أخناتون
(القرن الرابع عشر ق.م)
أخناتون Akhnaton هو ملك مصر الفرعون أَمنحوتب الرابع «آمون يرضى», ويُدعى في المصادر الكلاسيكية أَمنوفيس. والده أمنحوتب الثالث (1417 -1379 ق.م), ووالدته تيي التي تحدَّرت من بيئة شعبية, على خلاف ما عُرف عن زوجات الفراعنة اللواتي تحدّرن من سلالات مميزة. أما مرضعته فهي تي, وزوجها قائد المركبات أيي, وخالته شقيقة الملكة الأم هي «موت نجمة» Moutnejmet.
وتتحدث المصادر عن زواجه من الأميرة نفرتيتي (الجميلة أتت) التي وصفتها المصادر بالجمال الرائع, وبأنها أميرة ميتانية من دون أن يقوم على ذلك دليل, فلا يُعرف شيء عن أصلها, ويحوم كثير من الغموض حول الروابط الأسرية للعائلة المالكة وحول أفراد الحاشية التي كانت تعيش في كنفها. ولكن من الحقائق المعروفة أن الزوجين الملكيين رُزقا بست بنات, منهن مريت آتون زوجة سمنخ كارع وأخنسن باآتون زوجة توت عنخ آتون (توت عنخ آمون).
وقد تلقى الملك الشاب اسمه الملكي الذي حمله بعد تتويجه «نفرخبرورع» ولكنه بعد ست سنوات من اعتلائه العرش دعا نفسه «أَخناتون» وهو الاسم الذي اشتهر به.
حكم أخناتون ما يقرب من عقدين (1379-1362ق.م), ولكن بداية حكمه اختلطت بنهاية حكم أبيه الذي بلغت مصر في عهده ذروة مجدها في تاريخها القديم, وامتد نفوذها من الجزيرةالفراتية والأناضول وكريت وحوض بحر إِيجه إِلى النوبة.
التعاليم الدينية
في ظل هذه الظروف بدأ أمنحوتب الرابع وهو ولي للعهد, وفي حياة أبيه, ممارسة العبادة والشعائر الدينية المتوارثة عن آبائه, ولاسيما ما تعلّق بآمون - رع الإِله الرسمي للدولة. وأخذ في الوقت نفسه يعلن عن أفكار دينية جديدة تطورت حتى تحولت إِلى الهرطقة (البِدْعه) لخروجها على التعاليم التقليدية السائدة. ولكن توجهاته الدينية المجددة ازدادت وضوحاً بعد أن خلف أباه على العرش. وفي السنة السادسة من حكمه (1374ق.م) أعلن الملك مبادىء ديانة جديدة تدعو إِلى عبادة إِله واحد هو «آتون», وقد مثّله بقرص الشمس المجنّح. ومن دون أن يقطع الملك صلاته بالتقاليد الموروثة عمل على إِبراز بعض المظاهر التي رآها أكثر واقعية في التعبير عن الإِله الذي أراده أن يكون أكثر قرباً من الناس جميعاً, وعالمياً, موجوداً في كل مكان, في ذلك العصر الذي فتحت فيه مصر أبوابها للالتقاء بمن حولها من جيرانها, وكان عليها من جرّاء ذلك أن تعيد النظر في أسس حياتها الداخلية والروحية.
لا تتضمن شعائر العبادة في ديانة أخناتون الجديدة أية إِجراءات سرية, ولم تفرض على الناس شعائر معينة, ولكن لا يعرف كيف تم التحول عن العبادات القديمة إِلى العبادة الجديدة. وتدل الشواهد الأثرية على أن أخناتون أقام عدداً من المنشآت العمرانية, أبرزها معبد الكرنك الشهير( قرب مدينة الأقصر اليوم), ومدينة أخيت آتون, عاصمته الجديدة, التي يقوم تل العمارنة في صعيد مصر فوق أنقاضها القديمة.
أخناتون مع نفرتيتي وأولادهما (مسلة كلسية من تل العمارنة) |
ففي الموقع المعروف اليوم باسم الكرنك يقوم مجمَّع أثري يضم عدداً من المعابد التي كان أهمها بيت آمون المعبود المفضّل لدى الطبقة الحاكمة من الأسرة الثامنة عشرة, وتحيط به بيوت كبار الكهنة. في هذا المكان, وإِلى الشرق من هرم آمون أقام أخناتون معبداً لآتون, للشمس المشرقة. وكان الهدف من ذلك واضحاً وهو تأسيس ديانة جديدة لتحل محل العبادة القديمة. وتوجه في تراتيل شعرية مؤثرة إِلى ربّه آتون, الذي رمز إِليه بقرص الشمس, وأعلن أن لا حياة لشيء من دونه.
