الأرثوذكسية Orthodoxyكلمة مركبة من لفظتين يونانيتين «أرثوس»، وهي صفة لما هو قويم وسليم و«ذكسا» وهي اسم يدل على الرأي والمعتقد والفكر. فيكون معنى الكلمة اليونانية المركبة «أرثوذكسية» هو المعتقد القويم أو الرأي القويم.
وتطلق كلمة أرثوذكسية، لغةً، على ما يوافق كل تراث، دينياً كان أم غير ديني وتطلق اصطلاحاً على جماعة كبيرة من المسيحيين الذين يقولون إنهم حافظوا على المعتقد الصحيح كما حددته المجامع المسكونية (المجمع المسكوني مؤتمر يُدعى إليه أساقفة العالم كله للتداول في شؤون الكنيسة)، تمييزاً لهم من الذين عُدّوا هراطقة. وفي معظم الأحيان يُطلق الأرثوذكس على كنيستهم أسماء «الكنيسة الأرثوذكسية الكاثوليكية الشرقية» أو «الكنيسة الأرثوذكسية الكاثوليكية في الشرق» أو «الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة» ذلك أن كلمة الكاثوليك تعني «الجامعة» أو العامة، على أنه من الضروري أن لا تؤدي هذه التسميات إلى اللبس. فالكنيسة التي تعد نفسها الكنيسة الجامعة الحقيقية، ليست جزءاً من الكنيسة الكاثوليكية «الرومانية»، ومع أنها تسمى «شرقية» فهي لا تقتصر على العالم الشرقي. ويطلق عليها إيجازاً «الكنيسة الأرثوذكسية».
ويشمل مصطلح الأرثوذكسية اليوم أسرتين من الكنائس.
ـ الكنائس الشرقية غير الخلقيدونية (التي رفضت قرارات مجمع خلقيدونية الذي انعقد في العام 451م) وتضم الكنيسة الأرمنية والكنيسة السريانية (كنيسة اليعاقبة) في سورية والهند. والكنيسة القبطية في مصر وإثيوبية.
ـ الكنائس الشرقية الخلقيدونية وتضم الكنائس الأربع القديمة في القسطنطينية والاسكندرية وأنطاكية والقدس، والكنائس الحديثة في روسية ورومانية وبلغارية وصربية وجورجية فضلاً عن الكنائس المستقلة في قبرص واليونان وألبانية وبولندة وتشيكوسلوفاكية وأمريكة.
تنظيم الكنيسة الأرثوذكسية وبنيتها
الكنيسة الأرثوذكسية أسرة من الكنائس التي تحكم نفسها بنفسها في كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية (دستور الإيمان). وهي تستمد وحدتها من الوحدة في العقيدة والمشاركة في الأسرار، فنظامها «مجمعي» لا مركزي يتمتع بقدر فائق من المرونة والتكيف مع الظروف، إذ يتيح إحداث كنائس محلية ثم إلغاءها من دون أن يؤثر ذلك في حياة الكنيسة.
وفي هذا النظام المجمعي تشغل الكنيسة المحلية موقعاً ذا أهمية بالغة. فكل كنيسة أرثوذكسية محلية هي كنيسة الله برعيتها، وكل راع فيها هو راع في كنيسة اللّه الواحدة.
والشعب المؤمن في رقعة جغرافية معينة (الرعية أصلاً والأبرشية فيما بعد) يجب أن يؤلف وحدة تتجلى في عشاء الرب الواحد. ويؤم هذا الاجتماع الشيخ المسمى اليوم كاهناً، وهو حارس إيمان الجماعة ومركز وحدتها وحياتها المقدسة، من دون أن يؤثر ذلك في وحدة الكنيسة الجامعة أو يتعارض معها. ولذلك يجب ألا يوجد أكثر من أسقف واحد في كل مدينة أو أبرشية، وللأسقف المنصب الأسمى بين المناصب الكهنوتية، ولا تعلو سلطته سلطةٌ أخرى في أبرشيته أو جماعته. ولا يجوز رسم أسقف أو توليته ما لم يكن عضواً في مجمع رسولي أو مجمع كنسي (سنودس). ولكل كنيسة أرثوذكسية سنودس خاص بها يضم المطارنة والأساقفة كافة ويرسم الأساقفة الجدد، ويرأسه البطريرك الذي هو رئيس رؤساء الأساقفة، ويتمتع بصلاحيات واسعة في الأمور الدينية والدنيوية ضمن حدود التقليد الرسولي والقوانين الكنسية.
والكنيسة الأرثوذكسية هي كنيسة المجامع. وكانت المجامع المحلية التي يحضرها أساقفة مقاطعة ما من مقاطعات الامبراطورية تعقد، عموماً، في عاصمة تلك المقاطعة برئاسة أسقفها الذي يحمل رتبة مطران (متروبوليت) لمعالجة القضايا المحلية ووضع الأنظمة بحسب مقتضى الحال. ولما اتسع مدى المجامع في القرن الثالث الميلادي ازدادت أهمية أساقفة المدن الكبرى (العواصم) ونشأت فيها «كراسيُّ أسقفية» تميز من بينها ثلاثة، هي كراسي أنطاكية ورومة والاسكندرية. وعندما تأسست مدينة القسطنطينية وغدت عاصمة الامبراطورية جعل مركزها الأسقفي كرسياً رابعاً. وكانت لكل من هذه الكراسي سلطته على أقطار معلومة، وتسودها جميعها عقيدة واحدة، وتعالج قضاياها الكبرى التي تخص العقيدة أو تهم جميع الكنائس مجامع عامة يحضرها أساقفة الكراسي أو ممثلوهم.
