الكبد أكبر غدة في البدن، يتوضع في القسم العلوي الأيمن من البطن، ويشغل كامل المراق اليمنى ويمتد إلى الشرسوف والمراق اليسرى، وتحيط به محفظة تدعى محفظة غليسون Glisson. يبلغ متوسط وزن الكبد 1400غ عند النساء و1800غ عند الرجال. تُميز ثلاثة وجوه للكبد هي: الوجه العلوي (أو الأمامي العلوي)، والوجه السفلي (أو السفلي الخلفي)، والوجه الخلفي. يأخذ الوجه العلوي للكبد شكلاً محدباً منتظماً ينطبق على الوجه السفلي للحجاب الحاجز، وينقسم إلى قسمين أو فصين هما أيمن كبير وأيسر صغير يفصل بينهما الرباط المدورround ligament، والرباط المنجلي (أو الرباط المعلق) ligament falciparum الذي يرتكز على الحجاب الحاجز. يمكن تمييز تلمين على الوجه السفلي للكبد هما التلم sulcus السري الذي يتمادى مع الرباط المدور، والتلم المعترض (ويدعى أيضاً سرة الكبد أو باب الكبد porta hepatis) الذي يضم انقسام وريد الباب والشريان الكبدي والقناة الجامعة إلى فروعهما اليمنى واليسرى. يأخذ هذا الوجه شكلاً غير منتظم إذ إنه يحمل انطباعات الأعضاء المجاورة التي تقع بتماس الكبد وهي المعدة والعفج والزاوية اليمنى للقولون والكلية اليمنى والمرارة التي تتوضع في حفيرة صغيرة على سطح الكبد تدعى المسكن المراري.
يقسم الكبد إلى فصين أيمن كبير وأيسر صغير يفصل بينهما الرباط المنجلي، يضاف اليهما فصان آخران صغيران هما الفص المذنب والفص المربع اللذان تتضح حدودهما على الوجه السفلي للكبد. إلا أن الدراسات الحديثة بينت أن الفصين المربع والمذنب يشكلان من الناحية الوظيفية جزءاً من الفص الأيسر إذ إن توعيتهما الوريدية والشريانية والصفراوية تتم عن طريق الفروع اليسرى لوريد الباب والشريان الكبدي والقناة الصفراوية. يقسم الجراحون في الوقت الحاضر الكبد إلى ثماني قطع لكل منها تروية دموية وصفراوية مستقلة مما يسهل عملهم في أثناء قيامهم بقطع جزء من الكبد.
يتميز الكبد من باقي أعضاء البدن بأن ترويته الدموية تتم عن طريقين: طريق وريد الباب الذي يجلب نحو سبعين بالمئة من الدم الذي يدخل إلى الكبد، والشريان الكبدي الذي يجلب قرابة ثلاثين بالمئة من الدم. ينقسم وريد الباب في سرة الكبد إلى فرعين أيمن وأيسر يتفرعان بدورهما إلى فروع أصغر فأصغر تروي قطع الكبد الثمان. كما ينقسم الشريان الكبدي أيضاً في سرة الكبد إلى فرعين أيمن وأيسر يسيران بمحاذاة فروع وريد الباب حتى الشعب الانتهائية. يخرج الدم من الكبد بعد إروائه عن طريق الأوردة الكبدية وعددها ثلاث تصب كلها في الوريد الأجوف السفلي. تجمع الشعيراتُ الصفراوية الصفراءَ التي تفرزها الخلايا الكبدية، وتنضم هذه الشعيرات بعضها إلى بعض لتشكل قنيات صفراوية. تتحد هذه القنيات فيما بينها لتشكل قناتين صفراويتين يمنى ويسرى تلتقيان في سرة الكبد فتؤلفان القناة الكبدية الرئيسة. تسير هذه الأقنية الصفراوية جميعها داخل الكبد وخارجه بمحاذاة وريد الباب والشريان الكبدي وفروعهما.
السطح الخلفي (الحشوي) للكبد
| ||
السطح الأمامي للكبد
|
فيزيولوجية الكبد
للكبد دور مشارك في استتباب homeostasis الوسط الداخلي إذ إنه يتداخل في استقلاب مختلف المواد الغذائية الواردة إلى البدن أي السكريات والشحميات والبروتينات والفيتامينات، إضافة إلى المواد التي يصطنعها البدن نفسه كالهرمونات والبيليروبين وغيرها.
يحافظ الكبد على مستوى الغلوكوز في الدم عن طريق تحويل الغلوكوز الوارد إليه من الأمعاء إلى غليكوجين glycogen وتخزينه في الكبد نفسه، وحل الغليكوجين عند الضرورة وتحويله إلى غلوكوز. كما أنه يقوم بإنشاء الغلوكوز بدءاً من الحموض الأمينية، ويشرف على كل ذلك عدد من الهرمونات ولاسيما الأنسولين والغلوكاغون glucagon وهرمون النمو growth hormone.
يقوم الكبد أيضاً بدور مهم في استقلاب البروتينات إنشاءً وتقويضاً. ينشئ الكبد البروتينات التي تحتاجها الخلايا الكبدية ذاتها، وينشئ في الوقت نفسه عدداً من البروتينات التي يفرزها إلى الدم وأهمها الألبومين الذي يرتبط بالعديد من المواد الموجودة في المجرى الدموي ويشكل واسطة النقل الرئيسة لها مثل البيليروبين والهرمونات والحموض الدهنية والمعادن، كما أنه يسهم إلى حد كبير في الحفاظ على الضغط الجرمي للبلازماoncotic pressure؛ ويساعد بذلك على الاحتفاظ بالسوائل ضمن الأوعية الدموية. وتعد عوامل التخثر من أهم البروتينات التي ينشئها الكبد ومنها الفيبرينوجين (العامل الأول) والبروتروبين (العامل الثاني) والعوامل الخامس والسابع والتاسع والعاشر، كما أنه ينشئ العوامل المثبطة للتخثر والحالّة للفيبرين. يعتمد إنشاء عوامل التخثر الثاني والسابع والتاسع والعاشر على وجود الفيتامين K الذي يرد إلى الكبد مع الدسم الغذائية ويؤدي نقصه (بسبب سوء التغذية أو بسبب سوء امتصاص الدسم من الأمعاء) إلى حدوث نزوف من الأماكن المختلفة للجسم.
ينشئ الكبد أيضاً مجموعة من البروتينات التي تدعى بروتينات الطور الحاد acute phase protein وهي السيرولوبلازمين ceruloplasmin و«البروتين الارتكاسي C. C.reactive protein» والهابتوغلوبين haptoglobin والترانسفيرين trasnsferrin. يزداد إنشاء هذه البروتينات وترتفع مقاديرها في الدم في حالة الإصابة بأحد الأمراض الجهازية كالسرطان والتهاب المفاصل الرثياني والأخماج الجرثومية والحروق وتفيد في توجيه التشخيص. ومن البروتينات الأخرى التي ينشئها الكبد ويفرزها إلى الدوران ألفا-واحد-انتي تريبسين، ومعظم البروتينات الدموية ألفا وبيتا.
تأتي معظم الحموض الدهنيةfatty acids الواردة إلى الكبد من الدسم الغذائية، أو من الأنسجة الشحمية المحيطية ويحولها الكبد إلى غليسيريدات ثلاثية triglyceride أو فوسفوليبيدات، أو أنها تتحد مع الكوليستيرول لتشكل الكوليستيرول المؤستر الذي ينطلق إلى الدم، كما يتأكسد قسم منها مطلقاً ثاني أكسيد الفحم.
يفرز الكبد معظم الغليسيريدات الثلاثية التي ينشئها، إلا أن إفرازها يتطلب تحويلها إلى بروتينات شحمية عن طريق اتحادها مع صميمات بروتينية نوعية apoproteins ينشئها الكبد نفسه، وقد يؤدي نقص إنشاء الصميمات البروتينية إلى تراكم الغليسيريدات الثلاثية في الكبد وحدوث الكبد المدهنة الذي يحدث عند الانسمام ببعض المواد مثل رابع كلور الفحم، أو الفوسفور، أو تناول كميات زائدة من التتراسيكلين. كما أن زيادة مقادير الحموض الدهنية الواردة إلى الكبد قد يؤدي إلى حدوث الكبد المدهنة وهو ما يصادف في الداء السكري وفي الانسمام المزمن بالكحول.
ينشئ الكبد الكوليستيرول والأنزيم المسمى lecithin cholesterol acetyltransferase (LCAT) الذي يحول الكوليستيرول إلى إستر كوليستيرول وينطلق كلاهما إلى الدم حيث يوجدان على شكل بروتينات شحمية وتضطرب مقاديرهما ارتفاعاً أو انخفاضاً في أمراض الكبد الوخيمة وفي علل الطرق الصفراوية.
إزالة السمية
تعد إزالة السموم من أهم الوظائف التي يقوم بها الكبد فيخلص البدن من التأثيرات الضارة لكثير من المواد داخلية المنشأ كالهرمونات والبيليروبين وغيرها، أو خارجية المنشأ كالسموم المعدنية أو العضوية وأكثرها شيوعاً المواد الدوائية واسعة الانتشار في الوقت الحاضر.
يتخلص الكبد من المواد السامة الخارجية والداخلية مستخدماً عدداً من الإنزيمات التي ينشئها لهذه الغاية والتي تقوم بمهمتها بطريقتين: الأولى هي تغيير التركيب الكيمياوي للمادة السامة عن طريق أكسدتها أو إرجاعها أو تمتيلها methylation أو نزع جذر الأمين منها deamination مما يؤدي إلى إبطال فاعليتها السامة، ومن هذه المواد الأدوية عموماً والهرمونات وغيرها. يمكن لبعض المواد الدوائية أن تحرض الإنزيمات التي تقوم بهذا العمل أو تثبطها مما له أهمية في معالجة بعض الحالات المرضية. أما الطريقة الثانية في إزالة السمية فتقوم على تحويل المواد السامة المنحلة بالدسم إلى مواد منحلة بالماء عن طريق اقترانها conjugation بأحد الحموض العضوية أو المعدنية مثل الغليسين glycine والطورين taurine وحمض غلوكورونيك، فتنقلب إلى مواد أقل سمية من سليفاتها إضافة إلى كونها تصبح سهلة الإطراح عن طريق البول أو الصفراء.
(التهاباتالكبد الفيروسي)
التهاب الكبد الفيروسي مرض خمجي infectious يصيب الكبد تسببه الفيروسات، أمكن تمييز خمسة أنواع منها وهي الفيروسات E وD وC وB وA، ويعتقد أن هناك فيروسات أخرى تسبب التهاب الكبد لم يتم تعرفها بعد.
ينتشر هذا المرض في جميع أنحاء العالم إلا أنه أكثر حدوثاً في بلدان العالم الثالث حيث تتدنى مستويات التصحح (حفظ الصحة) والتصحاح.
يسبب الخمج بأحد هذه الفيروسات التهاباً حاداً في الكبد يتظاهر بأعراض متعددة أهمها ظهور اليرقان الذي يرى واضحاً في صلبة العين، إضافة إلى أعراض عامة كالحمى المعتدلة والتوعك والوهن والقهم[ر] وبعض الأعراض الهضمية الأخرى. تتشابه أعراض التهاب الكبد الحاد الناجم عن هذه الفيروسات إلى حد كبير على نحو يتعذر تمييز بعضها من بعض إلا بالاعتماد على الفحوص المخبرية، وتختلف شدة أعراض الالتهاب الفيروسي الحاد من حالة لأخرى إلا أن الغالبية العظمى من هذه الحالات تبقى لا عرضية مما يدعو إلى عدم الانتباه لحدوثها، أو أنها تكون خفيفة الشدة ولا تترافق بحدوث اليرقان مما يؤدي إلى الخطأ في تشخيصها؛ إذ تنسب الأعراض حينئذٍ إلى علة أخرى كالنزلة الوافدة (الأنفلونزا) أو النزلات الهضمية.
إلا أن الأعراض قد تكون شديدة جداً في بعض الحالات النادرة مما يؤدي إلى حدوث قصور حاد في وظيفة الكبد ينتهي بالوفاة. وتقدر نسبة الوفاة من التهاب الكبد الحاد بنحو واحد بالألف. يغلب أن تكون إصابة الأطفال والرضع بالمرض لا عرضية أو خفيفة الشدة، في حين تكون الأعراض واضحة وشديدة عند الكهول، لكن الغالبية العظمى من الإصابات في كلتا الحالتين تنتهي بالشفاء، ويتخلص جسم المصاب من الفيروس تماماً. لا يكشف الفحص السريري للمصاب بالتهاب الكبد الحاد وجود علامات مرضية صريحة باستثناء اليرقان الذي تختلف شدته من حالة لأخرى.
تتراجع أعراض التهاب الكبد الفيروسي الحاد تدريجياً إلى أن تزول تماماً بعد أسابيع عدة من ظهورها، إلا أن بعض المرضى يستمرون في الشكوى من بعض الأعراض الخفيفة ولاسيما الوهن لأشهر عدة بعد الشفاء.
لا يتمكن بعض المصابين بالتهاب الكبد الفيروسي من النوع B أو C من التخلص من الفيروس الذي يستمر في التكاثر في جسم المريض على الرغم من زوال الأعراض المرضية الحادة، ويقال حينئذٍ إن المرض تحول إلى التهاب كبد فيروسي مزمن. أما التهاب الكبد الفيروسي من النوع A أو E فلا يأخذ هذا الشكل المزمن أبداً. وقد لوحظ أن التهابات الكبد B الحادة الخفيفة الشدة كالإصابات اللايرقانية أو اللاعرضية الشائعة عند الأطفال والرضع كثيراً ما تأخذ سيراً مزمناً، أما الإصابات العرضية اليرقانية التي تصادف خاصة عند الكهول فإن إزمانها قليل تراوح نسبته بين 5-10% من الحالات.
لا يشكو المصاب بالتهاب الكبد الفيروسي المزمن من أعراض مرضية صريحة، أو أنها تكون خفيفة جداً، وتتجلى على شكل الوهن العام والآلام الهيكلية، كما أن الفحص السريري لا يكشف وجود علامات ذات بال، ويتطور المرض خلسة على مدى سنوات طويلة قد تصل إلى عشرين عاماً، وربما انتهى في نحو عشرين في المئة من الحالات بحدوث تشمع كبدي وما ينجم عنه من مضاعفات خطيرة كسرطان الخلية الكبدية والنزف الهضمي العلوي وقصور الكبد الشديد، وهذه الإصابات تكون هي السبب في حدوث الوفاة.
الوبائيات
- ينتقل فيروس التهاب الكبد A بالطريق البرازي الفموي بالأيدي الملوثة بالبراز أو الأطعمة والأشربة الملوثة به، أما الانتقال عن طريق الجلد بوساطة الدم فهو نادر جداً. تحدث أكثر الإصابات عند الأطفال من سن 5 إلى 14 سنة، ومما يساعد على انتشار المرض الازدحام وتدني مستوى التصحح (حفظ الصحة) والتصحاح؛ لذلك فقد تراجع انتشار التهاب الكبد A على المستوى العالمي مع ارتفاع مستوى المعيشة. يحمل الفيروس A مستضداً وحيداً ينشئ الجسم أضداداً نوعية مقابلة له، يفيد كشفها في تشخيص هذا النوع من التهابات الكبد. تمنح هذه الأضداد الشخص الذي شفي من الإصابة مناعة دائمة من الإصابة بالتهاب الكبد A في المستقبل. وقد دلت الدراسات في البلدان النامية أن 90% من الأطفال في سن العاشرة يحملون في دمائهم أضداد الفيروس A مما يدل على أنهم أصيبوا بالمرض في مرحلة سابقة من حياتهم. يحدث هذا النوع من الالتهاب على شكل حالات فرادية أو فاشيات صغيرة في المدارس والثكنات حيث ينتقل فيها الفيروس بالتماس من شخص لآخر، كما أنه يحدث على شكل أوبئة ينتقل فيها الفيروس عن طريق الأطعمة والأشربة الملوثة.
- ينتقل الفيروس B بوساطة الدم أو أحد مشتقاته التي تدخل الجسم عن طريق الجلد. وقد كان انتقال الخمج عن طريق نقل الدم أو أحد مشتقاته شائعاً فيما مضى إلا أنه تراجع في العقود الثلاثة الأخيرة بعد أن أصبح تحري الإصابة بالفيروس لدى المتبرعين بالدم إلزامياً في معظم البلدان وما يتلو ذلك من إتلاف عينات الدم المصابة. وما يزال انتقال الخمج شائعاً في الدول الصناعية بين المدمنين على المخدرات زرقاً، وذلك بسبب اشتراكهم في استعمال المحاقن الدوائية، كما أن الانتقال عن طريق الاتصال الجنسي أمر شائع في تلك البلدان ولاسيما بين الجنوسيين. أما في البلدان النامية فإن انتقال الخمج عبر الجلد أمر شائع في الوسط العائلي بسبب التماس الوثيق بين أفراد العائلة واشتراكهم في استعمال بعض الأدوات كفراشي الأسنان وشفرات الحلاقة والمحاقن الدوائية. كما أن انتقال الخمج من الأم إلى وليدها في مرحلة حول الولادة أمر كثير الحدوث في البلدان التي ينتشر فيها الخمج على نطاق واسع كالشرق الأقصى وإفريقيا السوداء. ويتعرض العاملون في المجال الصحي للخمج بسبب تماسهم مع دم المصابين في أثناء قيامهم بواجباتهم المهنية.
يوجد في الفيروس B ثلاثة مستضدات هي: المستضد السطحي S والمستضد اللبي C والمستضد E وهذه كلها تحرض إنشاء أضداد نوعية لها في دم المصاب وتفيد في تشخيص الخمج ومتابعة تطوره ومراقبة نتائج المعالجة. وقد كان المستضد السطحي S (وكان يدعى المستضد الأسترالي) أول هذه المستضدات التي اكتشفت وما يزال أهم واسطة لكشف الخمج المزمن بالفيروس وأسرعها. أما الأضداد S التي تتشكل في جسم المصاب فإنها تمنحه مناعة دائمة تمنع حدوث عدوى جديدة بهذا الفيروس في المستقبل. يوجد المستضد السطحي للفيروس B في الدم بنسبة 0.1-0.5% من سكان الدول الغربية وأوربا الشمالية، وترتفع هذه النسبة عند سكان حوض البحر المتوسط فتصل إلى 5% وتبلغ 15% في بعض دول شرق آسيا (هونغ كونغ وتايوان وسنغافورة) وبعض دول إفريقيا السوداء. وتزيد هذه النسبة على ذلك فتصل إلى 30% عند بعض الفئات من المرضى وعند المدمنين على تعاطي المخدرات زرقاً. يعد الخمج المزمن بالفيروس B أحد أهم المشكلات الصحية على المستوى العالمي بسبب ارتفاع عدد المصابين الذين يقدر عددهم بنحو 350 مليون شخص، وبسبب النتائج الخطيرة التي تنجم عن هذه الإصابة.
- الفيروس C: ينتقل الخمج بالفيروس C عن طريق الجلد ويعد نقل الدم أو مشتقاته أهم واسطة للانتقال، إلا أن أهمية هذه الطريقة في الانتقال تراجعت في العقد الأخير في البلدان التي أصبح فيها الكشف عن هذا الخمج إجبارياً عند المتبرعين بالدم. ويأتي في الدرجة الثانية من الأهمية الاشتراك في استعمال المحاقن عند المدمنين على المخدرات زرقاً، واستعمال الأدوات الطبية سيئة التعقيم، والجروح والوخزات العارضة ولاسيما تلك التي تصيب العاملين في المجال الصحي بسبب تماسهم بدم المصابين بالخمج. أما الانتقال عن طريق الاتصال الجنسي، أو من الأم إلى وليدها فهو أمر ممكن إلا أنه قليل الحدوث بالمقارنة مع ما هو قائم في الفيروس B، وكذلك هي الحال فيما يخص الانتقال من فرد لآخر في الوسط العائلي.
قلّ أن يتظاهر الخمج بالفيروس C بأعراض مرضية حادة كاليرقان؛ لذلك يندر تشخيص التهاب الكبد الحاد بالفيروس C. يشفى نحو 15% من المصابين بالخمج ويتخلصون من الفيروس تلقائياً، أما الباقون فيأخذ الخمج لديهم الشكل المزمن الذي يتطور ببطء على مدى 20 إلى 30 عاماً. تبقى الإصابة المزمنة من دون أعراض في كثير من الحالات، أو أنها تتظاهر بأعراض مرضية خفيفة لا تلفت الانتباه إلى أن تُكشف مصادفة عند إجراء الفحوص النوعية الخاصة بها التي تجرى لدى التبرع بالدم أو في مناسبات أخرى. ينتهي قرابة 20% من الإصابات المزمنة بحدوث التشمع الكبدي بعد نحو 20 سنة من التطور. يقدر عدد المصابين بالخمج المزمن بالفيروس C في العالم بـ 250 مليوناً مما يشكل تحدياً كبيراً للسلطات الصحية ولاسيما في البلدان التي يكثر فيها انتشار الخمج مثل جمهورية مصر العربية حيث يبلغ معدل الإصابة 16% في بعض فئات المجتمع.
تتشكل في جسم المصاب بالخمج أضداد نوعية يمكن كشفها في الدم بعد أسابيع عدة من بدء الإصابة، وتفيد في تشخيص المرض ويستمر وجودها مدة طويلة بعد مضي المرحلة الحادة.
- الفيروس D: ينتسب الفيروس D إلى عائلة أشباه الفيروسات viroid، وهو يتألف من قسم مركزي يدعى اللب يحتوي على المستضد النوعي، ومن غلاف مؤلف من المستضد السطحي للفيروس B؛ لذلك لا يستطيع هذا الفيروس التكاثر إلا بوجود الفيروس B. ينتقل الخمج بهذا الفيروس عن طريق الجلد كما هي الحال في الفيروس B وهي شائعة بين المدمنين على المخدرات زرقاً. يبلغ معدل إصابة الحاملين المزمنين للفيروس B بهذا الخمج الإضافي واحداً بالمئة، وقد تصل النسبة إلى عشرين بالمئة في بعض بلدان البحر المتوسط. تتشكل في جسم المصاب بهذا الخمج أضداد نوعية للفيروس D تفيد في تشخيص المرض.
- الفيروس E: يتوطن الفيروس E في كثير من البلدان النامية فيسبب فيها إصابات فرادية أو جائحات كبيرة من التهاب الكبد الحاد، إلا أنه لا يسبب التهاباً مزمناً في الكبد. ينتقل الخمج بهذا الفيروس بالطريق البرازي الفموي محمولاً على وجه الخصوص بالأشربة الملوثة بمياه المجاري العامة. تتوافر حالياً اختبارات لكشف الأضداد النوعية للفيروس وتستخدم لتشخيص الإصابة الحادة، ويمكن تأكيد التشخيص بكشف الرنا الفيروسي RNA في دم المصابين. تمنح الإصابة المريض مناعةً ضد عودة المرض، إلا أن مدة هذه المناعة ما تزال غير معروفة.
التشخيص
يعتمد تشخيص التهاب الكبد الفيروسي الحاد على الأعراض السريرية التي ذكرت سابقاً ولاسيما اليرقان، ويدعم هذا التشخيصَ وجود ارتفاع شديد في أنزيم أمينوترنسفيراز aminotransferase في الدم، ويؤكَّد التشخيص إذا ترافقت الأعراض المرضية الحادة بوجود الواسمات المصلية وهي المستضدات والأضداد الخاصة التي تميز بين الأنواع المختلفة للفيروسات.
يتطلب الأمر في بعض الحالات الخاصة اللجوء إلى تحري الحمض النووي الخاص بكل نوع من هذه الفيروسات في الدم، وهو من نوع الدنا DNA في حالة التهاب الكبد بالفيروس B، أو الرنا RNA في حالة الإصابة ببقية الفيروسات.
أما تشخيص التهاب الكبد المزمن B أو C فيعتمد اعتماداً رئيسياً على وجود الحمض النووي الخاص بكل منهما في دم المصاب، إضافة إلى الأعراض المرضية واختبارات وظيفة الكبد التي تكون مضطربة بدرجات متفاوتة.
المعالجة
لا علاج نوعي لالتهاب الكبد الفيروسي الحاد، ولايحتاج المريض إلى الاستشفاء إلا في الحالات الشديدة النادرة، وتتضمن خطة العلاج: الراحة في المنزل التي يجب أن تستمر حتى زوال اليرقان، وحمية كثيرة الحريرات، ومعالجة عرضية في بعض الحالات.
تنتهي الغالبية العظمى من حالات الالتهاب الحاد بالشفاء، إلا أن نسبة قليلة من حالات التهاب الكبد B تتطور نحو الإزمان. أما في الخمج بالفيروس C فإن معظم حالات الالتهاب الحاد تأخذ شكلاً مزمناً بعد المرحلة الحادة.
وتهدف المعالجة في التهاب الكبد الفيروسي المزمن إلى تخفيف أذية النسيج الكبدي ومنع تطور الآفة ووصولها إلى مرحلة التشمع، وما يتلوه من قصور الخلية الكبدية أو حدوث التسرطن. الدواء المستعمل لهذه الغاية في التهاب الكبد المزمن B هو أنترفرون ألفا interferon alfa الذي يعطى حقناً مدة 4-6 أشهر. تعطي المعالجة نتيجة إيجابية في نحو40% من المرضى. ومن الأدوية المستعملة في العلاج مضاهيات النوكلوزيد nucleoside analogues التي تملك فعالية مضادة للفيروس، ومنها الدواء المسمى لاميفودين lamivudine الذي يعطى عن طريق الفم، والدواء المسمى adefovir الذي يعطى في الحالات المقاومة للعلاجات السابقة.
يعالج التهاب الكبد المزمن C أيضاً بالأنترفرون ألفا، إلا أن نتائج المعالجة تصبح أفضل بكثير إذا أُشرك مع الدواء المسمى ريبافيرين ribavirin إذ تصل نسبة الشفاء إلى 30-65% من الحالات.
الوقاية
يحدث الخمج بالفيروسين A وE عن الطريق البرازي الفموي؛ لذلك فإن الوقاية تعتمد على التقيد بمبادئ حفظ الصحة على المستوى الفردي، وبتحسين مستوى التصحاح. ويتوافر في الوقت الحاضر لقاح للوقاية من التهاب الكبد A يؤخذ على شكل حقن عضلية، ويعطي مناعة فاعلة تستمر عاماً كاملاً. ينصح بإعطاء اللقاح لطلاب المدارس والجنود والعاملين في المؤسسات الصحية. ولا يوجد حالياً لقاح للوقاية من الخمج بالفيروس E، إلا أنه من المتوقع توافر ذلك في المستقبل.
أما الخمج بالفيروسين B وC فيمكن الوقاية منهما بتجنب التّماس مع الدم وغيره من سوائل جسم المصابين. يتوافر في الوقت الحاضر لقاح للوقاية الفاعلة من التهاب الكبد B مؤلف من المستضد السطحي للفيروس الذي يهيأ حالياً عن طريق التأشيب recombination. يعطى اللقاح حقناً في عضلات العضد فيؤدي إلى ظهور الأضداد الواقية في الجسم. وقد دلت الدراسات على أنه يوفر المناعة للأطفال الملقحين في 88% من الحالات.
إذا عرف الوقت الذي تعرض فيه الشخص للخمج وجب إعطاؤه في ساعات المصلَ الواقي الذي يحوي الغلوبولين المناعي الخاص بالتهاب الكبد B (H.B.immunoglobulin)، إضافة إلى إعطائه اللقاح الواقي. يطبق ذلك عند المولودين حديثاً من أمهات مصابات بالخمج، وعند الأشخاص الذين يتعرضون لوخزات بإبر ملوثة بدم مخموجين. أما الإصابة بالفيروس D فيمكن الوقاية منها باستعمال اللقاح الواقي من الفيروس B.
لقد تعذر حتى اليوم تحضير لقاح يقي من التهاب الكبد C؛ لذلك تعتمد الوقاية على تجنب العدوى التي تتم عادة عن طريق الجلد. ويعد إتلاف الدم الحاوي على أضداد الفيروس C خطوة مهمة للوقاية من الخمج، يضاف إلى ذلك الاحتياطات المعتادة عند التعامل مع المصابين بالتهاب الكبد، وتجنب التّماس مع الدم أو مشتقاته ولاسيما من قبل العاملين في المجال الصحي.
(تشمع وتليف الكبد)
التشمع cirrhosis حالة مرضية مزمنة في الكبد، تتميز بوجود تبدلات في النسيج الكبدي تتصف بتليف منتشر يعطيه قواماً قاسياً، وظهور عقيدات تجددية فيه.
تحدث هذه التبدلات نتيجة نخر (تخرب) الخلايا الكبدية مهما كان السبب. ويؤدي تخرب الخلايا الكبدية إلى ظهور خلايا مولدة لليف في محيط الخلايا المتموتة، ينتهي بتشكل نسيج ليفي يأخذ شكل شرائط ليفية تتوزع في سائر أنحاء الكبد. ومن جهة أخرى تتكاثر الخلايا الكبدية السليمة للتعويض عن الخلايا المتنخرة، وتنتظم في مجموعات مختلفة الحجم تدعى العقيدات التجددية، إلا أن هذه العقيدات لاتستطيع القيام بوظيفة الخلايا الكبدية النظامية لسوء توعيتها.
يؤدي حدوث التليف وتشكل العقيدات إلى تشوه الشبكة الوعائية للكبد؛ مما يعوق الدوران الدموي في تفرعات وريد الباب ومنه حدوث ارتفاع الضغط في الجملة البابية (فرط الضغط البابي).
يزداد حجم الكبد المصاب بالتشمع، ويأخذ لوناً مصفراً يشبه الشمع (ومنه تسميه المرض بالتشمع) ويصبح ملمسه قاسياً، وتظهر على سطحه العقيدات التجددية التي يمتد قياسها من مليمترات عدة إلى سنتيمترات عدة، وينتهي الأمر في الحالات المتقدمة بضمور حجم الكبد.
أما الأسباب التي تؤدي إلى تنخر الخلايا الكبدية وحدوث التشمع فهي متعددة أهمها:
ـ التهاب الكبد الفيروسي المزمن من النوع B أو C وهو أكثر الأسباب شيوعاً ولاسيما في البلاد النامية.
ـ الانسمام الكحولي المزمن (الإدمان على الكحول) وهو شائع في البلاد التي يكثر فيها استهلاك المشروبات الكحولية.
ـ انسداد الطرق الصفراوية المديد سواء كان في الطرق الصفراوية الدقيقة داخل الكبد ويدعى حينئذٍ التشمع الصفراوي البدئي، أم في الطرق الصفراوية الرئيسة خارج الكبد، ويسمى التشمع الصفراوي الثانوي.
ـ وجود عائق وعائي على مسير الدم الخارج من الكبد.
ـ بعض الاضطرابات الاستقلابية مثل زيادة كمية الحديد في الجسم (التشمع الصباغي)، أو زيادة كمية النحاس فيه (داء ويلسون).
ـ بعض الأدوية.
وتبقى مع ذلك بعض الحالات التي لم يعرف لها سبب معين، فتدعى التشمع خفي المنشأ cryptogenic.
يمر التشمع من الناحية السريرية بمرحلتين:
- مرحلة المعاوضة (أو مرحلة التشمع الكامن، أو التشمع اللاعرضي): لايشكو المريض في هذه المرحلة من أي أعراض مرضية، أو أن الأعراض تكون طفيفة لا تثير الشبهة بإصابة كبدية مثل عسر الهضم، وانتفاخ البطن، ورعاف غير معلل، ووذمة خفيفة في الكاحلين والوهن. يكشف المرض في هذه المرحلة عرضاً لدى إجراء فحص طبي منوالي (روتيني) عندما يلاحظ الطبيب وجود بعض العلامات التي توحي بوجود آفة كبدية مثل ضخامة الكبد القاسية، أو ضخامة الطحال أو العنكبوت الوعائي (وهي توسعات وعائية دقيقة على شكل العنكبوت تتوضع على جلد الوجه والعنق وأعلى الصدر)، أو أن المرض يُكشف حين إجراء عملية جراحية على البطن، أو عند القيام ببعض الفحوص المخبرية لسبب آخر.
قد تستمر مرحلة المعاوضة سنوات طويلة جداً، وكثيراً ما يموت المصاب من سبب آخر لا علاقة له بالآفة الكبدية، أو أن المرض يتطور تدريجياً نحو القصور الكبدي وانكسار المعاوضة.
- مرحلة انكسار المعاوضة (التشمع اللامعاوض): تتأثر الحالة العامة للمريض في هذه المرحلة ويشكو من النحول والوهن والضعف والحمى الخفيفة المزمنة والكدمات العفوية، وأحياناً من اليرقان الذي يشير إلى أن الكبد لم يعد قادراً على معاوضة التخرب المستمر في خلاياه. وتدل شدة اليرقان على شدة القصور الكبدي، وهو ذو إنذار سيئ. وكثيراً ما يكون ظهور أحد المضاعفات - ولاسيما الحبن والنزف الهضمي العلوي ـ هو العرض المنبئ عن وجود الإصابة بالتشمع.
يكشف الفحص السريري في هذه المرحلة عادة وجود ضخامة الكبد (أو ضموره) وضخامة الطحال، والدوران الراد في جدار البطن (وهو احتقان أوردة البطن بالدم مما يجعلها ظاهرة للعيان) وبعض التبدلات الجلدية.
تكشف اختبارات وظيفة الكبد وجود قصور في عمل الخلايا الكبدية، مما يوحي بالإصابة بالتشمع. كما أن تخطيط صدى الكبد (إيكو) يكشف عن وجود تبدلات في النسيج الكبدي وعدم انتظام محيطه، أو يكشف وجود ضخامة في الطحال أو اتساع أوردة الجملة البابية، وكلها علامات توجه نحو الإصابة بالتشمع. إلا أن التشخيص الجازم يكون عن طريق أخذ خزعة من الكبد، وهي التي تكشف وجود التبدلات الواسمة التي أشير إليها في مطلع هذا البحث.
يتعرض المصاب بالتشمع في المراحل المتقدمة من سير المرض لظهور بعض المضاعفات التي كثيراً ما تكون السبب في وفاة المريض، وأهم هذه المضاعفات هي:
ـ فرط الضغط البابي وما يرافقه من توسع أوردة المريء (وتدعى دوالي المريء) التي يؤدي تمزقها إلى حدوث نزف هضمي علوي غزير كثيراً ما ينتهي بالوفاة.
ـ الحبن: وهو تجمع السوائل في جوف البطن، وينجم عن زيادة الضغط في جملة وريد الباب مع انخفاض مقدار الألبومين الدموي. يُكشف الحبن بالفحص السريري، أما إذا كانت كميته زهيدة فيمكن كشفه بتخطيط صدى البطن (إيكو).
ـ الاعتلال الدماغي الكبدي: ويقصد به مجموع الاضطرابات العصبية والنفسية التـي تنتج من القصور الشديد في وظيفة الخلايا الكبدية. يدخل المريض في المراحل المتقدمة من الاعتلال الدماغي بحالة سبات جزئي (ذهول stupor) أو سبات تام يغلب أن ينتهي بالوفاة.
ـ التسرطن: يتعرض المصابون بالتشمع لحدوث تبدل سرطاني في الخلايا الكبدية مما يزيد من الأعراض آنفة الذكر، ويسرع في حدوث الوفاة.
التشمع آفة ذات سير مديد وغير قابلة للشفاء، إذ لاتتوافر في الوقت الحاضر علاجات قادرة على إزالة التليف الكبدي وإعادة دوران الكبد إلى حالته السوية. وتهدف المعالجة إلى تخفيف الأعراض التي ترافق المضاعفات كالنزف الهضمي العلوي والحبن والاعتلال الدماغي. والعلاج الوحيد المتوافر في الوقت الحاضر لمعالجة الحالات المتقدمة من التشمع هو غرس كبد سليم مكان الكبد المصاب.
سرطان الكبد
الكبد liver هو أكبر الأعضاء في جسم الإنسان، وله وظائف فيزيولوجية مهمة، ولاسيما ما تعلق منها بصنع الصفراء bile التي تحتوي على أملاح ضرورية لاستقلاب metabolism الدسم، وكذلك تحويل قسم من سكر الدم (الغلوكوز) إلى غليكوجين glycogen يُخزَّن فيه مصدراً للطاقة. وهو مخزن للفيتامينات A,B,D,E,K ويُصنع فيه عدد من البروتينات المهمة، وكذلك مكونات أخرى مثل الفيبرينوجين fibrinogen والبروثرومبين prothrombin والكوليسترول cholesterol. كما له دور مهم في تنقية الدم من نواتج الاستقلاب الضارة. ويتميز الكبد من بقية الأعضاء بقدرته على إعادة التشكل المنتظم controlled regeneration بعد تعرضه لأذية سامة، أو بعد استئصال جزء منه جراحياً.
والأورام الكبدية نوعان: أحدهما حميد benign، والثاني خبيث malignant مُسرطِن. وتنشأ أكثر الأورام الكبدية على حساب الخلايا الكبدية hepatocytes، أو الأقنية الصفراوية bile ducts. ويشكل سرطان الخلايا الكبدية hepatocellular carcinoma (HCC) 80 إلى 90% من سرطانات الكبد البدئية primary liver cancer، وهو خامس السرطانات شيوعاً في العالم، ويسبب أكثر من مليون وفاة سنوياً، يليه سرطان الأقنية الصفراوية cholangiocarcinoma 5 إلى 10%، وأحدها ورم كلاتسكن Klatskin tumor الذي يحدث عند التقاء القناة الصفراوية بالكبد، ويندر حدوث أغران (ساركومات) الأوعية الدموية angiosarcomas واللمفومات البدئية primary lymphomas (من الخلايا المناعية في الكبد). أما الورم الأرومي الكبدي hepatoblastoma فهو أكثر سرطانات الكبد البدئية مشاهدة عند الأطفال الذين تقل أعمارهم عن أربع سنوات.
تختلف نسبة الإصابة حسب الموقع الجغرافي، وأكثر ما تُشاهد في بلدان أفريقيا الوسطى وجنوب شرقي آسيا (20 إلى 80 حالة لكل 100 ألف نسمة)، في حين تحدث بنسب أقل في أوربا الشمالية وأمريكا الشمالية وأستراليا (5 حالات لكل 100 ألف نسمة). وبرغم كون سرطان الخلية الكبدية قليل الانتشار في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الإصابة به تتزايد، وخاصة مع تزايد الأخماج بالتهاب الكبد C. ويُشخص نحو مليون حالة جديدة منه في العالم سنوياً.
الأسباب المؤهبة
سرطان الكبد في كبد متشمع
|
هنالك عدد من الأسباب المؤهبة للإصابة بسرطان الكبد، من أهمها:
ـ تشمع الكبد liver cirrhosis الناجم عن التهابات الكبد الفيروسية أو بسبب الإفراط في تناول المشروبات الكحولية، وهو من أهم العوامل في إحداث سرطان الخلايا الكبدية.
ـ يُعد التهاب الكبد المزمن الفيروسي من النمط (B) hepatitis B من أقوى العوامل المؤهبة للإصابة بسرطان الكبد.
ـ الأفلاتوكسين aflatoxin (من مشتقات فطر الرشاشيات الصفراء aspergillus flavus، المسرطن القوي في حيوانات التجارب)، وهو من العوامل المؤهبة لحدوث سرطان الخلايا الكبدية البدئية في البلدان التي يحوي غذاؤها نسبة كبيرة من هذا المركب.
ـ يؤدي كلورالفينيل vinyl chloride (المستعمل في الصناعات البلاستيكية) إلى الإصابة بالغرن الوعائي الكبدي.
ـ هنالك عوامل مؤهبة أخرى، منها كون الفرد ذكراً، وعوز الأنزيم المضاد للتربسين نمط ألفا1 aα1-antitrypsin deficiency، وطفرات الجين P53. كما يشاهد سرطان الكبد في حالة الصباغ الدموي (فرط الحديد) hemochromatosis غير المعالج.
الأعراض والعلامات
تعتمد الأعراض بصورة رئيسة على حجم الورم، ولا توجد عادة أعراض في حالة الأورام الصغيرة جداً.
أكثر الأعراض شيوعاً، وغالباً ما يكون أولها، هو الألم في المراق الأيمن من البطن، سببه تمطط محفظة الكبد الغنية بالتعصيب، أو ألم في الكتف الأيمن سببه التخريش العصبي للحجاب الحاجز، مما يسبب ألماً منتشراً، وانتفاخ البطن. ويحدث نقص الوزن في نحو 25% من الحالات. وينجم اليرقان jaundice عن انسداد القنوات الصفراوية، أما الإقياءات الدموية فهي من الأعراض الأقل شيوعاً.
يشك الطبيب باحتمال كون المريض مصاباً بسرطان الكبد في حال كونه مصاباً بتشمع كبدي، مع حدوث آلام بطنية علوية غير مفسرة، ووهن سببه ارتفاع مستوى الأمونيا في الدم ناجم عن قصور الكبد عن إزالة نواتج الاستقلاب السامة من الجسم، وترفع حروري، ويلاحظ الحبن ascites في نحو 50% من الحالات. وتتعلق الموجودات السريرية المشاهدة بالفحص بمرحلة كشف الورم. وتشاهد ضخامة الكبد hepatomegaly في نحو 90% من المرضى. كما تُشاهد العلامات المترافقة مع تشمع الكبد لدى كثير منهم، وتشمل الحثل العضلي dystrophia وتوسع الأوعية الدموية في جدار البطن، إضافة إلى علامات فرط ضغط الدم البابي (فرط توتر الوريد البابي) portal hypertension المشاهد في مرضى تشمع الكبد المزمن.
وبوجه عام فإن تعدد البؤر الورمية داخل الكبد، وزيادة حجم الورم عن 5 سم، وخثرة الوريد البابي، والنقائل الورمية البعيدة هي من العوامل المترافقة بسوء الإنذار بأورام الكبد البدئية.
الاستقصاءات
سرطان خلية كبدية في فص كبدي أيمن كما يظهر
بالتصوير بالرنين المغنطيسي
|
يجب العمل على تشخيص سرطان الكبد في أسرع وقت ممكن، وهنالك عدة استقصاءات يمكن استخدامها، وهي:
ـ الاستقصاءات السريرية: يجب إجراء فحص سريري دقيق للمريض، لتحري معرفة مرحلة الورم السريرية clinical stage، وللتأكد من عدم وجود آفات جهازية مرافقة.
ـ الاستقصاءات المخبرية: إضافة إلى الفحوص الدموية المنوالية، كإجراء تعداد عام للكريات والصيغة الدموية وشوارد الدم، يجب إجراء اختبارات لوظائف الكبدliver functions، وتتضمن عيار الفوسفاتاز القلوية alkaline phosphatase، والبيلروبين bilirubin، وخمائر الأمينوترانسفيراز aminotransferases ونازعة هيدروجين اللاكتات (ديهيدروجيناز اللاكتات) lactate dehydrogenase التي ترتفع في حال وجود أذية خلايا كبدية. وإضافة إلى هذه الفحوص التقليدية، يجب معايرة مستوى الألبومين وزمن البروثرومبين، فهما يدلان على قدرة الكبد على صنع البروتينات وعوامل التخثر الضرورية. كما يجب معايرة أضداد الفيروسين B وC، والمستضد السطحي للفيروس B عند المريض بسرطان الكبد البدئي أو في حال وجود قصة سابقة لالتهاب كبد خمجي.
ـ الواسمات الورمية tumor markers: يمكن للخلايا الورمية أن تصنع بروتينات سكرية glycoproteins وتفرزها، وهذه ذات أهمية سريرية كبيرة في الكشف عن الأورام ومراقبة تطورها بعد العلاج. وفي سرطانات الكبد البدئية يعد البروتين ألفا فيتوبروتين (AFP) alfa-fetoprotein أهم هذه الواسمات، والعيار الطبيعي له هو 1 إلى 10 نانوغرام/مل، ويرتفع في حالات سرطان الكبد البدئي. يمتلك هذا الاختبار حساسية sensitivity بحدود 68% ونوعية specificity بحدود 20% لكشف سرطانات الخلايا الكبدية صغيرة الحجم ( أقل من 3 سم). ويُعد استخدام هذا الواسم، إضافة للفحص بالأمواج فوق الصوتية ultrasound، الاختبارين الأكثر استعمالاً في مراقبة المرضى الأكثر تأهباً للإصابة بسرطان الخلايا الكبدية مثل مرضى التشمع والتهابات الكبد الفيروسية المزمنة. يعد ارتفاع هذا الواسم لأكثر من 500 نانوغرام/مل مشخصاً لسرطان الخلايا الكبدي، كما يُستعمل لمراقبة استجابة المريض للعلاج إذ ينخفض مستواه بعد العلاج الناحج، ويزداد في حال النكس.
من الاستقصاءات الأخرى المستخدمة عيار الواسم (PIVKA-11)، وهو من البروثرومبينات الشاذة abnormal prothrombin، وعادة ما يكون مرتفعاً في سرطانات الخلايا الكبدية، حينما يكون الألفا فيتوبروتين طبيعياً.
ـ الاستقصاءات الشعاعية: تُعد الاستقصاءات الشعاعية radiological أكثر الاستقصاءات نوعية في تحديد التشخيص ومرحلة الورم، ومن أهمها:
أ ـ المسح (التفريس) بالنظائر المشعة nuclear scan: ويعتمد على كون الكبد يمتلك خلايا كوبفر Kupffer’s cells القادرة على قنص النظير المشع تكنيسيوم 99TCm، في حين لا تحتوي الأورام على هذه الخلايا فتظهر كبقع فارغة في الصورة بعد إعطاء هذا النظير. وقد تضاءل استخدام مثل هذه الدراسة الشعاعية مع انتشار استخدام التصوير الطبقي المحوري (CAT scan) computerized axial tomography.
ب ـ الأمواج فوق الصوتية ultrasound scan: يُعد هذا الفحص من أهم الاختبارات لسهولة إجرائه، وانخفاض تكلفته، وكونه غير راضٍّ للمريض، وانتشاره على نطاق واسع. ويفيد الجراح في تحديد الورم وعلاقته التشريحية مع النسج المجاورة، وخاصة الأوعية داخل الكبد. ويمكن لهذا الاختبار أن يزيد الحساسية لكشف الأورام التي يزيد قطرها على 1سم إلى نحو 95%.
ج ـ التصوير الطبقي المحوري: عند البدء باستخدام هذا الاستقصاء في الثمانينيات من القرن العشرين، كانت النتائج تتصف بالحساسية القليلة، إلا أنه مع تطور علم التصوير الطبقي المحوري وُجد أن حقن مواد ظليلة عبر الوريد زاد حساسية الاستقصاء، لكونه أوضح تباين الكثافة الشعاعية بين نسيج الكبد الطبيعي والنسيج الورمي على نحو أفضل. وقد بينت أبحاث حديثة إمكانية تحري أورام صغيرة 1 إلى 2 سم بكفاءة عالية باستخدام هذه الطريقة.
د ـ وفي التسعينيات من القرن الماضي تطورت أجهزة تصوير طبقي حديثة تدعى الأجهزة الحلزونيةhelical scan، وكانت ذات دقة أكبر في كشف الأورام الصغيرة في الكبد (أقل من 2سم).
يمكن إجراء التصوير الطبقي بعد حقن مادة ظليلة داخل الشريان الكبدي. وعلى الرغم من كون هذه الوسيلة راضَّة invasive، إلا أنها من الإجراءات المتبعة قبل القيام بالتداخل الجراحي على الأورام القابلة للاستئصال. المادة الظليلة المستخدمة هي الليبيودول lipiodol التي تمتاز بأنها تُقتنص فقط من قبل الأورام، لا من نسيج الكبد الطبيعي أو المتشمِّع.
هـ ـ الرنين المغناطيسي: انتشر استخدام الرنين المغناطيسي(MRI) magnetic resonance imaging لدراسة آفات الكبد، ويمتاز عن التصوير الطبقي المحوري بأنه قادر على تحديد آفات الكبد من دون الحاجة إلى حقن مواد ظليلة، كما أنه يمتاز بدقة عالية في تشخيص أورام الكبد السليمة وتفريقها عن الأورام الخبيثة.
ـ تنظير البطن الاستقصائي diagnostic laparoscopy: يجرى ذلك بفحص جوف البطن بمنظار تحت التخدير العام. ويفيد في كشف النقائل الورمية الصغيرة الحجم التي لم تكتشفها الطرائق التشخيصية الأخرى، ومن ثم في إجراء تحديد دقيق لمرحلة الورم قبل تحديد العلاج المناسب.
ـ الخزعة biopsy: على الرغم من أن الخزعة لا تجرى دوماً حين دراسة سرطان الخلايا الكبدية، إلا أنها قد تفيد في تحديد بعض الأنواع الباثولوجية الخاصة بسرطان الكبد البدئي المعروفة بامتلاكها إنذاراً أفضل، ونجاحاً أكبر بوساطة العلاج الجراحي.
يمكن إجراء الخزعة إما بأخذ رشافة خلوية بالإبرة الدقيقة fine needle aspirate من الكبد، أو أخذ خزعة للدراسة النسيجية باستخدام الإبرة القاطعة.core needle
النقائل metastases
نادراً ما يسبب سرطان الكبد البدئي نقائل بعيدة، لكنه يمكن أن ينتشر إلى الرئتين وجوف الصفاق (البريتوان) والعظام وقد يصل إلى الدماغ.
العلاج
يعتمد العلاج على حالة الوظيفة الكبدية والتوضع التشريحي للورم، وعلى وجود أمراض مرافقة. وإن التقويم المرحلي للورم staging أمر فائق الأهمية، لتحديد الإنذار واختيار العلاج المناسب. ومن العلاجات المتبعة في سرطان الخلايا الكبدية:
أ ـ القطع الجراحي surgical resection: وهو الإجراء الأكثر نجاحاً في حالة الأورام الباكرة حيث يُستأصل الفص الذي يحتوي الورم أو جزء من الورم مع هامش أمان يعادل 1سم. وقد أثبتت الدراسات أن معدلات البُقياsurvival rates قد تصل إلى 50% بعد الاستئصال الكامل للورم. ومما يؤسف له عدم إمكان إجراء العمل الجراحي لكثير من المرضى نظراً لأن كشف الورم يكون متأخراً في أحيان كثيرة، ولترافقه مع قصور كبدي ناجم عن وجود آفة كبدية كالتشمع.
ب ـ اجتثاث الورم جراحياً بالتبريد أو الحرارة surgical cryotherapy and radio frequency ablation: وتعتمدان على إدخال مسابر خاصة، في أثناء العمل الجراحي، في النسيج الورمي وتعريضه للتجميد باستخدام الآزوت السائل (-196 ْم)liquid nitrogen ، أو حرارة عالية تصل إلى 50 ْم. أظهرت الدراسات أن العلاج بالحرارة يترافق بإمراضية أقل من تلك المشاهدة بالتبريد، ويُعتقد أن استخدام أي منهما قد يفيد كعلاج متمم للطرق الأخرى.
ج ـ حقن الكحول ethanol injection: تتزايد أهمية هذه الطريقة اليوم، وتعتمد على حقن الكحول المطلق داخل الورم بتوجيه شعاعي، فيسبب الكحول تجفافاً خلوياً، ومن ثم قتل الخلايا الورمية. وهي تُستخدم في حالة الأورام الصغيرة الحجم عند المرضى المصابين بقصور الوظيفة الكبدية. وقد أثبتت بعض الدراسات نتائج مشجعة ومعدل بُقيا قد يبلغ 50% بعد ثلاث سنوات.
د ـ الانصمام الكيمياوي الشرياني عبر القثطرة (TACE) transcatheter arterial chemoembolization: تعتمد على إدخال قثطرة بشكل انتقائي في الشريان المغذي للورم وحقن مركب كيمياوي سام للخلايا cytotoxic agent مثل الدوكسوروبيسين doxorubicin أو السيسبلاتين cisplatin. تستخدم هذه الوسيلة علاجاً ملطفاً palliative، وخاصة كمحاولة للسيطرة على نمو الورم في المدة التي ينتظر فيها المريض إجراء زرع الكبد.
هـ ـ العلاج الشعاعي radiotherapy: ليس للعلاج الشعاعي دور كبير في معالجة سرطان الخلايا الكبدية، وهنالك دراسات حديثة لتقصي نتائج حقن مواد مشعة مثل اللوبيودول الموسوم باليود131 (I131 lopiodol) عبر الشريان الكبدي إلى الورم، لكنها ما زالت قليلة.
و ـ زرع الكبد hepatic transplantation: تُعد هذه الطريقة مثالية لكونها توفر استبدال كبد سليم بآخر مصاب، وهي طريقة ممتازة إذا لم يكن الورم قد انتشر خارج الكبد. لكن صعوبة إيجاد المُعطي المناسب donor والتطور السريع للورم عند المريض في مدة انتظاره للحصول على الكبد المناسب ينقصان فرصة استخدامها.
ز ـ العلاج الجيني gene therapy: أدى اكتشاف وجود خلل جيني في خلايا سرطان الخلايا الكبدية، غالباً على شكل طفرة الجين P53، إلى دراسة إمكانات الاستفادة من التطورات الحديثة في مجال البيولوجيا الجزيئية molecular biology وتطبيقاتها في العلاج الجيني بإدخال الجين P53 السليم داخل الخلايا الورمية بغية التحكم بهذا المرض.
الوقاية
يمكن إنقاص احتمال الإصابة بسرطان الكبد باتباع الطرائق التي تنقص العوامل المؤهبة أو تزيلها. مثلاً، يمكن استخدام التلقيح ضد فيروس التهاب الكبد B، واتخاذ الإجراءات الوقائية ضد التماس مع دم المصاب به، كما يمكن أيضاً الوقاية من التهاب الكبد C بتحاشي التماس المباشر مع دم المصاب. ويجب الامتناع عن تناول الكحول، أو الحد منه. وعدم استخدام الستيروئيدات البنائية anabolic steroids بدون إشراف طبي. كما يجب الامتناع عن التعرض إلى المواد الكيمياوية المؤهبة للإصابة.