الاستنساخ والاستنسال مصطلحان علميان يقابلان المصطلح cloning بالإنكليزية وclonage بالفرنسية، فإذا ما أريد من هذا المصطلح الحصول على جماعة تنحدر من فرد وحيد بالتكاثر الإعاشي أو اللاجنسي، أي إذا أريد منه التقنية التي تُستخدم في زراعة النسج والتي تكون فيها كل الخلايا التي يُحصل عليها ناتجة من خلية واحدة فيمكن حينئذ أن يُطلق عليها بالعربية كلمة «استنسال».
أما إذا ما أريد منه الحصول على فرد يكون نسخة طبق الأصل عن فرد آخر فيطلق عليه حينئذ بالعربية مصطلح «استنساخ».
وكلمة clone تأتي أصلاً من اللغة اليونانية klôn ومعناها «نبتة صغيرة»، وهي تعني مجموعة من الأفراد المتشابهين وراثياً والمنحدرين من فرد واحد بالتكاثر اللاجنسي. ولقد سعى الإنسان منذ القديم لإيجاد التفسير العلمي الصحيح للتشابه الكبير بين بعض التوائم والاختلاف بين بعض التوائم الأخرى. فالتوائم الأولى تكون دوماً من جنس واحد أي ذكوراً أو إناثاً، وعلى درجة كبيرة من التشابه، حتى إنه قد يصعب على والديهما تمييز أحدهما من الآخر. وقد تبين أن هذه التوائم تأتي من بيضة ملقحة واحدة تنشطر منذ الانقسام الجنيني الأول فتعطي نسختين متماثلتين تماماً، ولذلك يطلق عليهما اسم التوائم الحقيقية لتمييزهما من التوائم الكاذبة التي تنحدر من بيضتين ملقحتين مختلفتين. وفي هذه الحالة الأخيرة، يُحصل على توائم يكون الشبه فيما بينها كما يكون في العادة بين الأخوة في الأسرة الواحدة. وهكذا يمكن القول إن حالة التوائم ا لحقيقية هي عملية استنساخ طبيعي يجري عند الإنسان وعند الحيوانات وعند النباتات. أما حالة التكاثر اللاجنسي فهي حادثة تشاهد طبيعياً عند الكائنات الحية الدنيا كالجراثيم. فعندما يكون الوسط الذي تعيش فيه هذه الجراثيم ملائماً لنموها، فإن كل جرثومة تنقسم لتعطي جرثومتين متماثلتين تماماً من مختلف النواحي الوراثية والشكلية والفيزيولوجية، وتكوِّنان نسختين طبق الأصل عن الخلية الأم التي أنتجتهما بالتكاثر اللاجنسي أو الانقسام المباشر. وهكذا يمكن الحصول على آلاف النسخ من هذه الكائنات البسيطة وتكون كلها متماثلة.
وتشاهد حالات من التكاثر اللاجنسي عند النباتات، إذ يمكن الحصول على نبات كامل مؤلف من ساق وجذور وأوراق حتى الأزهار بدءاً من غصن صغير يوضع في الوسط الملائم لنموه وتكاثر خلاياه. ومع تطور زراعة النسج منذ بداية القرن العشرين تمكّن الباحثون من الحصول على نبات كامل، انطلاقاً من خلايا معزولة من التبغ أو الجزر بتطبيق التقانات الحيويةالتي أخذت تتطور في الخمسينات من القرن العشرين. أما عند الحيوانات، وخاصة الفقاريات فيكون الأمر على درجة كبيرة من التعقيد والصعوبة، حتى فيما يتعلق بالاستنساخ الذي يحاكي استنساخ التوائم الحقيقية المشتقة من بيضة ملقحة واحدة. وفي حالة الاستنساخ الصنعي تصبح التقانة أكثر صعوبة وتعقيداً. وذلك لأنه يجب في هذه الحالة الأخيرة أن تستأصل نواة الخلية البيضية بوساطة آلة التشريح المجهري microdissection المتناهية في الدقة وأن تزرع في سيتوبلاسما هذه الخلية البيضية نواة خلية جسمية استخرجت من أحد أعضاء الجسم. وبعد تحريض الخلية الجديدة التي صُنعت، لتبدأ الانقسامات الجنينية، فإنه يتم الحصول في حال استكمال مراحل التشكل الجنيني المعروفة، على فرد يكون نسخة طبق الأصل عن الكائن الذي أخذت من أحد أعضائه نواة الخلية الجسمية الآنفة الذكر. ومن المعلوم أن خلايا الجسم كلها تشتمل على العدد الصبغي المضاعف المميز للنوع، وتتوزع في هذه الصبغيات جميع المورثات أو الجينات التي تتحكم في الصفات والخصائص الوراثية المميزة للنوع والفرد. لكن الصعوبة في الأمر تكمن في الطريقة التي يستطيع بها العلماء جعل هذه الخلايا الجسمية تتراجع عن تمايزها وتصبح النواة فيها مشتملة على مورثات نشيطة كاملة الإمكانات totipotentes كما هي الحال في نواة البيضة الملقحة.
ويُذكر أنه في المرحلة الأولى من الحياة تنشط المورثات تدريجياً وتصبح قادرة على ما اصطلح على تسميته «بالتعبير عن ذاتها S’exprimer»، أي إنها قادرة على القيام بالوظيفة التي كانت قد بُرمجت لها لتعبِّر عن صفة محددة في مرحلة معينة من حياة الفرد. وإن الخلايا الأولى التي تنشأ نتيجة للانقسامات المتتابعة للخلية البيضية الملقحة، تكون كلها متماثلة تقريباً، فهي إذن كلية الإمكانات وغير متمايزة، ولا يتمتع أي منها بوظيفة خاصة في هذه المرحلة البدئية من حياة الجنين. ولهذا تستطيع كل خلية من هذه الخلايا أن تكوِّن إذا ما عُزلت فرداً كاملاً. وهذا ما يُشاهد في الحالة الطبيعية الخاصة التي تتكون فيها التوائم الحقيقية الثنائية أو الرباعية التي تنجم عن الانفصال العرضي للخلايا الناشئة عن الانقسام الجنيني الأول أو الانقسامين الأولين المتتاليين للبيضة الملقحة.