وقد منح المجمع المسكوني الرابع (مجمع خلقيدونية) أساقفة هذه الكراسي لقب بطريرك، الذي كان قد اختص به بطريرك أنطاكية قبل غيره، وأحدث أسقفية القدس وجعل أسقفها بطريركاً فسمى البطريرك الخامس وبذلك نشأ نظام الرئاسة الخماسية في الكنيسة الأرثوذكسية. ومنذ النصف الأول من القرن الثالث أطلق على أسقف الكرسي الاسكندري لقب بابا، وسمي أسقف الكرسي الروماني بابا في الربع الأول من القرن السادس، وفي الربع الأخير من القرن نفسه أطلق أساقفة اليونان على أسقف كرسي القسطنطينية لقب البطريرك المسكوني. وفيما بعد صار لقب البطريرك يطلق على رؤساء الكنائس المستقلة الكبرى لأسباب دينية واجتماعية وسياسية ـ دولية.
العقيدة
تؤكد الكنيسة الأرثوذكسية محافظتها على إيمان الكنيسة الأولى، كما حددته وفسرته المجامع المسكونية وكتابات آباء الكنيسة، وبقاءها أمينة الماضي باستمرارية تقوم على مبدأ تسلمالإيمان ونقله. والمرجع الرئيس في إيمانها هو الكتاب المقدس، مع أنه جزء من «التقليد الشريف» الذي سلمه المسيح للرسل و«التقليد الشريف» يعني أسفار الكتاب المقدس ودستور الإيمانوكتابات آباء الكنيسة وقرارات المجامع المسكونية، فضلاً عن القوانين الكنسية وكتب الليترُجيا (الطقوس والعبادات) والأيقونات أي كل ما عبرت عنه الكنيسة الأرثوذكسية في تاريخها من عقيدة وتنظيم كنسي وعبادة وفن، وهي تعد نفسها حارسة لهذا الإرث الكبير ومن واجبها نقله إلى الأجيال القادمة.
ومع أن الموروث الديني يبقى دوماً موضع الاحترام، إلا أن عناصر «التقليد الشريف» غير متساوية القيمة، فثمة عناصر تعد مطلقة مسلماً بها لا يجوز تغييرها أو إعادة النظر فيها، وفي مقدمتها الكتاب المقدس الذي يشغل المركز الرئيس في التقليد، ودستور الإيمان، والتحديدات العقدية الصادرة عن المجامع المسكونية. أما العناصر الأخرى فلا تتمتع بالقيمة ذاتها، مع الأخذ بالحسبان الفروق بين ما يدخل في «التقليد الشريف» وما يعد من التقاليد المتوارثة التي تتغير وتتبدل بتغير الزمان والمكان.
والكنيسة الأرثوذكسية هي كنيسة المجامع، وإن كان «دستور الإيمان» الذي وضعه المجمعان الأولان (نيقية 325 والقسطنطينية 381) هو الدستور الذي تلتزمه نصاً وروحاً.
العبادة والأسرار المقدسة
إن العبادة في الكنيسة الأرثوذكسية، تمثل واحداً من أهم العوامل في استمرارية هذه الكنيسة والمحافظة على هويتها. والمفهوم القائل بأن الكنيسة قوية بجماهيرها المؤمنة حين تجتمع متحدةً في العبادة هو الصيغة الأساسية للتجربة المسيحية الشرقية، ومن دون هذا المفهوم لا يمكن إدراك الأسس الرئيسة لبنية الكنيسة في الأرثوذكسية ولا عمل الأسقف معلماً وكاهناً أعلى في الطقوس الدينية. وتعد الطقوس الدينية الشرقية تجربة كاملة تستثير ملكات الإنسان العاطفية والعقلية والجمالية، وتستخدم تعابير لاهوتية اصطلاحية وملاحظات وإيماءات مادية وفنوناً مرئية، يقصد منها نقل الإيمان المسيحي للمتعلمين وغير المتعلمين على حد سواء.
وتؤكد جميع التعاليم الأرثوذكسية الشفوية والكتابية المعاصرة أن الكنيسة تعترف بسبعة أسرار مقدسة هي: العماد، والمَيْرون، والقربان المقدس، ورسم الكهنة، والتكفير،ومسحة المرض، والزواج. بيد أنها لم تحدد عدد الأسرار رسمياً لا في «كتاب الصلاة» الذي يتضمن نصوص هذه الأسرار ولا في تعاليم آباء الكنيسة. وفي الواقع لم يعمل أي مجتمع كنسي اعترفت به الكنيسة الأرثوذكسية على تحديد عدد الأسرار، وقد قُبل العدد سبعة فقط في «الاعترافات الأرثوذكسية» التي صدرت في القرن السابع عشر رداً على حركة الإصلاح.
ولاهوت الأسرار الأساسي للكنيسة الأرثوذكسية يرتكز على الفكرة القائلة بالجماعة الإكليريكية سراً وحيداً تؤلف الأسرار الأخرى تعبيراً طبيعياً عنه.
لمحة تاريخية
الكنيسة البيزنطية: يقف قسطنطين الأول عند مفترق تاريخ الكنيسة، فعهد الشهداء والاضطهاد انتهى باعتناقه المسيحية، حين أصدر في عام 313م إعلان براءة ميلانو التي منحت حرية العبادة للمسيحيين، وبعد أن انفرد قسطنطين الأول بحكم الامبراطورية الرومانية بشقيها قرر في عام 324 نقل عاصمتها من إيطالية إلى ضفاف البوسفور. وفي موقع مدينة يونانية قديمة هي بيزنطة شيد العاصمة الجديدة وأطلق عليها اسم القسطنطينية (دشنت رسمياً في 330م).
