروسكية، التي لم يبق منها أي أثر كامل، خير مثال على ما بلغه فن العمارة عند الإتروسكيين وربما كانت المعابد الأولى مبنية من الآجر المجفف بالشمس ومن الخشب، ولم تظهر المعابد المبنية من الحجارة المربعة وفق طراز مميز إلا في القرن السادس ق.م، وهي تكثر في فيي وسيفتيا وكاتسيلانا وأورفيتو وغيرها، وهي مشيدة على نمط المعابد الإغريقية ضمن سياج مسور، إلا أن اتجاه المعبد شمالي جنوبي وفقاً للتقليد الديني الإتروسكي، ويقام فوق مصطبة عالية، وهو مستطيل الشكل، أرضه من الحجر، وله رواق معمد واحد عميق يصعد إليه على درج، ولايمكن دخوله إلا من أمام، وله صفان من الأعمدة، وهي إما ملساء خالية من الزخرف وتستند إلى قاعدة مستديرة ويعلوها تاج توسكاني الطراز، أو مخددة ذات تيجان على النمط الإغريقي، وسقف المعبد على هيئة جملون بسطحين مائلين وواجهة مثلثة ومغطى بالقرميد، وعلى حافتيه ساترات فخارية بأشكال زخرفية أو رؤوس مخلوقات عجيبة، ومثلها أشكال فخارية تستر رؤوس الجسور الخشبية التي تؤلف هيكل السقف. أما جبهة المعبد العليا المثلثة فيغطيها نحت بارز فخاري ملون، وفي العهد الهليني (ق 4 ق.م) غطت المشاهد الملونة واجهات المعبد، وينفتح الرواق على ثلاث حجرات هياكل تحتوي على تماثيل ثلاثة من الآلهة، والوسطى منها هي الأكبر. وعلى الرغم من الشبه الكبير بين المعبدين الإتروسكي والإغريقي فالخلاف بينهما واضح في المواد المستعملة في البناء وفي الزخارف والنسب بين عناصر البناء. وقد اقتبس الرومان في تشييد معابدهم الكثير من قواعد البناء الإتروسكي، وخير مثال على ذلك معبد جوبتر الضخم في كبتول رومة الذي شيد عام 509ق.م، وتزعم المصادر أن النحات الإتروسكي فولكا من مدينة فيي هو الذي نحت تمثال زيوس فوق قوصرة معبد جوبتر، والذي يمثله واقفاً فوق عربة تجرها أربعة جياد. ولاتزال بعض آثار القوصرة قائمة إلى اليوم.
أما المساكن الإتروسكية فتدل الحفريات على وجود قصور للنبلاء تتألف من باحة داخلية تحيط بها الغرف والقاعات، وإلى جانبها بيوت للعامة موحدة البناء تتألف من غرف ثلاث ومدخل.
ويبدو أن الإتروسكيين اقتبسوا بناء العقود والقباب من موطنهم الأصلي ومن بحر إيجة. وقد وجدت مدافن من القرن السادس ق.م مسقوفة بنوع من الأقباء يدعى جشوة (مصطبةtamulus) وهي فردية أو أسرية تسمى «البيت - المقبرة» وقد طورت هذه المدافن فيما بعد فصارت تضم ممراً أو بهواً صغيراً تجتمع حوله غرف الدفن. وكانت مدافن النبلاء من الإتروسكيين تميز من غيرها بواجهاتها المعمارية المقتبسة عن المعابد الهلينية مع استعارات محلية.
المدينة الإتروسكية: دمر الرومان جل المدن الإتروسكية، ثم درستها أحداث القرون اللاحقة فلم يبق من آثارها إلا النادر. وكان يعتقد أن المدن الإتروسكية القديمة كانت عشوائية البناء على نمط التجمعات الزراعية، ولكن الحفريات في بومبي كشفت عن مدينة إتروسكية منظمة من القرن السادس أو السابع ق.م يقوم بنيانها حول شارع عريض يؤلف شريانها الرئيس، ويمكن القول إنها كانت منظمة وفق مخطط الشوارع المتعامدة. ثم صار للمدن الإتروسكية في العصر الهليني بوابات ضخمة مزينة بمنحوتات، وظلت هذه البوابات مألوفة إلى ما بعد السيادة الرومانية حتى قيل إن قوس النصر الروماني لايخرج عن كونه بوابة إتروسكية معدلة. وقد سبقت الإشارة إلى أن أشهر المدن الإتروسكية وأكثرها ازدهاراً، وما بقي من أسوارها ومدافنها ومعابدها أكبر شاهد على حضارة شعب حير العلماء والمؤرخين أصله ومنشؤه.