ولقد بدأت محاولات الحصول تجريبياً على توائم حقيقية، منذ مطلع القرن العشرين إلى أن استطاع العالم الألماني هانس شبيمان Hans Spemann (الحائز جائزة نوبل في الطب عام 1935) تحقيق ذلك عند الضفادع. اعتمدت التجربة على فصل الخليتين الناتجتين من الانقسام الأول للخلية البيضية بإجراء ربطة أو عقدة تفصل بينهما بشعرة متينة، وقد تطور كل من الخليتين على حدة فيما بعد وأعطت التجربة في نهاية المطاف ضفدعين متماثلين. ولكن التجربة لم تنجح بعد مرحلة الخلايا الأربع في ذلك الوقت، لأنه اعتقد أن الخلايا التي يُعزل بعضها عن بعض تبدأ بفقد خاصة الإمكانات الكاملة التي أشير إليها.
إلا أنه تبين فيما بعد أن هذه الإمكانات الكلية للخلايا تستمر حتى مرحلة التويتة morula (البداءة الجنينية الأولى المؤلفة من بضع عشرات من الخلايا وتشبه ثمرة التوت) وقد تأكدت هذه الإمكانات في الضفادع في الخمسينات من القرن العشرين حين نجح العالمان الأمريكيان روبرت بريغس Robert Briggs وتوماس كينغ Thomas King بعزل الخلايا الجنينية وتفريقها في مرحلة التويتة. إضافة إلى ذلك فإن الأمر الجديد في تجربتهما أنهما قاما بنزع نوى الخلايا المنفصلة عن التويتة هذه، ونقلاها إلى داخل بويضات نزعت نواها قبيل ذلك حديثاً وأُخذت من ضفادع أخرى. وقد تطورت هذه البويضات المستقبِلة المعالجة بعد وضعها بالماء في الشروط المناسبة، وتحولت إلى شراغيف عادية ثم في مرحلة تالية إلى ضفادع متماثلة كلها لأنها انحدرت من تويتة واحدة.
الاستنساخ عند الثدييات
إثر النجاح الكبير الذي أحرزه الباحثون في نطاق التلقيح الصنعي عند الثدييات، والأبقار والضأن خاصة، وفي مرحلة تالية عند الإنسان، وذلك بولادة أول طفلة أنبوب هي لويز براون Louise Brown عام 1978 في بريطانية، كان هناك عدد من علماء الأحياء يحاولون إعادة تجارب تقنيات نقل النواة إلى عالم الثدييات. وتقنية النقل النووي هذه التي أُحكم وضعها عند الفأر عام 1983، لم تعط سوى نتائج محدودة. ومع ذلك فقد تتابعت الأبحاث بكل نشاط، ففي عام 1984 نجح عالم الأجنة الدنمركي ستين ويلادسن Steen Willadsen، عندما كان في كامبردج في بريطانية، في الحصول على خراف بالغة بصحة جيدة وذلك انطلاقاً من مرحلة جنينية مؤلفة من 8 خلايا أو 16 خلية وضعت نواها في خلايا بيضية غير ملقحة منزوعة النواة ، وكان أحد الأجنة قد جُمّد مدة تزيد على أربعة أعوام.
أما عند الأبقار، حيث تكون الفائدة الاقتصادية أكثر أهمية، فقد أحرز السبق الأول فريق أمريكي برئاسة نيل فيرس Neil First عام 1986. فبدءاً من أجنة أخذت من الحيin vivo أو من التلقيح الصنعي «في الزجاج» fécondation in vitro أمكن توليد ما يقرب من ألفين من العجول بفضل هذه التقنية. وتمَّت هذه النجاحات في الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك تمَّت أيضاً في فرنسة من قبل المعهد الوطني للبحوث الزراعية (الإنرا INRA).
وهناك نجاحات سُجِّلت أيضاً عند المعز، أما عند الأرانب فإن فريق جان بول رونار Jean Paul Renard وإيفان هيمان Yvan Heyman من «الإنرا» في فرنسة، قد حصل عام 1990 على ستة أرانب وليدة مستنسخة أتت من جنين وحيد.
الشكل (1) الدارة الخلوية |
وحتى عام 1992، بقي العلماء الباحثون يعانون الإخفاق بنسبة عالية في الاستنساخ بتقانة النقل النووي عند الثدييات الكبيرة وكانت الشذوذات الصبغية تؤدي إلى توقف التشكل الجنيني. وقد فُسِّرت الظاهرة على أنها نتيجة للصعوبة، في لحظة الانصهار أو الاندماج في أن تتزامن الدارات بين الخلية المعطية cellule donneuse والخلية المتلقيةc. receveuse (ذات السيتوبلاسما المنزوعة النواة)، إذ تكون الخلايا، في لحظة الإلقاح، في الحالة الطبيعية متوافقة في الطور معاً توافقاً واضحاً، وهذا ما يجب تحقيقه في المختبر لتنجح العملية المطلوبة. وقد بحث العلماء في البدء عن الوسائل التي تُنشِّط مسبقاً، كيمياوياً أو كهربائياً، الخلية البيضية المنزوعة النواة قبيل حادثة الانصهار أو الاندماجfusion. ووجد الباحثون أن شرارة كهربائية محددّة تكفي لتحرِّض على تحرير الكلسيوم الخلوي الداخلي، كما تفعل النطفة وقت الإلقاح. والتنشيط المسبق للخلية البيضية يتيح لنواة الخلية المعطية أن لاتفقد غشاءها النووي وقت الاندماج. وهذه الطريقة، في التنشيط المسبق الكهربائي، هي المطبقة تطبيقاً شائعاً في مخابر مختلفة منذ عام 1995.
1ـ الاستنساخ بوساطة خلايا جسمية متمايزة: كانت عمليات الاستنساخ التي ذكرت تتم باستخدام خلايا مأخوذة من مرحلة التويتة أو الكيسة الأرومية blastocyste وفي الوقت نفسه كانت البحوث تجري للوصول إلى استخدام خلايا جسمية أكثر تمايزاً. وفي عام 1997 نجح فريق علمي من اسكتلندة على رأسه إيان فيلموت Ian Wilmut وكايت كامبل Keith Campbell من معهد روسلين، في استنساخ نعجة سميت دولِّي Dolly وذلك انطلاقاً من خلية أخذت من ثدي نعجة بالغة. وقد أحدث نشر خبر ولادة هذه النعجة ضجة إعلامية شغلت الأوساط العلمية والإعلامية من صحافة ومجلات وإذاعات وتلفزة. حتى الأوساط السياسية والاجتماعية والدينية أسهمت في مناقشة موضوع ولادة هذه النعجة. والسبب في ذلك كله أن نجاح هذه التجربة في الضأن قد فتح الطريق أمام إمكانية تطبيقها على الإنسان.