نشأت القسطنطينية مدينة مسيحية الطابع، تقاطر إليها المسيحيون من كل صوب. وكان نقل العاصمة إليها من رومة، التي كانت تسود فيها الوثنية، إيذاناً بتحول الامبراطورية الرومانية الوثنية إلى امبراطورية مسيحية، ونقطة تحول مهمة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية فقط أصبحت الكنيسة تعايش الامبراطورية وكأنها كيان واحد من دون أن تذوب الواحدة في الأخرى. ورأت الكنيسة في القيصر الابن الروحي الأعلى لها فأعطته امتيازات في داخلها تسليماً بأنه يسوس الامبراطورية باسم المسيح.
بلغت الكنيسة القسطنطينية في مطلع الألف الثاني للتاريخ المسيحي أوج نفوذها وقوتها في العالم المسيحي إذ أصبحت بيزنطة مركز الحضارة المسيحية من دون منازع بعد أن وسّع أباطرتها من الأسرة المقدونية حدود امبراطوريتهم من بلاد الرافدين حتى نابولي ومن نهر الدانوب حتى فلسطين. ولم تكتف كنيسة القسطنطينية بهذا التوسع بل تعدته إلى توسيع رقعة تبشيرها وراء حدود الامبراطورية السياسية وتخطتها حتى بلغت روسية والقفقاس.
العلاقات بين الكنيسة والدولة: منذ عهد قسطنطين الأول (القرن الرابع) سادت بيزنطة نظرية تفترض وجود مجتمع مسيحي عالمي واحد تقوده الكنيسة والامبراطورية معاً. وكانت سلطة بطريرك القسطنطينية مستمدة اسمياً من واقع كونه أسقف «رومة الجديدة» وكان يحمل لقب «البطريرك المسكوني» الذي يشير إلى شأنه السياسي في الامبراطورية. إلا أنه من الناحيةالوظيفية كان يحتل المرتبة الثانية، بعد أسقف رومة، في السلسلة الهرمية لكبار الأساقفة الخمسة الأسْمَيْن التي تضم كذلك بطاركة كل من الاسكندرية وأنطاكية والقدس.
بيد أن سلطة الثلاثة الأخيرين تقلصت بعد الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع، ولم يبق من منافس لكنيسة القسطنطينية سوى الكنائس السلافية التي نشأت فيما بعد والتي كانت تحاول من حين إلى آخر الاعتراض على مكان القسطنطينية مركزاً وحيداً للعالم المسيحي الشرقي.
أما العلاقات بين الدولة والكنيسة في بيزنطة فوصفت مراراً بأنها «قيصرية - باباوية» وهذا يدل ضمناً على أن الامبراطور كانت يشغل عملياً منصب رئيس الكنيسة. بيد أن النصوص الرسمية تصف الامبراطور والبطريرك بالحكومة الثنائية وتقارن وظيفتها بوظيفة كل من الروح والجسد في الجسم الواحد، وكان للامبراطور عملياً اليد العليا في كثير من شؤون الكنيسةالإدارية كما استطاع بعض البطاركة المتنفذين القيام بأدوار سياسية بالغة الأهمية. ولم تكن فكرة القيصرية ـ الباباوية تُوائم البيزنطيين ولاسيما في ميدان الديانة والعقيدة إذ لم يستطع الأباطرة البيزنطيين فرض إرادتهم حين كانت تتناقض وضمير الكنيسة، وقد ظهرت هذه الحقيقة جليةً في المحاولات الكثيرة للاتحاد مع رومة في أواخر القرون الوسطى.
الحركات الرهبانية: استمر تطور الحركات الرهبانية في عاصمة بيزنطة وغيرها من المراكز على النحو الذي اتخذته في العصور المسيحية الأولى. وكان دير ستوديون Studion في القسطنطينية يضم نحو ألف راهب وقفوا أنفسهم على الصلاة والطاعة والنسك. واتصف هؤلاء الرهبان بمعارضتهم للحكومة وللرسميات الكنسية (الإكليريكية) مدافعين عن المبادئ المسيحيةالأساسية في مواجهة التسويات السياسية. وقد تبنت أديرة البنات قوانين دير ستوديون (مناهج حياة الأديرة) ولا سيما دير كافس Caves الشهير في مدينة كييف. وفي عام 963 منح الامبراطور البيزنطي نقفور الثاني فوكاس حمايته للقديس إثناسيوس الأتوسي الذي لا يزال ديره مركز جمهورية أديرة جبل أتوس المستقلة (تحت حماية اليونان). وكتابات القديس سيمون (949- 1022) رئيس دير القديس ماماس في القسطنطينية أبرز مثال على تصوف المسيحية الشرقية، وكان لها تأثير فاعل في التطورات اللاحقة للكنيسة الأرثوذكسية.
البعثات التبشيرية: انتشرت البعثات التبشيرية المسيحية البيزنطية في شرقي أوربة فأصبحت بلغارية في القرن التاسع أرثوذكسية وأُسست بطريركيتها المستقلة إدارياً في عهد القيصر سيمون (893- 927)، وهكذا فإن كنيسة جديدة، وليدة الكنيسة البيزنطية تتكلم اللغة السلافية، بسطت نفوذها على شبه جزيرة البلقان، بيد أنها سرعان ما فقدت استقلالها السياسي والكنسي بعد استيلاء الامبراطور البيزنطي باسيل الثاني عليها. إلا أن بذرة الأرثوذكسية السلافية كانت قد زُرعت وتأصلت فيها. وفي عام 988 اعتنق أمير كييف فلاديمير الأرثوذكسية البيزنطية وأصبحت روسية بعد هذا التاريخ مقاطعة كنسية يرأسها مطران يوناني تعينه القسطنطينية. وقد تبنت روسية في تلك المرحلة تراث الحضارة البيزنطية الديني والفني والاجتماعي وطورته.
العلاقات مع الغرب والانشقاق الكبير: كانت العلاقات مع الغرب اللاتيني في تلك الآونة تزداد غموضاً. فمن جهة عدّ البيزنطيون العالم الغربي بكامله جزءاً من امبراطوريتهم التي يرأسها امبراطور بيزنطة ويشغل الأسقف الروماني منصب الشرف فيها، ومن جهة ثانية اعترض أباطرة الفرنجة والألمان على هذه التسمية وتحدّوها. واتَّسعت الهوة بين الشرق والغرب بسبب المنافسات السياسية في إيطالية بين البيزنطيين والألمان وبسبب التغيرات المبدئية التي فرضتها الحركة الإصلاحية التي بدأها رهبان كلوني في فرنسة، ولم تسفر الجهود التوفيقية التي بذلت عن شيء، وتبادل الطرفان الاتهامات حول نقاط المذهب والطقوس الدينية وسرعان ما أصدر كل منهما صك الحرمان الكنسي بحق الآخر في عام 1054 ويُعدّ هذا العام تاريخ الانشقاق (مع أن الانشقاق حصل تدريجياً بعد عملية طويلة ومعقدة، بدأت قبل ذلك بكثير وأسهمت فيها التباعدات الثقافية والسياسية والدينية).
وكان ثمة أمل في البدء لرأب الصدع وإصلاح ذات البين إلا أن الانفصال تمّ منذ ذلك التاريخ وفقدت جسور الاتصال ولا سيما في زمن الحروب الصليبية، إذ عمل الصليبيون على إقامة إمارات لاتينية على الأراضي التي كانت تعد ضمن دائرة نفوذ كنيسة القسطنطينية ووضعوا أساقفة من اللاتين مكان الأساقفة الشرقيين في أنطاكية والقدس بعد احتلالهم هاتين المدينتين القديمتين (1098 - 1099)، وبلغت الأزمة ذروتها حين استولى الصليبيون على القسطنطينية ونهبوها في عام 1204 وأقاموا امبراطوراً من اللاتين على العرش فيها ونصّبوا بطريركاً من اللاتين على كرسيها الرسولي. وهكذا اجتمع الجدل اللاهوتي والكراهية الوطنية معاً ليزيدا في هوة الانشقاق أكثر فأكثر.
وفي غمرة تلك الأحداث سعت الكنيستان البلغارية والصربية نحو استقلالهما الكنسي، فنالت الكنيسة البلغارية حق الاستقلال الكنسي وإقامة بطريركيتها ثانيةً في ترنوفو (1235)، وأسس الصرب كنيستهم المحلية ونصبوا أسقفاً مستقلاً لها في عام 1219. أما الكنيسة الروسية فحافظت، على الرغم من الغزو المغولي لروسية (1237- 1448)، على بقائها منظمةً اجتماعية متحدة وحيدة في البلاد من جهة، وحاملة لواء التراث البيزنطي من جهة ثانية، وظل رئيس الكنيسة الروسية (مطران كييف الذي عينه مجمع نيقية) يحظى باحترام الخانات المغول وخُوَّل سلطة الاتصال برئيسه الأعلى (البطريرك المسكوني) واكتسب مكانة رفيعة واحتفظ بسلطة كنسية على مناطق واسعة تمتد من جبال الكربات حتى نهر الفولغا.
وبعد ذلك استعادت أسرة باليولوغس البيزنطية القسطنطينية من اللاتين وحكمتها بين عامي 1261 و1453، بيد أنها ما استطاعت إعادة الامبراطورية إلى ما كانت عليه من قوة ونفوذ إذ كانت المعارك تجري على امتداد حدودها والحروب الأهلية تمزقها ورقعة أراضيها تتقلص حتى وقفت عند ضواحي العاصمة نفسها.ومع ذلك حافظت بطريركية القسطنطينية في تلك الآونة على نفوذها القديم فمارست سلطاتها الشرعية على رقعة أوسع ضمت روسية والقفقاس، وخاصة الجنوبي، وأجزاء من الأراضي البلقانية، إلا أنها لم تتمكن - من دون الدعم العسكري للامبراطورية القوية - من إعادة نفوذها على كنائس بلغارية وصربية. وفي عام 1346 أعلنت الكنيسة الصربية نفسها بطريركية، واحتجت القسطنطينية على ذلك، بيد أنها عادت واعترفت بها في عام 1375. أما في روسية فتورطت الدبلوماسية الإكليريكية البيزنطية في نزاع أهلي عنيف بين كبار أمراء موسكو وليتوانية للظفر بقيادة الدولة الروسية المحررة من المغول، وكان لتأييد السلك الإكليريكي أثر بارز في انتصار أمراء موسكو مما ترك أثراً واضحاً في تاريخ روسية اللاحق.
الأرثوذكسية ما بين عامي 1453 و1821:
استولى العثمانيون على القسطنطينية سنة 1453، وتركوا للمسيحيين حرية العبادة وقد سمح السلطان العثماني في عام 1454 بانتخاب بطريرك جديد للقسطنطينية سمي «ملة باشي» رئيساً للمسيحيين جميعاً يحق له الاضطلاع بالإدارة وجباية الرسوم وممارسة السلطة القضائية على المسيحيين في الامبراطورية العثمانية، وهكذا استعاد بطريرك القسطنطينية في ظل الحكم الجديد حقوقه السابقة وامتدت سلطته الشرعية واتسعت أكثر فأكثر حتى بات بوسعه، بعد أن منحه السلطان العثماني امتيازات كثيرة، أن يبسط نفوذه على نظرائه من الأساقفة الأرثوذكس الآخرين. كما اتسعت سلطاته لتشمل السلطات السياسية إلى جانب السلطات الكنسية والروحية. وكان للنظام العثماني الجديد آثار ملحوظة في الكنائس القديمة في حوض البحر المتوسط والبلقان، فالدعم الذي منحه العثمانيون لأسقف القسطنطينية، الشخصية الإدارية الرسمية «لملة الروم»، زاد من سيطرة اليونانيين على هيئة الكهنوت فشغل الأساقفة اليونان مراتبها المتسلسلة كافة، وأصبحت البطريركيات القديمة في الشرق الأوسط تخضع لسلطة الفنار (حي في اصطنبول أقيمت فيه البطريركية الأرثوذكسية)، كما أن الكنيستين البلغارية والصربية انتهتا إلى المصير نفسه إذ فقدتا، رسمياً. آخر مزايا استقلالهما على يد بطريرك القسطنطينية صموئل هانتشرلي.
