Search - للبحث فى مقالات الموقع

Tuesday, January 25, 2011

المعتزلة فرقة إسلامية تنتسب إلى واصل بن عطاء الغزال



تعريفهم : المعتزلة فرقة إسلامية تنتسب إلى واصل بن عطاء الغزال، تميزت بتقديم العقل على النقل، وبالأصول الخمسة التي تعتبر قاسما مشتركا بين جميع فرقها، من أسمائها القدرية والوعيدية والعدلية، سموا معتزلة لاعتزال مؤسسها مجلس الحسن البصري بعد خلافه معه حول حكم الفاسق .

نقاط في المنهج
تثير القضايا المتصلة بالتراث الفكري والسياسيّ للعصور الإسلامية وسائر المراحل التاريخية اللاحقة نقاشا حول الموقع الذي تصدر عنه القراءة والأهداف التي ترمي إليها. تشكّل هذه القضية نقاطا خلافية كانت ولا تزال مستمرّة بحيث نجد مدارس متعددة في استحضار التراث وتفسيره وتوظيفه في أهداف محددة. هناك من يتعاطى مع التراث بأخذه بكليته وإغداق شيء من التقديس عليه ورفض نقده او تفكيكه، بل اعتباره صالحا لزمننا الراهن. يذهب آخرون إلى رفض التراث واعتباره شيئا من الماضي الذي يثقل على الحاضر ويعيق تقدم المجتمعات العربية والإسلامية ويمنع تفاعلها مع تطوّرات العصر، وهو نقد يرمي أصحابه إلى التخلّي عن التراث لصالح ما تقدّمه الحياة العصرية من فكر وفلسفة وعلوم حديثة. كما أنّ هناك من يتعاطى مع التراث وفق انتقائية خارج سياق الشروط التاريخية والمكانية التي جرى فيها إنتاجه، وهو فصل تعسّفيّ يمنع إمكان قراءة موضوعية للنصوص المقدمة تاريخيّا.
تقدّم وجهة النظر القائلة بقراءة التاريخ الماضي ومنه التراث بعين الحاضر فكرة تساعد على رؤية العوامل الموضوعية التي جرت الأحداث في سياقها ومعها الأفكار والنظريات التي أنتجتها. وتوفر في الآن نفسه مجالا للإفادة من دروس الماضي في الزمن الراهن. من المعروف أنّ الفكر السياسيّ القديم والحديث كان لصيقا بالحراك السياسيّ والاجتماعيّ الذي حكم الكثير من توجهاته. وعندما نقرأ هذا التاريخ، سواء عبّرت عنه حركة فكرية – سياسية مثل المعتزلة، أو صدر على لسان مفكرين مثل ابن رشد أو ابن باجه أو ابن خلدون وغيرهم من أعلام الفكر السياسيّ والفلسفيّ في العالم العربي والإسلاميّ، فلا يضمر الاستحضار محاولة لإعطاء رأي في ما كان يجب أن يكون عليه الحراك ونتاجه الفكريّ. ليس من العلم اقتراح تاريخ آخر افتراضيّ ينطلق من الحاضر لإعطاء ما يشبه الدروس على ما كانت عليه هذه التجربة أو تلك. يقرأ الماضي كما يقدم نفسه عبر تفسير الأحداث وتعيين العوامل التي جعلت هذه الخيارات وليس غيرها محصلة لهذا الحراك.