الشكل (2) النعجة دولِّي وأمها التي «حملت بها» |
2ـ استنساخ النعجة دولِّي: استأصل الباحثان الاسكتلنديان خلايا من خزعة أخذت من غدة ثديية لنعجة بيضاء اسمها «فين دورست Finn Dorset»، عمرها ست سنوات وهي في الثلث الأخير من حملها، في هذا الوقت تكون الخلايا الثديية للنعجة في أوج تمايزها وتكاثرها. وزرعت خلايا خزعة الثدي «في الزجاج» في أوعية الاختبار، ثم وُضعت مدة خمسة أيام في وسط للزرع جعل فقيراً بشدة إلى المصل، وهي حمية صارمة كان الهدف منها الوصول تدريجياً إلى إيقاف الدارة الخلوية، في المرحلة المسماة «ج صفر» «G Zero»، إيقافاً تاماً (الشكل1). ثم أخذت هذه الخلايا، وهي في حالة سبات أو إشتاء مطلق، وأدخل كل منها في خلية بيضية غير ملقحة ومنزوعة النواة، استحصل عليها من نعجة ذات رأس أسود من الصنف الاسكتلندي «Scottish» (الشكل 2).
وكانت الخلايا البيضية المذكورة قد استحصل عليها جراحياً بعد تحريض مبيضي مناسب، وكانت دورتها الخلوية لحظة التقاطها متوقفة. إذ إنه في هذا الطور المسمى «الطور التالي 2» «Metaphase II»، تكون الخلايا البيضية في لحظة البيض. ونتيجة للانقسام المنصف لا تشتمل إلا على مجموعة واحدة من الصبغيات أو العدد (ن) أو (ع) المساوي نصف العدد الصبغي (2ن) أو (2ع) الذي يميز النوع الذي يساوي عند الأغنام 2×27=54 صبغياً.
الشكل (3) تسلسل عمليات استنساج النعجة دولِّي |
أما الخلية البيضية القابلة للإلقاح عند النعجة فلا تشتمل إلا على 27 صبغياً، وتشكل في هذا الوقت مجموعة لامركزية تتوضع بالقرب من الكرية القطبية، وهي كرة صغيرة تحتوي على النصف الآخر من الصبغيات ومصيرها أن ترمى. في هذه اللحظة قام الباحثان الاسكتلنديان بارتشاف المجموعة الصبغية، جارفين في الوقت نفسه الكرية القطبية وقسماً من سيتوبلاسما هذه الخلية البيضية. ثم نقلت على الفور إلى وسط الزرع المناسب بدرجة 37ْ مئوية الخلايا البيضية التي جرِّدت من نواها، والمحتفظة بالقسم الأكبر من سيتوبلاسماها، وتمّ تنشيطها بإطلاق شرارة كهربائية مناسبة أولى، ثمّ دُمج كل منها في خلية ثديية للنعجة المعطية بمساعدة سلسلة من الشرارات الكهربائية القصيرة. وكانت الغاية من هذه الشحنات الكهربائية تحريض الخلية الجديدة التي تشكلت على أن تنطلق بالانقسامات المتتابعة لتشكل جنيناً جديداً متكاملاً (الشكل 3).
ومن الجدير بالذكر أن يشار إلى أن العملية نجحت بعد محاولات كثيرة لم يحالفها النجاح. فلقد تمّ إنتاج مالا يقل عن 277 جنيناً على هذه الصورة في شهر كانون الثاني 1996. ثم نقلت هذه الأجنة بعد ذلك إلى القنوات الناقلة «المربوطة» لإناث مختلفة معدَّة مسبقاً، وبعد ستة أيام تطور من هذا المجموع تسعة وعشرون جنيناً فقط حتى مرحلة التويتة أو الكيسة الأرومية، ثم نُقلت إلى داخل رحم ثلاث عشرة نعجة مهيأة لحملها. وفي نهاية المطاف تطور واحد منها إلى جنين وصل إلى مرحلة الحمل الوليد الذي عاش. وهي النعجة دولِّي التي ولدت يوم 5 تموز 1996 بعد مدة حمل طبيعية تماماً وكانت ذات وزن طبيعي ولاتبدي أي علامة غير عادية.
3ـ الإنجاز العلمي الكبير في استنساخ النعجة دولِّي: إن الإسهام التقني الرئيس للفريق الاسكتلندي هو نجاحهم في تحقيق إعادة الخلايا الجسمية عن تمايزها وإرجاعها إلى نقطة البدء. وذُكر أن الخلايا الثديية في تجربة دولِّي وُضعت في حالة سبات وأعيدت برمجتها. وقد أُبقيت هذه الخلايا على قيد الحياة في محلول ملحي يحتوي الحد الأدنى من عوامل النمو التي تكفي لتبقيها على قيد الحياة، أي إنها كانت على حدود الموت الخلويApoptose كما يقال. وقبل تجربة دولِّي الناجحة كان معظم الخلايا الجنينية المستخدمة في عملية النقل النووي يٌوجد في الطور ج2 G2 أو الطور S من الدارة الخلوية أي طور تركيب الدنا DNA، وإن أي تكاثف مبكر للكروماتين (الصبغيات والبروتينات المرتبطة بها) سوف يؤدي غالباً إلى شذوذات صبغية.
أما الإنجاز العلمي الكبير للباحثين الاسكتلنديين فهو أنهما تنبها إلى أنه عندما يُجمع بين تقانة تنشيط الخلية البيضية المنزوعة النواة وتقانة إيقاف الدارة الخلوية للخلايا المعطية، يمكن النجاح في استنساخ حيوانات قابلة للحياة باستخدام خلايا على درجة من التمايز أو حتى متمايزة تماماً، إذ إن كل خلية في الجسم تشتمل على الذخيرة الوراثية الكاملة للفرد. وإبان التمايز المتدرج الذي يحدث منذ المراحل الأولى من التشكل الجنيني حتى الولادة وبعدها سوف تقوم خلايا الجسم بالتخصص والتمايز. ولا يتم «التعبير» في كل خلية متمايزة إلا من قبل جزء محدد جداً من المورثات، وذلك من أصل ما يقارب المئة ألف مورثة في كل خلية في الإنسان مثلاً. أما بقية المورثات فتبقى صامتة أو «خرساء» «Muets» وهذا يعني أن هذه المورثات لم تٌفْقَد نهائياً أو أنها شُلَّت تماماً، أي ماتت إن صح التعبير، وإنما تمكن إعادة برمجتها. وهذا الأمر هو ما شغل فكر عدد من البيولوجيين مدة ثلاثين عاماً تقريباً، منذ بداية الخمسينات حتى بداية الثمانينات من القرن العشرين.
إن الذين تمكنوا من التجريب بنجاح على ا لضفدعيات في الخمسينات كانت هذه الفكرة ماثلة في أذهانهم. وقد نجحوا في الكثير من التجارب بأخذهم خلايا من الأجنة متدرجة في النمو، وخلايا من الحيوانات البالغة ليحاولوا إنتاج حيوانات قابلة للعيش. ولقد تمكنوا من الوصول إلى ذلك بنجاح ولكن فقط ضمن نقاط معينة. من ذ لك مثلاً أن الخلايا المأخوذة من الشراغيف ومن المعي عند الضفادع البالغة والتي وُضعت داخل خلايا بيضية منزوعة النواة، قد أعطت شراغيف ولكن لم تعط ضفادع بالغة أبداً في ذلك الحين.
وبعد ذلك تتابعت الأبحاث بكل تكتم من قبل مجموعة من البيولوجيين العاملين في صناعة تر بية الحيوانات والتقانات الحيوية. وهكذا فقد علم إيان فيلموت في عام 1986 أن الدنمركي فيلامسدن Willamsden الذي انتقل إلى تكساس، كان قد توصل قبل عامين إلى استنساخ خروف بدءاً من خلايا أرومية أصلية قد تمايزت. وفي عام 1989، حصل على خروف وليد بوساطة خلايا من الكتلة الخلوية الداخلية للكيسة الأرومية. وفي عام 1991 التحق كايت كامبل بالباحث فيلموت في معهد روسلين. وهو الذي طرح فكرة إجراء التجارب بوساطة خلايا هامدة أو هادئة في المرحلة «ج صفر» وهنا كان للمصادفة دور مضاعف، إذ علم كامبل مصادفةً من أحد الفنيين في مخبر ويسكنسن أنه أمكن إنتاج أربعة عجول انطلاقاً من خلايا كيسية أرومية قد تمايزت. وكان هذا المساعد قد نسي مدّ الخلايا المزروعة بالمصل المغذي، ولم يلبث هو وفيلموت أن قرّرا تطبيق هذه الوصفة في تجاربهما. ولم تتأخر النتيجة، ففي عام 1995 قاما بتوليد خراف مستنسخة انطلاقاً من خلايا متمايزة من الكيسة الأرومية. وإن أحد الأفراد التي نُتجت بتطبيق هذه التقانة كان نعجة نتوجاً.
أهمية الاستنساخ في تحسين الإنتاج النباتي
مما لاشك فيه ان الإنتاج الزراعي حقق منذ عشرات السنين تقدماً ملموساً بفضل المكننة والري واستعمال الأسمدة واستخدام المبيدات المختلفة.
ولكن تناقص الأراضي القابلة للزراعة بسبب التصحر، واتساع المساحات التي تشغلها المدن والطرقات والمطارات والمصانع، في الوقت الذي يتزايد فيه عدد سكان العالم بنسبة كبيرة، يستلزم القيام بما يؤدي إلى تحسين مردود النباتات وإنقاص الخسائر التي تسببها لها العوامل الممرضة. وهنا تتجلى الأهمية الكبيرة لتقانة الاستنساخ التي تمكن من الحصول على آلاف من النباتات المحسنة ذات المردود الممتاز، بطرائق سيأتي ذكر أمثلة عنها. ويُتجنب بهذه التقانة احتمالات إعادة توزيع الصفات الوراثية المحمولة على الصبغيات في أثناء تكاثر هذه النباتات المحسنة بالطرائق التقليدية.
في هذه الحالات تطبق أولاً التقانات التي أتاحت الحصول على نباتات نُقلت إليها مورثات (جينات) إضافية plantes transgeniques ذات صفات مختارة، ثم تستنسخ منها الأعداد المطلوبة بعد تأكد اندماج المورثة أو المورثات المطلوبة، في الذخيرة الوراثية للنباتات التي انتقيت بطرائق الهندسة الوراثية المناسبة. وللحصول على نباتات منقول إليها «جينات» أي نباتات متحولة، تُنقل مادة وراثية مختارة إلى النبات المطلوب، بطريقة أخرى غير «التصالب» الجنسي.
وهناك طرائق نقلٍ مباشرٍ ونقل غير مباشر، ففي مجال النقل المباشر يمكن إجراء مايلي:
ـ حضن خلايا نباتية معزولة، قادرة على تجديد نبات كامل، مع دنا DNA أو مورثة مختارة، حيث تسهل أحياناً عملية الاندماج بتطبيق شحنة كهربائية محدودة لأوقات قصيرة، ثم تنتقى الخلايا المتحولة (التي أصبحت مقاومة لمرض معين مثلاً). وتطبق بعد ذلك تقانات الاستنساخ للحصول على النباتات المنقول إليها جينات والمشتملة على المورثة أو المورثات المقاومة للمرض في جميع خلاياها.
ـ قذف الخلايا أو النسج النباتية بقُسيمات من التنغستين أو الذهب الملبسة بالدنا DNA (طريقة استخدام قاذف القسيمات Fusil à Particules).
أمّا في مجال النقل غير المباشر، فيلجأ العلماء إلى عناصر تُحمّل بطريقة معينة قطعة الدنا أي المورثة المرغوب فيها لتنقلها بدورها إلى داخل خلايا النباتات التي تصبح منقولاً إليها جينات وتستخدم في هذا المضمار بعض البلاسميدات Plasmides أو حتى بعض الجراثيم أو بعض الفيروسات غير الضارة. وبعد إجراء الاختبارات اللازمة لتأكد استقرار المورثة المطلوبة في المكان المناسب تتم عمليات الاستنساخ للحصول على النبات المطلوب.
وهناك اليوم تطبيقات متعددة لاستنساخ نباتات نقلت إليها جينات، على سبيل المثال الحصول على نباتات مقاومة لمبيدات الأعشاب.فتُباد الأعشاب الضارة في الوقت الذي يُحافظ فيه على النباتات المزروعة.
ومنها الحصول على زراعات مقاومة للعوامل المرضية النباتية كالفيروسات والجراثيم والفطور والديدان الخيطية والحشرات التي يمكنها أن تسبب خسائر مهمة في الإنتاج. فمثلاً أُدخلت في نبات التبغ مورثة بروتين المحفظة التي تحيط برنا RNA فيروس موزاييك التبغ. فأصبح النبات مقاوماً لهذا الفيروس، ويمكن استنساخ النبات والحصول على إنتاج عالي الجودة وسليم من الأمراض.
ومنها تحسين نوعية النبات بالمزاوجة بين تقانات الهندسة الوراثية ونقل مورثات محددة وتقانات الاستنساخ، فيُحصل على إنتاج وافر من الثمار أو الأشجار أو الأزهار وكلها من نوعيات متميزة. فمثلاً يمكن الحصول على ثمار ناضجة مع بقائها مكتنزة زاهية مدة طويلة، وهذا ما يسهل نقلها وحفظها. أو يمكن الحصول على أشجار من الحور أو الأوكاليبتوس وقد أُنقِصت منها مادة التخشب lignine لاستخدام هذه الأشجار في صناعة الورق، علماً أن استبعاد هذه المادة يعد حتى اليوم إحدى المشكلات الرئيسة في هذه الصناعة. كما يمكن الحصول على أزهار تختار ألوانها بحسب المواصفات المطلوبة، أو على بذور تشتمل على بروتينات غنية بحموض أمينية أساسية (مثال الميتيونين والليزين) أو غنية بزيوت غير مشبعة، وكل ذلك من أجل توفير الغذاء الصحي الكافي. وأخيراً تتيح التقانات البيولوجية الحديثة استنساخ نباتات تنقل إليها جينات من أجل إنتاج مواد مختلفة لها أهمية صناعية كبيرة بعد تعديل مؤونتها الأنظيمية مثلاً أو بعد إدخال مورثات تتيح تركيب جزيئات جديدة أو عقاقير محددة كالهرمونات المختلفة أو الأنترفيرون أو مضادات الحيوية antibiotiques ،وذلك بكميات كبيرة ومن دون وجود خطر التلوث بالفيروسات مثلاً أو بغيرها من الملوثات.
أهمية الاستنساخ في تحسين الإنتاج الحيواني
الشكل (4) إنتاج نسخ من الأبقار |
إن الهدف الأساسي من البحوث التي تجري على الاستنساخ هو اقتصادي بالدرجة الأولى. وكما هي الحال في الإنتاج النباتي فإن تطبيقات تقانات الاستنساخ في الإنتاج الحيواني تعطي نتائج ذات أهمية اقتصادية كبيرة في الحصول على نوعيات محسنة عالية الإنتاج من قطعان الماشية، أو استخدام الحيوانات المستنسخة لإنتاج بروتينات ذات فائدة طبية وبكميات كبيرة. لقد جُربت طريقة أولى منذ بداية الثمانينات من القرن العشرين، باستنساخ عجول مختارة وذلك بقطع الجنين في مرحلة التويتة إلى نصفين وزرع كل نصف جنين في رحم بقرة، لكن الفائدة تكون محدودة لأنه لايُحصل إلا على فردين فقط. ثم طبقت طريقة ثانية أكثر إنتاجية عند الأبقار، وهي قريبة من الطريقة الاسكتلندية غير أنها قابلة للتطبيق فقط على خلايا غير متمايزة. وتقضي هذه الطريقة بالحصول على عدد كبير من الخلايا البيضية من المبايض التي تنتزع في المسالخ، وتُنضج هذه الخلايا »في الزجاج» حتى مرحلة الطور التاليII، ثم تنزع نواها وتُنشَّط وتُدمج على التوالي في خلايا من أجنة في مرحلة التويتة أخذت من بقرة منتخبة كانت قد لقحت بنطاف ثور منتخب ممتاز. وبعد رفع الغلاف الشفيف للتويتة، يحضن عنقود الخلايا «في الزجاج» في وسط بلا كلسيوم بغية فصم الأربطة الخلوية، مما يمكن من فصل الخلايا بعضها عن بعض وكل واحدة منها يمكن أن تعطي بعد دمجها في خلية بيضية جنيناً جديداً. وتكون كل الأجنة الناتجة منها متماثلة، فهي إذاً توائم حقيقية أو نسائل clones. وتكفي شرارة كهربائية محددة لإتمام الدمج والتنشيط، وطوال عدة سنوات كانت هذه الأجنة تزرع في أنفار (أبواق) القنوات الناقلة للبيوض لأبقار وسيطة مُعَدَّة لذلك. أما اليوم فيمكن زرع الأجنة «في الزجاج» حتى الوقت الذي تصل فيه إلى مرحلة الكيسة الأرومية وتصبح قابلة للنقل إلى الرحم المهيأة مسبقاً لحمل الجنين. ولقد تبين بالتجربة أن هذه الطريقة تبقى محدودة الإنتاجية لأسباب مختلفة، وتقرب نسبة الولادات من 10% فقط (الشكل 4).
أما طريقة الاستنساخ الاسكتلندية من الخلايا المتمايزة فيجب أن تسمح بزيادة الإنتاجية بنسبة كبيرة. والخلايا التي أعيدت بر مجتها وأوقفت في المرحلة «ج صفر» يمكن بالفعل أن تزرع وتتكاثر. كما يمكن لكيسة أرومية واحدة أن تعطي آلاف النسائل المختارة. ومنذ التنبؤ بهذه النتائج عام 1995، وضع معهد روسلين الأهداف والميزات المأمولة من الاستنساخ في تحسين الإنتاج الحيواني، كالحصول على قطعان من الخراف المتماثلة أو العجول المتشابهة العالية الميزات التي تنمو بالإيقاع نفسه؛ ومنها للصناعيين كالتمكن من تصنيع منتجات أكثر تجانساً وجودة، ومنها للمستهلكين كشراء منتجات من نوعية مضمونة ومواصفات ممتازة.
