محمود بيرم التونسي (3 مارس 1893 - 5 يناير 1961) شاعر عامية مصري من أصل تونسي. لم يعشق الا مصر واهلها وولد بمصر عنت له أم كلثوم. وهو من اشهر الشعراء العاميين.
ولد "محمود بيرم التونسي" في حي الأنفوشي بالإسكندرية بشارع البوريني بالسيالة في 3 مارس 1893، ولكن والده سجّله ضمن مواليد حي الأزاريطة في جهةالرمل.
كان لبيرم أخت واحدة من والده وكانت تكبره بحوالي عشرين عامًا، وكان والده يمتلك مع أبناء عمومته دكانًا لبيع الحرير، فكان مثل باقي التجار يريد تعليم ابنه، فما لبث أن أرسله وهو في الرابعة من عمره إلى كُتّاب الشيخ جاد الله، وأوصى الشيخ بقوله: " افعل ما تريد" فكأن الشيخ ينتظر سماع هذه الجملة حتى ينهال على الصغير بالضرب؛ حيث كان بيرم لا يجيد الحساب فلا يفرق بين السبعة والثمانية في الكتابة!
ويئس الوالد من تعليم ابنه، فسلّم بذلك وأخرجه من الكتاب وأرسله ليعمل في دكان الحرير مع أبناء عمومته، حتى ليقول بيرم عن هذه الفترة: إنه لم يستفد من هذا الشيخ إلا إلمامه بمبادئ القراءة والكتابة فقط، أما حبه وشغفه بالقراءة والمعرفة فلم يكن ليتعلمها أبدًا بهذا الأسلوب العنيف في التربية!
ويحاول والده ثانية، فيرسله إلى "مسجد المرسي أبو العباس" وكان به معهد ديني، وهناك شغف بيرم بمراقبة الطلبة الأكبر منه سنًا حيث كانوا يقرءون وهم يروحون ويجيئون في أرجاء المعهد، وبالفعل أخذ الصغير يقلدهم ويشتري الكتب ويحاول قراءتها بنفس الطريقة فما كان منهم إلا أن سخروا منه!
رحلة الحياة
ولم يكد بيرم يبلغ من العمر ما يمكّنه من فهم ما يدور حوله حتى يسمع بزواج والده من امرأة ثالثة، بل ولا ترحم أمّه طفولته فتحكي له عن زيجات والده، وأيضًا سبب تسميتهم بالتوانسة، وهي أن السلطان التركي كان قد أهدى إلى جدّ والد بيرم جارية فولدت له ولدًا إلا أن الرجل مات قبل أن يثبت نسب هذا الطفل له، ولما كبر الطفل (جد بيرم) رفضت أسرة أبيه الاعتراف به ومنعته من إرثه فهاجر إلى مصر وتزوج وأنجب ثلاثة أولاد، كان من بينهم والد بيرم.
وقبل أن يعي الصغير كل هذا، وجه له القدر ثاني ضرباته، وكان موت والده، ولم يكن بيرم قد تخطى الرابعة عشرة من عمره، كأنما القدر -رحمة به- يصعد به إلى قمة الألم درجة.. درجة!
وأصبح بيرم هو المسئول عن أمّه ماليًا؛ إذ إن الأب لم يترك لهم شيئًا، بل ويؤكد له أبناء عمومته أن والده قد باع لهم الدكان قبل وفاته، فيضطر أن يعمل كصبي في محل بقالة.
وذات يوم يترك بيرم عمله ويذهب لسماع المواويل في المولد، فيطرده صاحب العمل.
وفي تلك الأثناء يتعرف بيرم مصادفة على أحد البنّاءين الذي كان يحكي له بعض الأدوار والطقاطيق القديمة؛ وهو ما يدفع بيرم بعد ذلك إلى محاولة معرفة المزيد، فلا يجد سبيلاً إلى ذلك غير شراء كتب الأساطير الشعبية مثل "ألف ليلة وليلة"، "أبو زيد الهلالي"، وكانت هذه الكتب تحتوي على أبيات من الشعر، وصادفت ميلاً عند الصبي. ووقعت في يده مصادفة مجموعة أشعار لابن الرومي، التي اعتبرها بيرم من أمتع ما قرأ.