إذا كان رفض اقتراح تاريخ آخر لأيّ حدث فكريّ أو سياسيّ يدخل في باب القراءة العلمية الموضوعية لقضايا تراثية متعددة لأنها انعكاس لوعي محدّد ولظروف تاريخية معينة أفرزتها، فانّ ذلك لا يمنع، بل هو يحتم التوقف أمام الدروس المستقاة من هذه التجربة أو تلك والإفادة منها في الحاضر والمستقبل. التاريخ يقدم لنا تجارب يستحيل إسقاطها على الحاضر، ولكن يمكن الاسترشاد بدروسها في تجاربنا الراهنة والمقبلة. من هنا سنقرأ تجربة المعتزلة بصفتها حركة فكرية سياسية واجتماعية ليس من أجل استعادتها في زمننا الراهن أو للقول بان أقطابها كان يجب أن يسلكوا هذا المسلك أو ذاك، بمقدار ما يمكن الإفادة منها في سياق الصراع الفكريّ السياسيّ الدائر حاليا في العالمين العربيّ والإسلاميّ بين قوى تسعى لتسليط الغيبيات والخرافة والأساطير وتسييدها على العقول، وبين قوى تسعى إلى إعطاء دور للعقل مرشدا للبشر في حياتهم العامة ووسيلة لدخول هذا العالم في العصر



مؤسسها :
واصل بن عطاء الغزال: قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير :" البليغ الأفوه أبو حذيفة المخزومي مولاهم البصري الغزال .. مولده سنة ثمانين بالمدينة، .. طرده الحسن عن مجلسه لما قال الفاسق لا مؤمن ولا كافر فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن فسموا المعتزلة "
عمرو بن عبيد: قال الذهبي في ترجمته في السير : " عمرو بن عبيد الزاهد العابد القدري كبير المعتزلة .. قال ابن المبارك دعا - أي عمرو بن عبيد - إلى القدر فتركوه، وقال معاذ بن معاذ سمعت عمروا يقول إن كانت { تبت يدا أبي لهب } في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة، وسمعته ذكر حديث الصادق المصدوق، فقال : لو سمعت الأعمش يقوله لكذبته، إلى أن قال ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرددته .. مات بطريق مكة سنة ثلاث وقيل سنة أربع وأربعين ومائة "
العقائد والأفكار :
بدأت المعتزلة بفكرة أو بعقيدة واحدة، ثم تطور خلافها فيما بعد، ولم يقف عند حدود تلك المسألة، بل تجاوزها ليشكل منظومة من العقائد والأفكار، والتي في مقدمتها الأصول الخمسة الشهيرة التي لا يعد معتزليا من لم يقل بها، وسوف نعرض لتلك الأصول ولبعض العقائد غيرها، ونبتدئ بذكر الأصول الخمسة:
1- التوحيد: ويعنون به إثبات وحدانيته سبحانه ونفي المثل عنه، وأدرجوا تحته نفي صفات الله سبحانه، فهم لا يصفون الله إلا بالسلوب، فيقولون عن الله : لا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا بذي حرارة ولا برودة .. إلخ، أما الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة فينفونها عن الله سبحانه تحت حجة أن في إثباتها إثبات لقدمها، وإثبات قدمها إثبات لقديم غير الله، قالوا : ولو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألوهية، فكان التوحيد عندهم مقتضيا نفي الصفات.
2- العدل: ويعنون به قياس أحكام الله سبحانه على ما يقتضيه العقل والحكمة، وبناء على ذلك نفوا أمورا وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقا لأفعال عباده، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم إن خيرا وإن شرا، قال أبو محمد ابن حزم: " قالت المعتزلة: بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه إن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل ". وأوجبوا على الخالق سبحانه فعل الأصلح لعباده، قال الشهرستاني:" اتفقوا - أي المعتزلة - على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه عندهم خلاف وسموا هذا النمط عدلا "، وقالوا أيضا بأن العقل مستقل بالتحسين والتقبيح، فما حسنه العقل كان حسنا، وما قبحه كان قبيحا، وأوجبوا الثواب على فعل ما استحسنه العقل، والعقاب على فعل ما استقبحه.
3- المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل يوضح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة، وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري، إذ يعتقد المعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمنا بوجه من الوجوه، ولا يسمى كافرا بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرا على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.