ويمكن أيضاً تسريع دورة الاصطفاء من الأصل أو البداية ، وذلك باستنساخ الأجنة الإناث الناشئة من أبقار متميزات مختارات خصوصاً للبيض الفائق، وباستنساخ الأجنة الذكور الناتجة عن ثيران متميزة للتلقيح الاصطناعي.
بعد نجاح تجربة استنساخ النعجة دولِّي انطلاقاً من الخلايا الجسمية فإنه سوف يصبح من الممكن إنتاج ذكر مختار أو أنثى مختارة مباشرة. ذلك أنه إذا تمّ استنساخ حيوان مختار يكفي الانتظار جيلاً واحداً فقط للحصول على قطيع منه، وستكون السلالات المستنسخة قريبة جداً من الحيوان البالغ الذي أخذت منه خَذعة الخلايا الجسمية. وقد لاتكون متماثلة تماماً بسبب الفروق البيئية المحيطة بتربيتها وتغذيتها وأيضاً بسبب الدور غير المعروف تماماً الذي تقوم به سيتوبلاسما الخلية البيضية المستقبِلة إثر الاندماج.
ولكن الاستنساخ ليس سهلاً فقد ذكر فيلموت أنه أجرى تجاربه على ألف خلية بيضية تطور منها الجنين الذي أعطى دولِّي. ومع ذلك يمثل الاستنساخ للباحثين تقانة ذات فائدة كبيرة تمكِّن من إنقاص عدد الحيوانات اللازمة للتجارب وذلك من أجل تحليل السلوكية الغذائية مثلاً أو فهم أصل مرض ما أو اختبار المواد البيطرية وغير ذلك.
الاستنساخ والهندسة الوراثية
نجح العلماء في الحصول على حيوانات نقلت إليها جينات كما هي الحال مع النباتات. والتقانة المستخدمة حتى اليوم من قبل جميع الذين يتصدون لهذا العمل في نطاق الهندسة الوراثية تعتمد على الحَقْن المجهري microinjection. وهكذا يتم إدخال المورثة المطلوبة في بيضة ملقحة أو بإدخالها مباشرة إثر الإلقاح الاصطناعي «في الزجاج » ضمن النواة الناجمة عن الذكر، وترتبط المورثة بقطعة من «الدنا» التي تجعلها نشيطة فقط في عضو محدد أو نسيج معين من الحيوان المُنتظر الذي نقلت إليه الجينات. وبهذه الطريقة يمكن تحديد تعبير هذه المورثة في غدة معينة فقط، في الحليب مثلاً.
الشكل (5) الاستنساخ ونقل المورثات |
وفي الولايات المتحدة هناك مؤسسة للهندسة الوراثية تقوم بتربية قطيع من المعز منقول إليه الجينات، وهي مؤسسة «جنزيم ترانسجينيك» Genzyme Transgenics. تُنتج هذه الحيوانات في حليبها مضاداً للتخثر هو مضاد الخثرين antithrombine III الذي هو اليوم موضع اختبارات سريرية. وقد يكون البروتين الصيدلاني الأول من جينات منقولة يطرح في الأسواق، وسوف ينافس المستحضر المستخدم تجارياً اليوم والمستخلص من البلاسما الدموية.
ولكن الحصول على البروتينات «المأشوبة» recombinantes بهذه الطريقة لم يلفت انتباه المؤسسات الصيدلانية الكبيرة، ويعود السبب جزئياً إلى أن تقنية الحقن المجهري تبقى أساساً عشوائية. فهي قادرة على إضافة مورثة ولا تستطيع أن تحذف واحدة، وتقوم بهذا العمل على نحوٍ غير دقيق، ويقول تراسي ويليامز Tracy Williams من جامعة فيرجينية إنه من بين مئة جنين تحقن مجهرياً بهذه الطريقة يمكن الحصول على خمسة منها تقبل التعليمات الجديدة الوراثية. وهناك جنين واحد تتوضع فيه المورثة المنقولة إليه في المكان المناسب المطلوب وتقوم بالعمل قياماً صحيحاً. وأحياناً تتداخل المورثات المنقولة مع مورثات أخرى مما يسبب الإخلال بالعمل. ولا يمكن دائماً إيجاد «المورثة المنقولة» عند الانتقال من جيل إلى آخر.
أما طريقة الاستنساخ في معهد روسلين فإنها تمتاز بتصور مبدأين على الأقل هما: استنساخ الحيوانات المنقول إليها جينات وذات الإنتاجية الممتازة، والتداول manipulation غير العشوائي للمورثات باستخدام تقانة متقدمة هي «التأشيب المماثل» recombinaison homologue. وهي تقانة في الهندسة الوراثية تدخل متواليات مختارة من الدنا DNA في مكان محدد من الشريط الحامل للمورثات على نحوٍ مماثل للمتواليات أو المورثة المراد تعديلها أو تبديلها (الشكل 5).
وبعد التثبت من توضع المورثات المرغوب فيها في مكانها فإن من الممكن عن طريق زراعة الخلايا المعطية أن يُزاد عددها زيادة كبيرة. ومن الممكن أيضاً إدخال تغيرات دقيقة جداً في دنا DAN هذه الخلايا، بأن يُدخل تعديل داخل مورثة محددة أو إضافة مورثات بدقة ثم يحقق الدمج بعد ذلك والتطعيم أو الزراعة. وهناك بعض الصعوبات التي يجب تجاوزها، إذ مازال المجموع المورثي genome للثدييات الكبيرة غير معروف تماماً. ولكي يستطاع «التسديد» جيداً يجب أن تكون هناك متواليات هدفية متوافقة تماماً مع المورثة المدخَّلة.
الاستنساخ وإنتاج العقاقير والهرمونات والبروتينات
لقد ذُكر أنه يُنتج في الولايات المتحدة مضاد الخثرين III عن طريق حليب ماعز نُقلت إليه جينات. وفي أسترالية تقوم خنازير نقلت إليها جينات بإنتاج مفرط لهرمون النمو STHالمعد لتسريع نمو خنازير أخرى. وبتطبيق تقانات الاستنساخ عليها فإن ذلك سوف يتيح زيادة كبيرة في أعدادها ومن ثم زيادة الإنتاج. وهنالك مؤسسة للعلاجات تنتج أنواعاً من البروتينات ذات الفائدة الطبية في حليب معز مختار نقلت إليه جينات وتنتج كذلك عقاراً لمعالجة مرض اللُّزاج المخاطي mucoviscidose، وتقوم أيضاً بإنتاج بروتينات كالعامل IX (وهو عامل التخثر للمصابين بمرض الناعور hémophilia).
وقد أعلنت مؤ سسة «جنزيم» إنتاج نوع من الأضداد anticorps وحيد النسيلة monoclonal يهدف إلى مكافحة بعض السرطانات وذلك عن طريق ماعز نقلت إليه جينات.
ويذكر تراسي وليامز أن هناك بعض الأدوية المعقدة التي يكون تصنيعها داخل الحيوان أقل كلفة وأكثر نجاعة من الطرائق التقليدية. ويم كن استخلاص الجزيئة الفعالة بكل سهولة من الحليب وتنقيتها. ويُحصل على كميات كبيرة لأن الحيوان يستخدم كمفاعل بيولوجي bioréacteur. وتكون المنتجات الناجمة عن حليب البقر أو المعز أيضاً آمنة بوجه خاص، فهي تجنب مثلاً احتمال التلوث الفيروسي للمنتجات المشتقة من دم الإنسان. وإضافة إلى ذلك فإن لها الحظ الأوفى لتكون أكثر قرباً من البروتينات البشرية مقارنةً مع المنتجات المصنعة اليوم داخل كائنات ابتدائية كالجراثيم.
وهناك أبحاث تجري في مؤسسات الهندسة الوراثية الأمريكية، تطبيقاً لتقانة نقل الجينات، لإنتاج حليب لايشتمل إلا على القليل من الشحوم المشبعة. وكذلك يأمل آلان كولمان Alan Colman من فرجينية، أن تنتج أبقاره حليباً أقل تحسيساً allergenique أو أرجية من غيره. وتتجلى أهمية تقانة الاستنساخ بتسهيل «تصنيع» قطعان المواشي التي ستقوم بإنتاج هذه العقاقير أو هذه الهرمونات أو البروتينات ذات المواصفات الخاصة، وبكميات كبيرة جداً تلبي الطلب المتزايد عليها في دول العالم المختلفة.
الآفاق المستقبلية للاستنساخ
مما لاشك فيه أن نجاح تطبيق تقانة الاستنساخ على الثدييات الكبيرة قد أحدث ثورة علمية كبيرة سوف يكون لها الأثر الكبير مستقبلاً على تطوير الإنتاج الزراعي بفرعيه الرئيسين الإنتاج النباتي والإنتاج الحيواني. وكذلك فإن الآفاق المستقبلية للاستنساخ تنبئ بتصنيع الكثير من العقاقير والأدوية التي يحتاج الإنسان إليها لمعالجة الأمراض المختلفة التي يتعرض لها.
ويقول المهندس الباحث إيفان هيمان Yvan Heyman من معهد البحوث الزراعية في فرنسة، إن تقانة الاستنساخ هذه، عندما تتوسع، سوف تتيح للبحوث الأساسية والتطبيقية أن تحقق قفزة نوعية مهمة. إذ إنه من الأهمية بمكان إجراء البحوث على حيوانات تمتلك الإمكانات الوراثية ذاتها المحددة بدقة لكي يتم التمكن من إجراء المقارنات في نطاق الآليات الإمراضية والغذائية وتأثير الأدوية وغير ذلك. فمثلاً عندما تُختبر معالجة معينة «على الحي in vivo» فيمكن معرفة آلية هذه المعالجة بكل دقة. وذلك لأن حيوانات التجربة والحيوانات الشاهدة لها البنى النسيجية والخلوية والفيزيولوجية نفسها وسوف تتيح هذه التقانة الحصول على الأعداد أو النسخ من أي فرد يُختار من الحيوانات، كما هي الحال فيما يجري اليوم في نطاق البستنة للحصول على الأعداد الكبيرة المطلوبة من الأزهار النادرة المرتفعة الثمن كأزهار «الأوركيس orchis أو السحلب» مثلاً.
ويُقدِّر العالم فرنسو ا جاكوب François Jacob الحائز عام 1965 جائزة نوبل في الطب، أن تقانة الاستنساخ سوف تسهم في تفسير الكثير من القضايا العلمية المهمة مثل أمور العقم والسرطان. فالخلية السرطانية هي خلية فقدت تمايزها الأصلي وعادت كاملة الإمكانات من جديد. وكذلك سوف تكون مفيدة جداً في مجال الطعوم الأجنبية أو المغايرة xénogreffes، وهي التي تُعنى بنقل أعضاء الحيوانات وزرعها في جسم الإنسان. ويتوقع علماء الحياة أن تعطي تقانة الاستنساخ إيضاحات مهمة تتعلق بآليات الشيخوخة الخلوية أو الشيخوخة عموماً.
الاستنساخ والإنسان
أشير إلى أن الضجة ا لإعلامية الكبيرة التي أعقبت إعلان ولادة النعجة دولِّي، كان سببها الرئيسي أن نجاح تقانة الاستنساخ عند الأغنام قد فتح الطريق أمام إمكانية نجاح الاستنساخ عند الإنسان. وهنا لا يمكن استعراض أو تلخيص الآراء المختلفة التي نشرت في هذا الموضوع. فقد كانت هناك معارضة شديدة من بعض الأوساط الاجتماعية والدينية والسياسية للمحاولات التي يمكن أن تجري لاستنساخ الإنسان. وكانت هناك فئات من هذه الأوساط تدعو إلى عدم الإسراع في إصدار الأحكام قبل نجاح التجربة ووضع القوانين الناظمة لعملية الاستنساخ عند الإنسان، كما تمَّ لموضوع أطفا ل الأنابيب الذي أحدث ضجة مماثلة في نهاية السبعينات، والذي أصبح مألوفاً وانتشر تطبيقه في عدد كبير من دول العالم. وهناك أخيراً بعض الأوساط العلمية التي تدافع عن فوائد الاستنساخ عند الإنسان وتريد تسريع الخطأ في الأبحاث المؤدية إلى تطبيقات مهمة.
ويُذكر أن أول تجربة محققة لمحاولة استنساخ الإنسان كانت قد تمّت عام 1979 من قبل الباحث شيتلس L.B.Shettles في جامعة كولومبية في نيويورك. إذ قام بإدخال منسليات منوية Spermatogonies لرجل في خلايا بيضية منزوعة النواة للمرأة، وقد تطور الجنين حتى مرحلة التويتة.