وفي السابعة عشرة من عمره تزوجت أمه، ثم ماتت بعدها بوقت قصير، ويشترك مع أحد الصيادين في دكان للبقالة، ولم يلبث بيرم أن أخذ يقرأ كل ما يقع تحت يديه من قصاصات الورق والكتب، التي كان من المفترض أن يبيع فيها الجبن؛ وهو ما يدفعه نحو العلم فيذهب لشراء الكتب ومخالطة طلبة العلم؛ فلم يكن يعجبه -وهو قليل العلم- ما يلاقيه منهم، من عدم اهتمام بالثقافة العامة، واقتصارهم على المقررات العلمية!
وبعد فترة يتزوج بيرم ثم يفلّس مشروعه، بسبب عدم اهتمامه به وبسبب إنفاقه كل ما يأتيه منه على شراء الكتب! فيبيع منزل والدته، ويفكر في مشروع آخر، فيحاول أن يبيع السمن، وكان البلد في هذه الفترة يعيش مرحلة متوترة بشدة، حيث أعلنت إنجلترا أن حكمها يقوم على رعاية مصالح الأجانب وحمايتهم، وكان الإنجليز يتعاملون على أنهم أصحاب البلاد؛ وبالتالي كانوا يفرضون الضرائب الباهظة ويتحكمون في البلاد وفي المواطنين بمنتهى الصلف والاحتقار.
فما كان من المجلس البلدي -وكان جميع موظفيه من الأجانب- إلا أن طالب بيرم بضرائب مبالغ فيها، بل ويحجز على بيته، وهنا تنطلق موهبة بيرم وتعلن عن نفسها لأول مرة.
نضوجه
قام بيرم بكتابة قصيدة، يعبر فيها عن سخريته من موقف المجلس البلدي فيقول:
قد أوقع القلبَ في الأشجانِ والكمدِ | هوى حبيبٍ يُسمّى المجلس البلدي |
ما شرّد النومَ عن جفني سوى | طيف الخيال، خيال المجلس البلدي |
.. حتى يقول
كأنّ أمي أبلّ الله تربتها | أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي |
أخشى الزواج، فإنْ يومُ الزواج أتى | يبقى عروس صديقي المجلس البلدي |
وربما وهب الرحمن لي ولدًا | في بطنها يدّعيه المجلس البلدي |
يا بائع الفجل بالمليم واحدةً | كم للعيال؟ وكم للمجلس البلدي؟ |
...
وتحدث هذه القصيدة صدى هائلاً في جميع الأوساط، حتى الشعبية منها، بل لقد طلب المجلس البلدي ترجمة القصيدة. وبعد أن وقفت قدم بيرم التونسي على أرض صلبة – بالنظر إلى موهبته- اتجه بيرم إلى نوع آخر، وهو القصائد الزجلية أي أنه اختار الكتابة بلغة الشعب؛ وذلك بهدف أن تصل قصائده إلى كل فئات الشعب. ويتعرّف بيرم بـ"سيد درويش" ويكتب له أول قصيدة وطنية فيقول:
اليوم يومك يا جنود | متجعليش للروح تمن |
يوم المدافع والبارود | مالكيش غيره في الزمن |
هيا اظهري عزم الأسود | في وجه أعداء الوطن |
عارٌ على الجندي الجمود | إلا إذا لفّه الكفن |
...
ويفقد بيرم زوجته في هذه الفترة وقد تركت له ولدين (محمد ونعيمة) فلا يستطيع أن يعتني بهما فيتزوج بعد وفاة زوجته بـ 17 يومًا.
وتشب في تلك الفترة ثورة 1919 فيجنّد بيرم قلمه لمساندة الثورة ويصدر جريدة "المسلّة" ويقول: إن سبب هذه التسمية، أن لفظ المسلة يعود إلى الفراعنة حيث كانوا يُطلون مسلاتهم باللون الذهبي والفضي حتى تعكس أشعة الشمس للمصلين داخل المعابد. إلى جانب أن هذه المسلة ذات أطراف مدببة جارحة، وبالإمكان أن نجعلها كالمنار تبدد الظلام والجهل من حياة المصريين، ويكون لأطرافها المدببة –مثل كلمات بيرم القاسية– أقوى أثر على حياتهم وفكرهم.
وقال في إحدى قصائده:
ما تمضغيش للعيال الأكل باسنانك | والنفخ في الأكل، سن، في عرض أيمانك |
إخّيه عليكي، بقيتي خصلتك سوده | ما تسمعيش الكلام تنشكّي في لسانك |
...
ويوجه النقد لنصف المجتمع المهمَل والمهمِل -المرأة- فيخاطب المرأة بأسلوبها ويقول:
وبطّلي قُولة العفريت والغولة | لَيطلع الواد عبيط والبِتّ مخبوله |
متعرفيش الكلام ده يتلف الأولاد | ويفرّجوكي المرار وتعيشي مخبوله |
...
ويستقبل الجمهور العدد الأول من جريدته -الذي وزعه بيرم بنفسه- بترحاب شديد. وليكون بيرم في قلب الأحداث؛ ينتقل إلى القاهرة ويؤجر حجرة بها، ويؤلف في هذه الفترة أوبريت جديد بالاتفاق مع "سيد درويش" ويقررا أن يكون مضمونه سياسيًا لكي يبثوا في دماء الشعب الحماسة.. ويكتب بيرم في الأوبريت:
أنا المصري كريم العُنصرين | بنيت المجد بين الأهرمين |
جدودي أنشئوا العلم العجيب | ومجرى النيل في الوادي الخصيب |
بيرم والعائلة المالكة
في عهد الملك فؤاد استفحل نفوذ الانجليز في البلاد دون أن يجسر أحد على نقد الملك العميل، فانفرد بيرم بمهاجمته بأقسى أنواع النقد بنشر فضائحه الشخصية. وقد قيل أن هذه الجرأة كانت ناشئة عن جنسيته التونسية التي كان لها حقوق الجنسية الفرنسية فلا تخضع للمحاكم المصرية. [1]
وكان أول هجوم له هو نشره ما ذاع من أن سراي السلطان فؤاد كانت مسرحاً لعلاقة غرامية بين فايقة، ابنته من زوجته الأولى شويكار. تلك العلاقة كثرت حولها الأقاويل حيث شاع بين الناس أن محافظ القاهرة حينذاك، حسين فخري على علاقة غير شريفة بالأميرة، فطلب فؤاد من المحافظ أن يتزوجها فرفض. فعرض الأمر على أخيه محمود فخري باشا وأغراه بتعيينه في منصب مرموق فقبل. فكتب بيرم زجلاً على وزن أغنية شعبية كانت شائعة حينئذ مطلعها "مرمر زماني، يا زماني مرمر" بعنوان القرع السلطاني، الذي يقول:
البنت ماشية من زمان تتمخطر | والغفلة زارعة في الديوان قرع أخضر |
تشوف حبيبها في الجاكتة الكاكي | والستة خيل والقمشجي الملاكي |
تسمع قولتها ... يا وراكي | والعافية هبلة والجدع متشطر |
الوزة من قبل الفرح مدبوحة | والعطفة من قبل النظام مفتوحة |
والديك بيدن والهانم مسطوحة | تقرا الحوادث في جريدة كتر |
يا راكب الفايتون[2] وقلبك حامي | حود على القبة[3] وسوق قدامي |
تلقى العروسة شبه محمل شامي | وابوها يشبه في الشوارب عنتر[4] |
وحط زهر الفل فوقها وفوقك | وجيب لها شبشب يكون على ذوقك |
ونزل النونو القديم من طوقك | ينزل في طوعك لا الولد يتكبر |
دا ياما مزع كل بدلة وبدلة | وياما شمع بالقطان والفتلة |
ولما جه الأمر الكريم بالدخلة | قلنا اسكتوا خلوا البنات تتستر |
نهايته يمكن ربنا يوفقكم | ما دام حفيظة الماشطة بتزوقكم |
دي سكرة مالطي داهية ما تفوقكم | بس ابقى سيبك م اللي فات دا مقدار |
وعندما علم فؤاد بهذا الزجل هاج وماج، ولكن الامتيازات الأجنبية حالت دون ينال من بيرم شيئاً.. ولم يلبث بيرم أن كتب زجلاً آخر أكثر جرأة بعد أن أعلن عن مولد فاروق في 11 نوفمبر سنة 1920، ولم يكن قد مضى على زواج فؤاد بزوجته الثانية نازلي إلا قرابة سبعة أشهر، حتى أشيع أن الحمل في فاروق حدث قبل عقد القران - فكان الزجل الذي كتبه بعنوان البامية السلطاني، وهو التالي:
البامية في البستان تهز القرون | وجنبها القرع الملوكي اللطيف |
والديدبان داير يلم الزبون | صهين وقدم وامتثل يا خفيف |
نزل يلعلط تحت برج القمر | ربك يبارك لك في عمر الغلام |
يا خسارة بس الشهر كان مش تمام |
ثم نشر بيرم زجلاً أشد عنفاً بعنوان هاء هاء وماء ماء:
اسمع حكاية بعدها هأهأ | زهر الملوك في الولد أهو طأطأ |
مالناش قرون كنا نقول مأ مأ | وناكل البرسيم بالقفة |
سلطان بلدنا حرمته جابت | ولد وقال سموه بقاروق |
فاروق فارقنا امال بلا نيلة | دي مصر مش عايزالها رذيلة |
دي عيشة بالقوة وبالتيلة | ومين بقى يلحس دي التفة |
يا داية ليه مانتيش حداية | خدتيه ورحتي على الجبلاية |
جبتي لنا خبره وتنك جاية | ندق لك في البيت الزفة |
يا عزرائيل اخلص بقى تاوي | ناقص سوا وديه عالنار |
وخد كمان جوليا قطاوي[5] | ياما الزمان كشف أسرار |
وبعد هذا الزجل اللاذع انصل فؤاد بالسلطات الأجنبية ونجح في اقناعهم بترحيل بيرم إلى تونس. وما أن استقر بيرم في تونس حتى أرسل زجلاً يسخر من السلطان بقوله:
ما قلتليش يا راعي الرعيان | بقى لك أزمان |
ازاي أحوال الخرفان | بتوع المجزر |
وعندما أصبح السلطان أحمد فؤاد ملكاً عقب التصريح البريطاني في 28 فبراير 1926 الذي اعترفت فيه بريطانيا بالاستقلال الذاتي لمصر وتحولت مصر من سلطنة إلى مملكة، إذا ببيرم ينشر زجلاً بعنوان مجرم ودون يقول:
ولما عدمنا بمصر الملوك | جابوك الانجليز يا فؤاد قعدوك |
تمثل على العرش دور الملوك | وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون |
وخلوك تخالط بنات البلاد | على شرط تقطع رقاب العباد |
وتنسى زمان وقفتك يا فؤاد | على البنك تشحت شوية زتون[6] |
بذلنا ولسة بنبذل نفوس | وقلنا عسى الله يزول الكابوس |
ما نابنا إلا عرشك يا تيس التيوس | لا مصر استقلت ولا يحزنون |
ويواصل بيرم نشاطه في صحيفته فيصدر في العدد 13 قصيدة بعنوان "البامية الملوكي والقرع السلطاني" وفيها ما يفيد أن وريث العرش الجديد –وهو الملك فاروق- وُلد بعد أربعة أشهر فقط من الزواج!
وعلى إثر هذه القصيدة أمر السلطان بإغلاق الصحيفة فورًا، فأصدر بيرم جريدة أخرى سماها "الخازوق"، وواصل هجومه فيها على الأسرة المالكة، لدرجة أن السلطان اتصل بالقنصلية الفرنسية -التي كانت تتدخل في شئون مصر بزعم حمايتها للأجانب، وبما أن أصل بيرم (أبو الجد) غير مصري؛ يكون بيرم تحت الحماية الفرنسية- لترحله فورًا إلى بلده تونس.
وفعلاً يتم طرد بيرم في 25 أغسطس 1920 ولا يُسمح له حتى بوداع أهله، وكان عمره وقتها سبعة وعشرين عامًا!.
سواح في تونس وفرنسا
عند وصول بيرم إلى تونس أول ما بحث عنه هو السبب الذي من أجله تم طرده من مصر، ثم البحث عن أصوله التونسية، وبالفعل استطاع الوصول إليهم، وفوجئ بهم يذكرون أول ما يذكرون أصله، وأنه "ولد الجارية" التي أهداها السلطان التركي لجدهم، فيتركهم بيرم وهو يشعر بأنه منفي إلى بلد غريب عنه.
ولا يسمح له حاكم تونس بمزاولة أي عمل صحفي؛ فيقرر السفر إلى باريس ومنها إلى ليون، وكان عمله هناك مجرد وسيلة يضمن بها بقاءه على قيد الحياة، فعمل بيرم في مصانع الصلب والغازات الخانقة، وكان لهذا العمل الشاق –بجانب مشقة الغربة- أثر كبير في صقل موهبته، فمع انشغال بيرم الدائم بانتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية في بلده (مصر) –على الرغم من بعده عنها- واصل بيرم عمله الزجلي بشكل آخر، حيث عقد مقارنات بشكل أدبي أيضًا بين مصر وباريس.
وبعد فترة يمرض بيرم بسبب عمله فيفقده؛ وهو ما يجعله يشعر أكثر بمرارة الغربة، وفيما بعد يروي عن تلك الفترة فيقول: "كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين: كنت في البداية أتصور الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمّس، هذه منجاية مستوية، ثم انتقل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة، فهي أفضل من هذا العذاب الأليم.. وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفّة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني وتحدثني نفسي أن آكل قطنه أو أبحث بين محتوياته عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت".
وفي تلك الأثناء يستطيع بيرم خداع السلطان والعودة إلى مصر ليفاجأ أن زوجته قد حصلت على الطلاق في غيابه، وأنجبت له طفلة أخرى، وبالفعل يواصل بيرم إنتاجه وينشره بدون توقيع هذه المرة، إلا أن أحد أصدقائه تكلم عن لقائه بيرم أمام أحد رجال السلطة، وهو يعتقد أنه قد تمّ له السماح بدخول البلاد!
وتم ترحيله ثانية إلى ميناء مرسيليا بفرنسا، فيعمل في مصنع للكيماويات ثم مصنع حرير، كل هذا وهو لا يزال مهتما ومتابعا للأحداث التي تقع في وطنه.. يقول بيرم عندما يعلم أن بعض رجال الصوفية يحرّضون الناس على الانفضاض عن "عمر لطفي" ودعوته التعاونية بزعم أنه من أنصار الحركة البلشفية -يقول بيرم تحته عنوان "عالم ومسلم وبتعارض في فعل الخير؟".
لا في الجوامع رأيت مثلك ولا في الدير | عالم ومسلم وبتعارض في فعل الخير |
مدام فضيلتك بتاكل "كستيلته وطير" | يبقى الدّريس والدرة والفجل للخرفان |
لا.. والتلامة يستشهد لنا بالدين | إنّه أمر يبقى نُص المسلمين جعانين |
إن كنت فاهم شريعة العدل عن لينين | انظر شريعة نبينا نازلة في القرآن |
...
ويأخذ بيرم في مراسلة الفرق المسرحية ليجد ما يسد به جوعه فيكتب بيرم ويقول:
يا باريز يام بلاد برّه | يا مرّبيه لامارتين |
بعتتْ لك أم الدنيا | شاعر في الشعر متين |
يعمل أشعار لصعايده | وبنات وفلاحين |
وتلامذه وأزهريه | وخوجات ومفتشين |
إياك ما يموتش عندك | في بيوت المساكين |
...
وتظل توجه الدنيا ضرباتها لبيرم، حتى يتنكر له الكثير من أصحاب الجرائد التي يراسلها فيعبر عن آلامه ويقول:
الأوّله مصر، قالوا تونس ونفوني
والتانيه تونس، وفيها الأهل جحدوني
والتالته باريس، وفيها الكل نكروني
الأوله مصر، قالت تونس ونفوني.. جزات الخير
والتانيه تونس، وفيها الأهل جحدوني.. وحتى الغير
والتالته باريس، وفيها الكل نكروني.. وأنا موليير
...
ومن أبرز ما أنتجه بيرم، نقد ومقارنة اجتماعية بين باريس ومصر وسماها "السيد ومراته في باريس"، وكان بيرم يرسل أجزاء هذا العمل إلى صديقه "عبد العزيز الصدر" الذي جمعه وأصدره في جزأين على نفقته الخاصة ولحسابه! وتم استخدام هذا العمل في دراسة اللهجة العامية المصرية في قسم اللغات الشرقية في جامعة برلين؛ إذ يتناول قصة سفر رجل وزوجته إلى باريس وتأثرهما الإيجابي بالعادات الغربية مع تمسكهما بهويتهما العربية.
قتال حتى النهاية
تمت خطبة ابنته (نعيمة)، فيراسل بيرم خطيبها، ويرسل إليه بأزجاله حتى يقوم بتوزيعها له، ويتم أيضًا زواج ابنته وهو لا يزال ينتقل من بلد إلى أخرى فيضطر لأن يراسل -عن طريق زوج ابنته- بعض الصالات الفنية، وبعد عدة محاولات يستطيع بيرم ثانية بمساعدة أحدهم العودة إلى مصر عن طريق ميناء بور سعيد، وتساعده على ذلك ملامحه الغربية بعض الشيء، ويستطيع بيرم أن يصل إلى بيت ابنته، التي تركها وعندها سبع سنوات ويعود وعمرها عشرون عامًا!!
وينتقل بيرم بين بيوت أصدقائه محاولاً الاختباء لديهم، حتى يرسله أحدهم إلى عيادة صديق له ليختبئ فيها، فيدرك الطبيب خطورة ذلك؛ إذ إن العيادة يتردد عليها الكثير من الناس فيفكر في صديق له من أشد المعجبين ببيرم وهو في الوقت نفسه أعزب، لذا فإن مسكنه هو أنسب مكان لإخفاء بيرم، فيتركه صديقه الطبيب في بلكونة عيادته وينزل ويعود معه صديقه العازب "كليم أبو سيف"، الذي يوافق على خطة صديقه الطبيب، وبمجرد أن فتح الرجلان الباب على بيرم، حتى ينهار بيرم تمامًا ويأخذ يصرخ ويبكي وهو يقول لصديقه الطبيب: "ليه يا طه.. دا أنا عندي أولاد.. ليه الله لا يبليك باللي شفته" إذ إن بيرم اعتقد أن صديقه أبلغ عنه السلطات، فشرح له الطبيب فورًا فكرته، وبالفعل يذهب بيرم للاختفاء عند "كليم".
وكان "كليم" على علاقة قوية بوزير الداخلية حينذاك "محمود فهمي النقراشي" فيحكي له عن بيرم، راجيًا منه مساعدته في أخذ العفو من الملك، ويبعث بيرم بزجل إلى جريدة "الأهرام" يشكو فيه آلام المنفى ويطلب عفو الملك، وبالفعل يتم نشر الزجل في الصفحة الأولى ويصدر أمرًا وزاريًا بتجاهل وجوده في مصر!
ويصدر وبعده يصدر عفوًا ملكيًا عن بيرم، فيعمل بيرم كمدير للدعاية بشركة في الإسكندرية، إلا أنه يتركها ليتفرغ للعمل الصحفي فيصدر صحيفة فكاهية ثم يتركها بعد فترة. ثم يعمل كاتباً في أخبار اليوم وبعدها عمل في جريدة المصري ثم ينجح بيرم في الحصول على الجنسية المصرية فيذهب للعمل في جريدة الجمهورية ، وقد قدّم بيرم أعمالاً أدبية مشهورة ، وقد كان أغلبها أعمالاً إذاعية منها ( سيرة الظاهر بيبرس ) و ( عزيزة ويونس ).
ليتوجه للعمل في السينما والإذاعة والمسرح، ويواصل نقده الاجتماعي، ويذكر أيضًا المزايا مثل العيوب تمامًا، فيقول في الحالة الفنية في ذلك الوقت:
كل جدع فرحان بشبابه يقول: في عنيه دموع
باللي جلبتي شقاه وعذابه، حلّي لنا الموضوع
طالع نازل، يلقى عوازل واقفه بتستنّاه
يا أهل المغنى دماغنا وجعنا، دقيقة سكوت لله
حافضين عشرة اتناشر كلمة، نقل من الجورنال
شوق، وحنين، وأمل، وأماني، وصد وتيه ودلال
واللي تعاد ينزاد يا خوانا، وليل ونهار هُوّاه
يا أهل المغنى دماغنا وجعنا، دقيقة سكوت لله
...
وفي تلك الأثناء يعيد بيرم زوجته الثانية إلى عصمته وينجب منها ولدين، ثم يجمع بيرم بعض أزجاله التي كتبها في المنفى في ديوان من جزأين، ومع قيام ثورة يوليو يساندها بيرم بأزجاله الوطنية ويقول:
أرض العرب وحدها فيها الدمار جاريه
من بعد مصر الجريحة تنضرب سوريا
متحسبوناش يا عالم حتّه من كوريا
واحنا اللي بنحب عيسى وستنا ماريه
...
وأبلغ ما كتب أيضًا من أزجاله، أثناء العدوان، ما قاله تحت عنوان "سنّي سكاكينك":
وقالوا يا إسرائيل إحنا اللي باعتينك
واحنا اللي بالمال وبالصواريخ بنعينك
فـ المسلمين ادبحي واحد ورا التاني
وكل ما يصرخوا، سنّي سكاكينك
...
غنّت له أم كلثوم عدة قصائد مما ساعد على انتشاره في جميع الأقطار العربية. أما علاقته بالفن وبالأخص السيدة أم كلثوم، فتعكس جانبًا خافيًا من حياة بيرم على كثير منا!!
وليس أبين لهذه العلاقة أكثر من معرفتها لكره بيرم للمرأة البيتوية، فهو كان مؤمنًا بدفع المرأة إلى دائرة العلم والعمل، فمن الطبيعي إذن معرفتنا باهتمامه وتقديره للمرأة العاملة وبالأخص أم كلثوم، التي استطاعت إثبات نفسها، ليس فقط على المستوى العربي ولكن أيضًا على المستوى العالمي!
واستطاع بيرم كتابة قصائد من أروع ما غنت أم كلثوم منها "أنا وانت"، "الآهات"، "هوه صحيح الهوى غلاب"، "كل الأحبة" ويقول مطلعها:
كل الأحبه اتنين اتنين | وانت يا قلبي حبيبك فين |
يطلع عليَّ البدر جميل | يا بدر مالي أنا ومالك |
ما ليش يا بدر نديم وخليل | أوريه ويوريني جمالك |
نورك يا بدر يزيد | وتبقى ليلة عيد |
ليله ما يطلع على أليفين اتنين | اتنين وانت يا قلبي حبيبك فين |
...
وفي أغنية "الأولة في الغرام" قال:
الأوّله في الغرام والحب شبكوني
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني
والتالته من غير ميعاد راحوا وفاتوني
الأوله في الغرام والحب شبكوني، بنظرة عين
والتانيه بالامتثال والصبر أمروني، وأجيبه منين؟
والتالته من غير ميعاد، راحوا وفاتوني، قولولي فين؟
...
ويكتب لها بيرم أيضًا الأغنية الدينية "القلب يعشق كل جميل"، وهي من القصائد الصوفية (العشق الإلهي) وأيضًا القصائد الوطنية مثل "صوت السلام".
التكريم والوفاة
وفي سنة 1960 م يمنحه الرئيس جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية لمجهوداته في عالم الأدب . وظل إلى آخر لحظة في حياته من حملة الأقلام الحرة الجريئة ، وأصحاب الكلمات الحرة المضيئة حتى تمكن منه مرض الربو وثقل السنين.
أما آخر أغنية كتبها بيرم لأم كلثوم، فهي رائعته "هوه صحيح الهوى غلاب" حيث أذاعت أم كلثوم خبر وفاته على الهواء مباشرة في 1961 عن عمر يناهز 68 عاما، بعد أن نال منه الربو، وكأنه كان ينعي نفسه حين كتب:
قال: إيه مراد ابن آدم؟
قلت له: طقه
قال: إيه يكفي منامه؟
قلت له: شقه
قال: إيه يعجّل بموته؟
قلت له: زقه
قال: حـد فيها مخلّد؟
قلت له: لأه
فيتوفى في 5 يناير 1961 م بعد أن عاش 69 عاماً .
المصادر |
- ^ محمد محمود بيرم التونسي (1985). أشعار بيرم التونسي. مكتبة مدبولي.
- ^ الفايتون عربة صغيرة ذات جواد واحد كان يركبها الأعيان قبل شيوع السيارات.
- ^ قصر القبة كان قصر الملك فؤاد
- ^ كانت شوارب فؤاد مقوسة إلى أعلى مثل شوارب عنتر
- ^ جوليا قطاوي كانت وصيفة الملكة نازلي. وكان زوجها يهودياً تقلب في عدة مناصب هامة في الدولة.
- ^ كان فؤاد فقيراً قبل أن يتولى العرش وقد شبهه بشحاذ يشحذ زيتوناً من البقال