4- الوعد والوعيد: والمقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحدا منهم من النار، فهم كفار خارجون عن الملة مخلدون في نار جهنم، قال الشهرستاني:" واتفقوا - أي المعتزلة - على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض .. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعدا ووعيدا " 
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا الأصل يوضح موقف المعتزلة من أصحاب الكبائر سواء أكانوا حكاما أم محكومين، قال الإمام الأشعري في المقالات :" وأجمعت  المعتزلة إلا الأصم على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك" فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغلبة الظن بحصول الغلبة وإزالة المنكر .
هذه هي أصول المعتزلة الخمسة التي اتفقوا عليها، وهناك عقائد أخرى للمعتزلة منها ما هو محل اتفاق بينهم، ومنها ما اختلفوا فيه، فمن تلك العقائد :
6- نفيهم رؤية الله عز وجل: حيث أجمعت المعتزلة على أن الله سبحانه لا يرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، قالوا لأن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله سبحانه وهو منزه عن الجهة والمكان، وتأولوا قوله تعالى :{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } أي منتظرة .
7- قولهم بأن القرآن مخلوق: وقالوا إن الله كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة.
8- نفيهم علو الله سبحانه، وتأولوا الاستواء في قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } بالاستيلاء .
9- نفيهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته . قال الإمام الأشعري في المقالات : " واختلفوا في شفاعة رسول الله هل هي لأهل الكبائر فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله "
10- نفيهم كرامات الأولياء، قالوا لو ثبتت كرامات الأولياء لاشتبه الولي بالنبي .
فرق المعتزلة
  عادةً ما تبدأ الفرق في عددها وأفكارها صغيرة ثم ما تلبث أن تتشعب وتتفرق، فتصبح الفرقة فرقاً والشيعة شيعاً، وهكذا كان الحال مع المعتزلة فقد بدأت فرقة واحدة ذات مسائل محدودة، ثم ما لبثت أن زادت فرقها، وتكاثرت أقوالها وتشعبت، حتى غدت فرقا وأحزابا متعددة، ونحاول في هذا المبحث أن نذكر بعضا من تلك الفرق، ونقدم موجزاً تعريفياً بها وبمؤسسها، مع ذكر بعض أقوالها التي شذت بها عن أصحابها المعتزلة، فمن فرق المعتزلة:
1- الواصلية: وهم أصحاب أبى حذيفة واصل بن عطاء الغزال، كان تلميذا للحسن البصري يقرأ عليه العلوم والأخبار، ثم فارقه بسبب خلافه معه في مسألة مرتكب الكبيرة، وقول واصل فيه بأنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين .
2- الهذيلية: وهم أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاّف شيخ العتزلة ومقدمهم، أخذ الإعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، من مفردات قوله: أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع وأنهم يصيرون إلى سكون دائم خمودا، وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار.
3- النظامية: أتباع إبراهيم بن يسار بن هانئ النظّام كان قد خلط كلام الفلاسفة بكلام المعتزلة، وانفرد عن أصحابه بمسائل منها قوله: أن الباري سبحانه لا يوصف بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئا، ولا على أن ينقص منه شيئا، وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنة، ولا أن يخرج أحدا من أهل الجنة، وليس ذلك مقدورا له، وقد ألزم بأن يكون البارى تعالى مجبورا على ما يفعله تعالى الله .
4- الخابطية والحدثية: أصحاب أحمد بن خابط وكذلك الحدثية أصحاب الفضل الحدثي، كانا من أصحاب النظام وطالعا كتب الفلاسفة، ومن مفردات أقوالهما القول - موافقة للنصارى- بأن المسيح عليه السلام يحاسب الخلق في الآخرة . وكذلك قولهم: أن الرؤية التي جاءت في الأحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فى رؤيته ) متفق عليه، هي رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع وهو العقل الفعّال الذي منه تفيض الصور على الموجودات، فهو الذي يظهر يوم القيامة وترفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه فيرونه كمثل القمر ليلة البدر فأما واهب العقل "الله" فلا يُرى.