وفي دعوته المجدَّدة يعلن الملك الكاهن أن بركات آتون ليست وقفاً على مصر وأهلها, وإِنما هي للمخلوقات الموجودة في كل مكان من البشر والحيوان, فيمنح آتون عند شروقه القوة للكائنات ويحييها حتى تستمر نعمة الحياة وعند غروبه تفتر الحياة في كل شيء. وعندما يفقد العالم نسمة الحياة, يدخل هذا العالم في خمود, في الوقت الذي تشحن فيه الشمس بطاقة جديدة حيث كانت تختفي عن الأنظار. وقد وجد عدد من الباحثين تشابهاً بين مضمون هذه الترانيم الأخناتونية وسفر المزامير الذي يعزى إِلى داود( القرن العاشر ق.م) ولاسيما المزمور 104.
وفي الديانة الأخناتونية أُدخلت تعديلات على النظريات المتعلقة بالموت والشعائر الجنائزية, وتقاليد الدفن, وقُدّمت تفسيرات نشورية جديدة للتقاليد الأوزيرية القديمة المتعلقة بالعالم الآخر. أما آمون وهو القوة الخفية كما يدل على ذلك اسمه, فلم يعد يمثل عند الملك شيئاً سوى ما هو عجيب. فالملك الذي اختار للإِله اسماً قديماً معروفاً في نصوص الأهرام, من الألف الثالث ق.م هو آتون أي كوكب عين الشمس مصدر كل شيء, صار يدعى عند رعيته أخناتون أي «عبد آتون». وآتون هذا الذي كان في عصر الدولة الوسطى يتلقى الصورة الهوائية لملك عند رحيله إِلى عالم الأموات فإِن هذه الصورة تعود عند تحولها إِلى لحم مقدّس, إِلى الجسد الذي خرجت منه.
واستخدم أخناتون الفنون التشكيلية لنشر تعاليمه, فعمل بنفسه على تعليم الفنانين وتوجيههم في عصره لأنه كان يرى من الضروري ترجمة أفكاره الدينية الجديدة في أشكال واقعية. ففي المعبد الذي أقامه شرقي الكرنك لآتون عولجت صورة الملك وصور أسرته بواقعية مدهشة. وأبرزت في صورة أخناتون تشويهات مقصودة للجسم, ورسمت على الوجه علاماتٌ دالةٌ على الاستبطان عند الفنان الذي كان يهتم بأن يعكس في عمله تجربة ذاتية عميقة في معاينة ما يجري في الفكر في تلك المرحلة من تاريخ مصر, والتعبير عنه بجهد يهدف إِلى التعبير عن العواطف الداخلية للكائن لتصوير الشكل الحقيقي للجسم. فأخناتون يوصي بأن كل شيء يجب أن يضحّى به من أجل الحقيقة التي هي مصدر التوازن والعدالة والحياة وهي عناصر صورة القداسة كما تعكسها مرآة الإِيمان.
العاصمة الجديدة
مرّت السنوات الأولى من حكم أمنحوتب الرابع, أخناتون, بوصفه مشاركاً للسلطة مع أبيه في العاصمة طيبة. ولكنه كان مصمماً على تحقيق إِصلاح ديني جذري, فترك العاصمة طيبة برضى أبيه الملك, وأسس على مسافة تقرب من ثلاثمئة وخمسة وسبعين كيلو متراً إِلى الشمال من طيبة, بعيداً عن أرض آمون, مدينة جديدة سرعان ما أضحت عاصمة زاهرة هي أخيت آتون (تل العمارنة).
ونقل أخناتون بعدئذ مقره إِلى هذه المدينة الجديدة ليعيش فيها مع زوجه وجواريه وأفراد حاشيته من كبار الموظفين وبناته الست اللواتي أنجبتهن نفرتيتي. ويبدو أن العائلة المالكة عاشت حياة سعيدة في أخيت آتون حتى انقسام الأسرة في أواخر سنوات حكمه.
ولم يقتصر التغيير في أسلوب حياة الفرعون على علاقته بأسرته ورعيته, بل ثمة تغيير في أسلوب الملك المصري تبرزه دراسة الرسائل الدبلوماسية في أرشيف تل العمارنة وهي تكشف عن أسلوب التخاطب والتراسل بين ملوك وأمراء كنعان وأمورو (فلسطين وسورية) من جهة والفرعون المصري من جهة أخرى.
وتدل دراسة عصر العمارنة برمته على تدهور النفوذ الفرعوني في المناطق التابعة بعد التراخي في فرض هيبة الملك التي تراجعت كثيراً عما كانت في عصر تحوتمس الثالث. فمبالغ الجزية المفروضة على البلاد لم تعد تصل إِلى خزانة فرعون. ولم يتحرك القصر الفرعوني كما يقتضي الأمر لمواجهة الوضع الدولي الناجم عن تراجع مصر أمام تقدم النفوذ الحثي. ويبدو أن مؤامرة كبيرة أطرافها من الداخل: كهنة آمون في طيبة وقائد الجيش حورمحب من جهة, وأمراء كنعان وأمورو من جهة أخرى, قد تم تدبيرها للإطاحة بحكم العاهل الذي كان منصرفاً إِلى الإِصلاح الديني, من دون أن يكون محيطاً بما كان يجري حوله.
ومرّ زمن كان فيه الملك قابضاً بيد قوية على زمام الأمور في طيبة وفي القصر. وكان باستطاعته أن يأمر بتشييد معابد ضخمة لآتون في طيبة بجوار معابد آمون. ولكن بعد السنة الثانية عشرة من حكمه أخذ الضعف يدبُّ في بنية السلطة. ووقع الانشقاق في الأسرة الملكية نفسها. فتركت الملكة نفرتيتي القصر الملكي في وسط مدينة أخيت آتون مع المربية تي وزوجها الكاهن إِيي وأربع من بناتها والأمير الصغير توت غنخ آتون واتخذت لنفسها مقراً في شمالي المدينة, في حين استقر الملك في قصر آخر في جنوبي العاصمة. ووثق صلته بأخيه الأصغر «سمنخ كارع» ليجعله صهره وزوجاً لابنته وشريكاً له في إِدارة الُملك, وبذلك دخل عصر العمارنة مرحلة جديدة. في هذه المرحلة تفاقمت حالة الملك النفسية, وازدادت تصرفاته اضطراباً, فغدت شبه عشوائية ووسّع جبهة المناهضين لحركته الدينية عندما أمر بتحطيم تماثيل آمون وبمحو اسمه من النقوش, وألغى ألقابه وكل ما كان يطلق عليه من صفات تعبر عن الاعتقاد بحماية عرشه الملكي. واتسع نطاق هذا التغيير في الحياة الدينية في مصر القديمة حتى شمل صورة الصقر التي يرمز بها إِلى الربّة نخبت, وشُوَّه اسم مدينة آمون (طيبة) المكتوب بالهيروغليفية, وأصدر الملك أوامره بإِزالة تلك الصور الممقوتة حتى حدود النوبة, وإِحلال عبادة آتون محلها في كل أنحاء البلاد.
وقد اصطدمت هذه السياسة الدينية التي قادها الملك بمعارضة قوية تزعمها كهنة المعابد الذين كانوا أكثر المتضررين من توحيد العبادة, وكذلك النبلاء الذين هدَّدت الإِصلاحات امتيازاتهم, والضباط والقادة العسكريون الذين تقلص نفوذهم في الدولة لقلة اهتمام الملك بالجيش ولعزوفه عن متابعة سياسة أسلافه التوسعية, فأصاب الوهن القدرات العسكرية للدولة وتدهورت هيبتها المعهودة داخلياً وخارجياً, وتوغلت دول الأناضول القوية في سورية. وقد أشارت وثائق العمارنة ولاسيما الرسائل الدبلوماسية منها إِلى حقيقة الوضع في فلسطين وسورية في مواجهة التوسع الحثي. وكان لانصراف أخناتون عن قيادة جيوشه أو تحريكها بطريقة فعالة من أجل المحافظة على مواقع مصر في آسيا الغربية, والاكتفاء بالعمل على نشر عقيدته الجديدة عواقب وخيمة كلّفت البلاد ثمناً باهظاً, إِضافة إِلى انهيار العلاقات التجارية لانعدام الأمن والاستقرار, وانتهت أيام الملك في خضم أزمة مأساوية, وآلت الأمور بادىء الأمر إِلى وريثه سمنخ كارع الذي عمل على إِعادة الاتصال بمنفيس وطيبة, وأعاد مصر إِلى التعددية الدينية. ودفن أخناتون في عاصمته أخيت آتون. وقد تعرّف علماء الآثار على قبره, ولكنهم لم يعثروا إِلاّ على حطام ناووسه الملكي الذي رمم ونقل إِلى متحف القاهرة. أما مومياؤه التي لم يعثر عليها فلا يعرف أحد ماذا حلّ بها. وقد يكون أصابها ما أصاب أخيت آتون (تل العمارنة) من التدمير على يدي القائد حورمحب الذي كان في مقدمة من عمل على إِنهاء عصر العمارنة وعلى الإِطاحة بحكم أخناتون. وقد عثر في وادي الملوك على مومياء يظن أنها مومياؤه ولكن لا توجد دلائل قاطعة على ذلك. وبعد سمنخ كارع الذي حكم مدة قصيرة اعتلى العرش توت عنخ آتون الذي اضطر إِلى تبديل اسمه إِلى توت عنخ آمون مؤذناً بإِعادة الاحترام لآمون ولكهنة طيبة الأقوياء. وهكذا انهارت هذه المحاولة المبكرة لقلب الوجدان الديني التقليدي في مصر القديمة ولإِحلال وحدانية الإِله محل التعددية.