وعلى النقيض من ذلك فقد بدأت روسية تنهض بعزم حتى غدت في خاتمة المطاف من الدول العظمى وحملت لقب «رومة الجديدة» وغدت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تبعاً لذلك، بطريركية جديدة في عام 1589 بموافقة القسطنطينية واعتراف البطريركيات الشرقية الأخرى فحصلت على المرتبة الخامسة ضمن الترتيب الفخري لكراسي الأسقفيات الشرقية بعد بطريركيات القسطنطينية والاسكندرية وأنطاكية والقدس. وكان القياصرة الروس بعد القرن السادس عشر يعدّون أنفسهم خلفاء الأباطرة البيزنطيين والحماة السياسيين والممولين للأرثوذكسية في البلقان والشرق الأوسط وبذلوا جهوداً كثيرة للحفاظ على تقاليد المسيحية البيزنطية التي سادت العصور الوسطى. بيد أن روسية القيصرية كانت تختلف تماماً عن الامبراطورية البيزنطية في نظامها السياسي والمعرفة الثقافية الذاتية: فالوفاق البيزنطي بين القيصر والبطريرك لم يحصل أبداً في روسية، والأهداف الدنيوية لدولة روسية كانت تحل على الدوام محل المصالح الكنسية والدينية، ولم يستطع أساقفة موسكو مجاراة أسلافهم الأقوياء من البيزنطيين فلم يكن لهم حول ولا طول إزاء تجاوز القياصرة للعقائد والتشريعات الكنسية.
وقد شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر سلسلة من الأزمات الحادة بين الكنيسة والقيصرية انتهت إلى انتصار الأخيرة حين أطاح بطرس الأكبر (1682- 1725) نهائياً بالبطريركية في عام 1712 وحوّل إدارة الكنيسة إلى دائرة حكومية عرفت باسم المجمع الحاكم المقدس وأصدرت قانوناً روحياً حدد النظم الداخلية لكل النشاطات الدينية في روسية، وبدأت الكنيسة بذلك عهداً جديداً في تاريخها استمر حتى عام 1917.
الأرثوذكسية في القرن التاسع عشر: بعد تحرر البلقان من السيطرة التركية ظهرت فيه دول قومية لها كنائس مستقلة تحكم نفسها بنفسها، إذ رافق ضعف الحكم العثماني تقلص السلطة الفعلية التي كانت تمارسها بطريركية القسطنطينية. فاليونانيون، الذين كانوا يرون في البطريركية أمل المستقبل، كانوا أول من أقاموا كنيسة قومية لهم في دولتهم الجديدة (1833) وصاغوا نظاماً من مجمع كنسي مقدس يحكم الكنيسة بإشراف حكومي، وقد اعترفت البطريركية بالاستقلال الذاتي للكنيسة الجديدة في اليونان عام 1850.
وفي صربية نال رجال السلك الكهنوتي الصربي استقلالهم الذاتي بعد استقلال صربية عام 1832، وفي عام 1879 اعترفت القسطنطينية بالكنيسة الصربية كنيسة تحكم نفسها بنفسها، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت في الامبراطورية النمسوية المجرية كنيستان تمارسان السلطات الشرعية على صربية ورومانية والبلاد السلافية الأخرى هما بطريركية كارلوفتز ومطرانية زرنوفتز (شيرنوفستي اليوم). أما الأبرشيات الصربية في البوسنة والهرسك التي كانت تحت الإشراف النمسوي عام 1878 فحافظت على استقلالها الذاتي، إلا أنها لم تتمكن مطلقاً من الاستقلال الكامل عن القسطنطينية.
وقيام رومانية دولةً مستقلةً بعد قرون من الاحتلال الأجنبي لها حفز الكنيسة الرومانية في عام 1865 على التصريح بأنها كنيسة تحكم نفسها بنفسها، بيد أن القسطنطينية لم تعترف بهاإلا في عام 1885.
أما بلغارية فلم تخل عملية إعادة تأسيس الكنيسة البلغارية من المآسي والانقسامات إذ أنها جاءت في الوقت الذي كان يعيش فيه البلغار واليونانيون جنباً إلى جنب في كل من مقدونية وتراقية والقسطنطينية التي كانت ما تزال خاضعة للحكم العثماني الداعم لليونانيين على حساب البلغار. وفي القرن التاسع عشر تفاقم الخلاف بين الطرفين فكان فرمان السلطان العثماني عام 1870 الذي قضى بإقامة كنيسة بلغارية وطنية يرأسها نائب بطريرك بلغاري يقيم في القسطنطينية ويحكم جميع البلغار الذي يعترفون به.
وفي روسية استمر القانون الروحي الذي وضعه بطرس الأكبر ساري المفعول حتى سقوط القيصرية الروسية عام 1917، بيد أن كثيراً من رجال الكنيسة عارضوا خضوع الكنيسةللدولة من دون أن يستطيعوا شيئاً. ومع أن بطرس الأكبر وخلفاءه من بعده نزعوا إلى معالجة شؤون الكنيسة مباشرة، فقد فوض القياصرة في القرن التاسع عشر السلطة إلى ممثلين عنهم في الكنيسة واختاروهم من بين المتنفذين فيها بعد منحهم مناصب وزارية في الحكومة. وكانت الكنيسة الروسية أكثر غنى واتساعاً من شقيقاتها في البلقان والمشرق فأسست المعاهد اللاهوتية والحلقات الدراسية ومدت يد المساعدة إلى آلاف المدارس والبعثات التبشيرية.
الكنيسة الأرثوذكسية بعد الحرب العالمية الأولى:
كان لانحسار المسيحية من آسيا الوسطى ولإعادة تجمع الكنائس الأرثوذكسية في البلقان، ولمأساة الكنيسة على يد الثورة البلشفية وللشتات الأرثوذكسي في الغرب، آثارها البالغة في إحداث تغيرات جذرية في بنية العالم الأرثوذكسي.
الكنيسة الأرثوذكسية في المشرق: إثر الحرب اليونانية التركية رُحِّل جميع السكان المنحدرين من أصل يوناني من تركية إلى اليونان واقتصرت سلطة بطريركية القسطنطينية المسكونيةعلى ما تبقى من الأرثوذكس في اصطنبول وضواحيها، إلا أنها بقيت تمسك بالزعامة الفخرية بين الكنائس الأرثوذكسية الأخرى وتمارس سلطاتها على عدد من أبرشيات المهاجرين الأرثوذكس وعلى الجزر اليونانية بموافقة حكوماتها.
وتؤلف بطريركيات أنطاكية والاسكندرية والقدس إلى جانب البطريركية المسكونية بقايا الامبراطورية البيزنطية الغابرة، بيد أنها ما تزال تمتلك في أوضاعها الراهنة فرصاً للتطور: فبطريركية الاسكندرية مركز للطوائف الإفريقية المتنامية، وبطريركية أنطاكية ومقرها دمشق تؤلف أكبر مركز للتجمع المسيحي العربي بأبرشياتها المنتشرة في سورية ولبنان والعراق، وبطريركية القدس خير حارس للأماكن المقدسة في مدينة القدس.
والكنيستان القديمتان، كنيسة قبرص وكنيسة جورجية، ما تزالان ذاتي شأن بين شقيقاتهما. فالكنيسة القبرصية التي استقلت منذ عام 431 حافظت على بقائها، واستطاع أساقفتها ممارسة حرياتهم الدينية، ولا سيما في زمن سيطرة المسلمين على الجزيرة، والكنيسة الجورجية شاهد على تقاليد الكنيسة القديمة وقد استقلت عن أمها كنيسة أنطاكية في مطلع القرن السادس وطورت حضارة أدبية وفنية بلغتها الخاصة.
الكنيسة الروسية: عانت الكنيسة الروسية سلسلة من الأزمات وتعرضت لكثير من الهزات بعد سقوط القيصرية، ولاسيما بعد عام 1922، إذ صادرت الحكومة السوفييتية ممتلكات الكنيسة ووضعت البطريرك تحت الإقامة الجبرية وأسهمت في تفتيت وحدة الكنيسة وأضعفت مقاومتها. وفي عهد جوزيف ستالين في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين تعرضت الكنيسة لاضطهادات ذهب ضحيتها الآلاف من رجال الدين. وفي عهد البطريرك ألكسيس (1945- 1970) استعادت الكنيسة بعض حيويتها وتمكنت من افتتاح عدد كبير من الكنائس، بيد أن الحكومة شنت حملة جديدة عليها وخفضت عدد الكنائس المفتوحة. ومع مرور عشرات الأعوام على الدعاية المناهضة للدين فقد ظل ملايين الأتباع يحتفظون بولائهم للكنيسة، كما وجب على زعماء الكنيسة في الوقت ذاته إظهار ولائهم المطلق للحكومة السوفييتية للحفاظ على الكنيسة من الضياع.
البلقان وشرقي أوربة: بعد أن سقطت الدولة العثمانية والامبراطوريتان النمسوية والروسية في أعقاب الحرب العالمية الأولى طرأت تغيرات مهمة على بنى الكنيسة الأرثوذكسية. ففي الجمهوريات المستقلة حديثاً (فنلندة ولاتفية وإستونية وليتوانية) أعلنت الأقليات الأرثوذكسية استقلال كنائسها، كما قامت في بولونية كنيسة تحكم نفسها بنفسها. أما التغيرات في البلقان فكانت ذات أهمية خاصة، فقد اتحدت المجموعات الخمس لأبرشيات صربية تحت لواء بطريرك واحد مقره بلغراد عاصمة الاتحاد اليوغسلافي (سابقاً)، كما أن أبرشيات رومانية ألّفت بطريركية رومانية الجديدة في عام 1925 وهي أكبر الكنائس البلقانية التي تحكم نفسها بنفسها. وفي عام 1937 اعترفت كنيسة القسطنطينية باستقلال كنيسة ألبانية. أما الكنيسة اليونانية فحافظت على مكانتها الشرعية التي اكتسبتها منذ القرن التاسع عشر وحظيت بتأييد جميع الأنظمة التي توالت على اليونان.
الأرثوذكسية في الولايات المتحدة : ظهرت الكنيسة الأرثوذكسية أول الأمر في القارة الأمريكية في صورة بعثة تبشيرية لمواطني ألاسكة وجزر أليوت التي كانت أراضي روسية حتى عام 1867. ووصل أول المبشرين هناك في أواخر القرن الثامن عشر وأُحدثت أبرشية مستقلة على جزر أليوت وألاسكة في عام 1871، ثم انتقل كرسي هذه الأبرشية إلى سان فرانسيسكو وسميت «أبرشية جزر أليوت وشمالي أمريكة» (1900). وأخذه هذه الكنيسة تطبق تشريعاتها الكنسية في معظم الجزء الشمالي من القارة الأمريكية، وكانت تقوم بخدمة المهاجرين من اليونان وصربية وسورية وألبانية وغيرها. إلا أن بعض الطوائف اليونانية والرومانية استدعت قساوسة من بلادها الأصلية. وفي عام 1921 أقامت كل جماعة قومية كنيسة خاصة بها ترتبط بالكنائس التي تنتمي إليها تلك القوميات في العالم القديم: أسقفية يونانية وأسقفية سورية ومطرانية صربية ومطرانية رومانية وغيرها.
الشتات الأرثوذكسي والبعثات التبشيرية: منذ الحرب العالمية الأولى توزع الملايين من سكان أوربة الشرقية في مناطق مختلفة لم يسكنها الأرثوذكس من قبل. فالثورة الشيوعية تسببت بهجرات واسعة إلى أوربة الغربية ولا سيما فرنسة، وحاولت بطريركية موسكو أن تفرض وصايتها على الكنائس الأرثوذكسية في الشتات (1925). بيد أنها لاقت معارضة كبيرة من الأساقفة الذين غادروا أبرشياتهم وفروا من روسية وحلّوا ضيوفاً على الكنيسة الصربية، فحولوا مركز قيادتهم إلى نيويورك باسم «الكنيسة الروسية الأرثوذكسية خارج روسية» ولم يقيموا أي علاقات كنسية رسمية مع البطريركيات والكنائس الأرثوذكسية، كما وجدت «الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية في الشتات» نفسها في الوضع الكنسي ذاته، وانضمت مجموعات أرثوذكسية أخرى في الشتات إلى البطريركية المسكونية.
وبعد الحرب العالمية الثانية هاجر كثير من اليونانيين إلى أوربة الغربية وأسترالية ونيوزلندة وإفريقية. وفي إفريقية استطاع المهاجرين اليونان اجتذاب عدد لا بأس به من الأفارقة إلى الأرثوذكسية في أوغندة وكينية وتنزانية.
الحركات المسكونية الأرثوذكسية: في المرحلة الفاصلة بين الحربين العالميتين شارك كثير من رجال الكنيسة التابعين للبطريركية المسكونية في القسطنطينية ولكنائس اليونان والبلقان ومن المهاجرين الروس في حركات مسكونية أرثوذكسية. وبعد الحرب العالمية الثانية لم توفّق الكنائس الأرثوذكسية في البلدان الشيوعية بالانضمام إلى المجلس العالمي للكنائس في عام 1948. وفي عام 1961 تغير الوضع فجأة حين تقدمت بطريركية موسكو بطلب العضوية وتبعتها كنائس أخرى. وأعلن الأرثوذكسيون نحو عام 1961 أنهم عازمون على البحث في أفضل السبل لإعادة الوحدة المسيحية وعلى دراسة مسائل العمل المسيحي المشترك في العالم المعاصر.
وحين نشطت الكنيسة الرومانية في الحركة المسكونية بادرت الكنيسة الأرثوذكسية، بعد تردد، إلى المشاركة بجهودها في الجو الجديد.
وكانت الاجتماعات الأخيرة التي عقدت بين البطريرك والبابا في اصطنبول ورومة ورفع الحُرْم الكنسي القديم وغير ذلك مؤشرات تدل على التقارب بين الكنيستين وتُفسِّر في بعض الأحيان كما لو أنها أنهت الانشقاق نفسه.
الكنائس الأرثوذكسية اليوم
الكنائس الخلقيدونية (البيزنطية): وتضم البطريركيات الأربع القديمة، ونحو خمس عشرة كنيسة يتمتع أكثرها باستقلال ذاتي.
ـ بطريركية القسطنطينية المسكونية، ومقرها اصطنبول، وتتمتع بالسيادة الفخرية على الكنائس الأرثوذكسية ويحمل بطريركها لقب البطريرك المسكوني. ومع أنه من اليونانيين بسبب سيطرة هؤلاء على الكنيسة في العهد العثماني، فإن الحكومة التركية تفرض على من ينتخب لهذا المنصب أن يحمل الجنسية التركية. وقد تقلصت رقعة نفوذ هذه البطريركية بعد فتح القسطنطينية، ويتبع لها اليوم تركية وبعض جزر بحر إيجة، وبعض أبرشيات اليونانيين والأوكرانيين والبولونيين والألبان في المهجر، وجبل أتوس (عشرون ديراً رهبانياً منها سبعة عشر ديراً يونانياً، ودير للصرب وآخر للبلغار وثالث للروس). ويبلغ عدد رعاياها مجتمعة نحو ثلاثة ملايين.
ـ بطريركية الاسكندرية وسائر إفريقية، ويحمل بطريركها لقب بابا وبطريرك، وهو من اليونانيين وتتبع لها كل إفريقية ويقدر عدد رعيتها بنحو ثلاثمئة ألف.
ـ بطريركية أنطاكية وسائر المشرق، ومقرها دمشق،وتشمل ست عشرة أبرشية وثماني معتمديات بطريركية. ويتوزع رعاياها (نحو 12 مليوناً) في سورية ولبنان والعراق وأوربة الغربية وأمريكة وأسترالية.
ـ بطريركية أورشليم القدس وسائر فلسطين، وهي الرابعة في ترتيب الكنائس الأرثوذكسية، وتشغل مركزاً بارزاً، لكونها من أقدم الكنائس في أقدس المدن المسيحية، وتتولى حماية الأماكن المقدسة. وبطريركها ومجمعها من اليونانيين مع كون رعيتها في فلسطين والأردن عربية، بسبب سيطرة اليونانيين على الكنيسة الأرثوذكسية البيزنطية في العهد العثماني. وعدد رعي هذهالبطريركية قليل لا يتجاوز ثلاثين ألفاً.