5- البشرية: أصحاب بشر بن المعتمر كان من علماء المعتزلة ، قال الذهبي: " وكان .. ذكيا فطنا لم يؤت الهدى، وطال عمره فما ارعوى، وكان يقع في أبي الهذيل العلاف وينسبه إلى النفاق " من أقواله :" أن الله تعالى قادر على تعذيب الأطفال وإذا فعل ذلك فهو ظالم " .
6- المردارية: أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار، ويسمى راهب المعتزلة، من مفردات أقواله : أن الله تعالى يقدر على أن يكذب و يظلم ولو كذب وظلم كان إلها كاذبا ظالما تعالى الله، وقال إن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ونظما وبلاغة، وكان مبالغا في القول بخلق القرآن وتكفير من خالفه، وقد سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعاً فكفّرهم، فأقبل عليه إبراهيم، وقال الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك، فخزي ولم يحر جوابا.
7- الثمامية: أصحاب ثمامة بن أشرس النميري كان جامعا بين سخافة الدين وخلاعة النفس، انفرد عن أصحابه المعتزلة بمسائل منها قوله: في الكفار والمشركين والمجوس واليهود والنصارى والزنادقة والدهرية أنهم يصيرون في القيامة ترابا، وكذلك قال : في البهائم والطيور وأطفال المؤمنين .
8- الهشامية: أصحاب هشام بن عمرو الفوطي كان مبالغا في نفي القدر، وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل، منها قوله: أن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين بل هم المؤتلفون باختيارهم، وقد ورد في التنزيل  { ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } ، ومنها قوله : أن الله لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزينه في قلوبهم، وقد قال تعالى : { وحبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } ومن أقواله: أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن، وقال كذلك : أن النبوة جزاء على عمل وأنها باقية ما بقيت الدنيا.
فهذه هي المعتزلة نشأة وأقوالا ورجالا وعقائد، عرضناها مختصرة بغية تعريف القارئ بحال تلك الفرقة التي أوجدت جدلا شديدا في مراحل كثيرة من التاريخ الإسلامي ، ووضعت الشرع المطهر في مخاصمة مفتعلة مع العقل، فكان أثرها على الشرع سيئاً إذ قللت من هيبته، وأثرها على العقل أسوأ إذ وضعته في مكان لا يرتقي إليه .
وقفة مع المعتزلة
ربما ظن البعض أن المعتزلة قد ذهبت من غير ر جعة، وأن أفكارهم الجريئة لم يعد لها وجود، وأن التوازن قد عاد لجدلية العقل والنقل، إلا أن هذا الظن خاطيء، فالمذهب المعتزلي ما زال موجودا حيا في الصدور ومكتوبا في السطور، وما زالت فرق عديدة تتبناه، وإن اختلفت مسمياتها، فضلا عن انتصار كثير من الحداثيين لمنهج الاعتزال في تقديم العقل على النقل وجعله حاكما على نصوص الشريعة، فالاعتزال قائم مبثوث في العقائد والأفكار ولكن الذي ذهب هو حدته وصولته بعد زوال دولته، وتعرضه لعملية نقد متواصلة على أيدي أئمة السنة، فغدا هامدا يظنه الناس ميتا وليس بميت، ونحاول في خاتمة عرضنا لعقيدة المعتزلة أن نقف وقفة مع هذا المنهج نبين فيه أمرا غاية في الأهمية هذا الأمر هو مخالفة منهج المعتزلة لمنهج السلف، ومباينة عقائد الاعتزال لعقائد الصحابة الكرام، ولنروي في هذا الإطار المناظرة الشهيرة التي قصمت ظهر المعتزلة، والتي جرت بين شيخ من شيوخ السنة وشيخ المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد، فقد جيء بشيخٍ سني كبير موثقا بحديده ، حتى أوقفوه في حضرة الخليفة الواثق، فطلب منه الخليفة مناظرة أحمد بن أبي دؤاد فوافق، بعد أن طعن في قدرة أحمد بن أبي دؤاد على المناظرة، وابتدأ السؤال قائلا : مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها، من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين، فلا يكون الدين تامًّا إَّلا بالقول بها ؟ قال أحمد بن أبي دؤاد : نعم .