وكان جوشوا ليدربرغ Joshua Lederberg حامل جائزة نوبل في الطب قد دافع عن استنساخ البشر كوسيلة لإنتاج «أفراد متميزين». وكان يدعم الفكرة التي ينادي بها بعض الباحثين وهي أن مجموعة من التوائم تكون أكثر ملاءمة لبعض المهام الخاصة التي تتطلب تعاوناً صميمياً كالمداخلات الجراحية أو البعثات الفضائية وقد كتب جوزيف فليتشر Joseph Fletcher من جامعة فرجينية يقول: «إن المجتمع قد يحتاج إلى نسائل بشرية متخصصة للقيام ببعض الأدوار الخاصة منها مثلاً بعض الأفراد المقاومين للإشعاعات، أو بعض الأشخاص من ذوي الحجم الصغير جداً من أجل الطيران في الفضاء». ومن المعلوم أن ويليام شوكلي William Shockley حامل جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1956 كان يؤيد تأسيس بنك للنطاف لإنتاج أطفال نوبل.
لقد يسرت تقانة الإلقاح الاصطناعي «في الزجاج» عملية الاستنساخ. إذ يكفي فصل الخلايا بعضها عن بعض في المراحل الأولى من التطور الجنيني (من خليتين إلى ثماني خلايا) وهي عملية تجريها بعض المستشفيات المتخصصة بأطفال الأنابيب لتحري احتمال وجود عاهة أو مرض وراثي في الجنين المرتقب. وإنه من الناحية التقنية يمكن تجميد النسائل والاحتفاظ ببعضها مدة طويلة نسبياً.
ويرى الباحثون أن «الدنا» الجنيني يبدأ بنشاطه عند الإنسان بعد مرحلة الخلايا الأربع من التقسم، وهي مدة أقل من حالة الخراف. ويقول إيان فيلموت أنه إذا أريد فعلاً استنساخ الإنسان فسوف يكون الأمر ممكناً في المستقبل، حتى بالتقانة التي استنسخت فيها النعجة دولِّي، ولكن يجب الانتباه إلى أن دولِّي ذاتها ليست نسيلة كاملة أو نسخة طبق الأصل 100% عن النعجة التي أخذت الخلية الثديية منها. والسبب يعود لعدة عوامل منها مثلاً أن مجموع مورثات الجسيمات الكوندرية التي تتوزع في خلاياها يأتي من الخلية البيضية المنزوعة النواة وبنسبة كبيرة وليس من الخلية الثديية. ولا يعلم بالضبط حتى اليوم دور المجموع الكوندري في تحديد مسار التمايز والنمو الجنيني في مراحل التشكل الأولى. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالسيتوبلاسما والعناصر السيتوبلاسمية الأخرى الموجودة أصلاً في الخلية البيضية التي حضنت الخلية الثديية. ومن وجهة النظر هذه فإن دولِّي «وأمها» لا تشكلان توأمين حقيقيين يماثلان التوائم الحقيقية التي تأتي من بيضة ملقحة واحدة. يضاف إلى ذلك تأثير الوسط الذي ينمو فيه الجنين وتأثير النمط الغذائي للأم التي ستحمل الجنين في رحمها حتى ولادته، وكذلك الفارق الزمني أو «فارق الأجيال» difference de generation الذي تتدخل فيه عوامل كثيرة يصعب تحديد أثرها بدقة منها العوامل البيئية والاجتماعية والتربوية والصحية وغيرها. ويقول توماس موري Thomas Murray العالم البيولوجي من جامعة كيزويسترن في كليفلند إنه حتى إذا أريد استنساخ امرأة ما بوساطة خلاياها البيضية ذاتها فسوف نحصل على كائنين بشريين مختلفين نسبياً. فمثلاً عندما يصبح عمر المرأة المستنسخة 40 عاماً فإن دنا DNA خلاياها يكون قد شاخ، وخاصة إذا كان عمرها، عندما استنسخت، متقدماً مثلاً 40 أو 50 عاماً، إذ يكون عمر الدنا 80 أو 90 عاماً.
بالمقابل يعلِّق عدد من الباحثين الآمال على تطبيق تقانة الاستنساخ عند الإنسان ضمن حدود قوانين صارمة، وخاصة للحصول على أعضاء لزراعتها عند المرضى المحتاجين. وفي هذا المجال يقول روبرت إدوارد Robert Edwards الأب العالمي لأول طفلة أنبوب من كامبردج: «يمكن التفكير باستنسال نسائل تسمح بالحصول على سلالات خلوية لتصنيع «أعضاء تبديلية» organes de rechange توافق تماماً الأعضاء التالفة في حالات المرض أو الحوادث» ويضيف «إنه لأمر مفيد جداً التمكن من الحصول على زراعات لسلالات خلوية مناسبة لتصنيع كبد أو قلب».
وكذلك يعلن سيمون فيشل Simon Fishel البريطاني والمختص بعلم الجنين، أنه يؤيد فكرة استنساخ مريض للحصول على خلايا أرومية جنينية يمكن استخدامها لإصلاح النسج التالفة عنده. ويقول الباحث جورج سايدل George Seidel من جامعة كولورادو: «في حالة إصابة الكبد مثلاً، بما يسبب تخربه وتلفه، فإنه يمكن استنساخ خلايا من جلد هذا الإنسان المصاب، وإنتاج جنين يقوم بتصنيع كبد جديدة يمكن زرعها مكان الكبد التالفة، من دون الخوف من حادثة الرفض المناعية المعروفة. وينطبق الأمر على زراعة أي عضو مصاب في الجسم مثال الكليتين أو البنكرياس وغيرها».
أخيراً يمكن معالجة حالات من العقم المستعصية حتى اليوم وذلك بتطبيق تقانات الاستنساخ للحصول على أطفال تحمل الصفات الوراثية للأب أو الأم وإنقاذ الأسرة من دون اللجوء إلى استخدام نطاف غريبة.
وسوف يظل موضوع استنساخ الإنسان موضع جدل واختلاف وجهات النظر حتى يستقر الأمر على حال، كما تمّ في موضوع أطفال الأنابيب أو يستقر على نحو مغاير.