ـ كنيسة قبرص، وهي أولى الكنائس المستقلة ويرأسها رئيس أساقفة. وكانت تضم خمس أبرشيات اثنتان منها في القسم التركي من الجزيرة.
ـ كنيسة سيناء، وتتكون من دير واحد هو دير القديسة كاترينا عند سفح طور سيناء، يرأسها رئيس أساقفة ينتخبه الرهبان (100راهب) ويقيمه بطريرك القدس.
ـ بطريركية موسكو وكل روسية، ومقرها موسكو وقد أقيمت فيها البطريركية بعد فتح القسطنطينية وعدد رعيتها نحو مئة وخمسين مليوناً.
ـ بطريركية صربية، ومقرها بلغراد وكانت تشمل يوغسلافية السابقة عدا جمهورية الجبل الأسود التي فصلها النظام الشيوعي السابق عن البطريركية. عدد رعيتها نحو عشرة ملايين.
ـ بطريركية رومانية، ومركزها بوخارست، وعدد رعيتها اثنا عشر مليوناً.
وثمة إحدى عشرة كنيسة مستقلة هي:
ـ كنيسة اليونان، ويرأسها رئيس أساقفة، وعدد رعيتها نحو عشرة ملايين.
ـ بطريركية جورجية والبلاد الكرجية، انتشرت المسيحية في جورجية منذ القرن الرابع وارتبطت ببطريركية أنطاكية حتى القرن الثامن ثم تبعت الكنيسة الروسية إلى أن استقلت في عام 1917. عدد رعيتها نحو أربعة ملايين.
ـ كنيسة ألبانية، وكانت ترتبط بالقسطنطينية حتى عام 1937، مقرها تيرانة وفيها رئاسة أساقفة. وعدد رعيتها نحو ثلاثمئة ألف.
ـ كنيسة بولونية، وهي رئاسة أسافقة، ومقرها وارسو.
ـ كنيسة تشيكوسلوفاكية (سابقاً)، ومقرها براغ، وفيها رئاسة أساقفة.
ـ كنيسة هنغارية، ومقرها بودابست، وفيها دير بيزنطي.
ـ ثلاث كنائس مستقلة ذاتياً في فنلندة واليابان والصين لم تحصل على استقلالها التام إلى اليوم. فضلاً عن عدد من الأبرشيات الأرثوذكسية في أوربة الغربية والأمريكيتين، وفي آسيا وأسترالية وإفريقية، وتتبع كل أبرشية منها لكنيسة أو لأخرى، ويتمتع بعضها باستقلال ذاتي.
الكنائس الأرثوذكسية اللاخلقيدونية: وتضم ست بطريركيات وكنيستين مستقلتين.
ـ بطريركية الاسكندرية وسائر الكرازة المرقصية للأقباط الأرثوذكس، ومقرها القاهرة، وتقدر رعيتها بنحو ثمانية ملايين (والكرازة تعني الوعظ بالحقائق المسيحية).
ـ بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، ومقرها دمشق، وتقدر رعيتها بنحو مليوني سرياني في سورية ولبنان والدول الاسكندنافية فضلاً عن وجود نحو مليون سرياني في الهند. ولذلك يدعى بطريركها الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم.
ـ أربع بطريركيات أرمنية للأرمن الأرثوذكس هي: بطريركية اتشميازين في يريفان عاصمة أرمينية، وبطريركية كيليكية في أنطلياس (لبنان) وتتبع لها أبرشيات سورية ولبنان وقبرص وكريت وإيران والولايات التحدة، وبطريركية القدس وهي تاريخية وتشمل فلسطين والأردن ولها ربع كنيسة القيامة ونصف كنيسة ميلاد المسيح، وبطريركية القسطنطينية وهي مركز تاريخي كذلك وعدد رعيتها قليل وتشمل تركية وأجزاء من أوربة.
ـ كنيسة الحبشة، وكانت مرتبطة ببطريركية الأقباط الأرثوذكس في القاهرة ثم استقلت، ورعيتها نحو ثلاثين مليوناً.
ـ الكنيسة الآشورية الأرثوذكسية، ومقرها بغداد، ولرعيتها وجود في الولايات المتحدة (الكنيسة الرسولية الآشورية الأمريكية في شيكاغو) وفي سورية ولبنان والهند وإيران وأستراليا وإيطالية، ويصل عدد أفراد رعيتها إلى نحو نصف مليون.
الأرثوذكسية واتحاد المسيحيين
المبدأ الأساسي الذي يأخذ به الأرثوذكسيون في جميع علاقاتهم المسكونية هو وحدة الإيمان وليس وحدة التنظيم. فالكنيسة الأرثوذكسية أسرة من الكنائس الشقيقة، الأمر الذي يسمح للمسيحيين الآخرين بالانضمام إلى الأرثوذكسية من دون أن يؤثر ذلك في استقلالهم الذاتي. والأرثوذكسية تطالب الطوائف المسيحية الأخرى بتقبّل التقليد الشريف بمجمله، والتقليد الشريف يتميز من التقاليد (العادات) إذ إن كثيراً من الأمور التي يؤمن بها الأرثوذكسيون لا تؤلف جزءاً من التقليد الشريف بل هي آراء لاهوتية لا يجوز فرضها على الآخرين. فمن الممكن أن يكون الناس على وحدة كاملة في الإيمان، وفي الوقت نفسه تختلف آراؤهم اللاهوتية في بعض الميادين.
والمبدأ الأساسي القائل إنه ما من لقاء من دون وحدة في الإيمان يفضي إلى أنه لا يمكن أن يكون ثمة مشاركة في الأسرار بين المسيحيين المنتمين إلى طوائف مختلفة ما لم تصبح وحدة الإيمان أمراً محققاً.