فقال الشيخ : فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إليها أم تركهم ؟ قال أحمد : لا . قال له: يعلمها أم لم يعلمها ؟قال : عَلِمَهَا .قال: فلم دعوت إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، وتركهم منه ؟ فأمسك.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه واحدة. ثم قال له: أخبرني يا أحمد، قال الله في كتابه العزيز:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ديِنَكُمْ }( المائدة :3)، فقلت أنت : الدين لا يكون تاماًّ إلا بمقالتك بخلق القرآن، فالله تعالى – عز وجل – صدق في تمامه وكماله ، أم أنت في نقصانك ؟! فأمسك .
فقال الشيخ يا أمير المؤمنين ، هذه ثانية .ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد ، قال الله عز وجل:{ يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }( المائدة :67) فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها، فيما بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أم لا ؟ فأمسك.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه الثالثة. ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد، لمّا عَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتك التي دعوت الناس إليها، أَتَّسع له أن أمسك عنها أم لا ؟ قال أحمد : بل اتَّسع له ذلك .فقال الشيخ : وكذلك لأبي بكر ، وكذلك لعمر ، وكذلك لعثمان ، وكذلك لعلي رحمة الله عليهم ؟ قال : نعم .فصرف وجهه إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين، إذا لم يسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا.
فقال الواثق: نعم، لا وسع الله علينا، إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، فلا وسع الله علينا.
وبهذه المناظرة كسر الله شوكة المعتزلة فتحول وجه الخليفة عنهم، وما زال مذهبهم في هبوط إلى يومنا هذا، ولنختم بكلمة للعلامة ابن الوزير اليماني، يبين فيها هذا الأصل، قال رحمه الله : " وقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فكل ما لم يُبين من العقائد في عصر النبوة فلا حاجة إلى اعتقاده، ولا الخوض فيه والجدال، والمراد سواء كان إلى معرفته سبيل [ غير النقل ] أو لا، وسواء كان حقا أو لا، وخصوصا متى أدى الخوض فيه إلى التفرق المنهي عنه، فيكون في إيجابه إيجاب ما لم ينص على وجوبه " . فاستمسك أخي القارئ بمثل هذا الأصل العظيم، واحفظ به دينك فما لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته دينا فليس اليوم دين.



المعتزلة بين الماضي والحاضر
بعد هزيمة المعتزلة وما رافقها من تنكيل بأقطابها، دخل الفكر العربي والإسلامي في عصر من الجمود والحرب على العقلانية وصل إلى الحجر على الاجتهاد. دخلت مفاهيم المعتزلة ومبادئها في ما يطلق عليه محمد أركون "غير المسموح التفكير فيه، أو المستحيل التفكير فيه". منذ دخول المجتمعات العربية في ما يسمى عصور الانحطاط السياسي والاجتماعي، ازدهرت السلفية مجددا في مجال التشريع الإسلامي وساد مبدأ "لا اجتهاد في النص"، بما أنتج لنا علوما في الفقه أغلقت كل باب في التفسير غير المتوافق معها، واعتبرت مذاهب الفقهاء آخر ما أنتجه العقل الإسلامي. لا تقرأ سيادة الانغلاق التشريعي والديني بمعزل عن الهزائم السياسية والاجتماعية والفكرية التي أصابت الدولة الإسلامية العربية بعد تفكك دولة العباسيين، حيث يؤشر هذا الانهيار إلى مرحلة عصور الانحطاط التي لا تزال تجرجر أذيالها حتى اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية.