الحجاج بن يوسف الثقفي
(41-95هـ/661-713م)
أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن عقيل بن مسعود الثقفي، من أبرز ولاة بني أمية ومن الخطباء المفوهين والساسة الدهاة، ترك أثره في كل ناحية من نواحي الإدارة والحكم والتنظيم المالي والاجتماعي في عصره.
ولد الحجاج بالطائف، ونشأ في أسرة مثقفة، فقد كان هو وأبوه معلمين بالطائف، وكذلك كانت أخته زينب تجمع إلى معرفة القراءة الاهتمام بالأمور العامة.
في سنة 64هـ انضم يوسف بن الحكم وابنه الحجاج إلى جيش حُبَيش بن دُلْجة القيني الذي أرسله مروان بن الحكم سنة 64هـ لقتال عبد الله ابن الزبير، ولكن جيش حُبيش هُزم، وانهزم فيه الحجاج وأبوه،وما نجوا يومئذ إلا على جمل واحد، ولحق الحجاج بعد ذلك بروح بن زنباع الجذامي فكان في عداد شرطته؛ ثم ما زال يظهر حتى قلده عبد الملك أمر عسكره وأمره بقتال عبد الله بن الزبير في مكة، وبعد حصار دام أشهراً، قُتل ابن الزبير في جمادى الآخرة سنة 73هـ/692م. فقلد عبد الملك الحجاج الحجاز واليمن واليمامة فوطد الأمن والاستقرار في الحجاز، وهدم سنة 74هـ بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير قد بناه، وأعاد بناء الكعبة على بنائها الأول وكساها الديباج.
بقي الحجاج والياً على الحجاز حتى سنة 75هـ/694م حين أتاه كتاب عبد الملك بتوليه العراق بعد وفاة واليها بشر بن مروان، وكانت الفتن المتلاحقة (حركة التوابين، حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي، حركات الخوارج) قد مزقت أوصال العراق، فلم يجد عبد الملك من هو أقدر على إحلال الأمن والنظام من الحجاج.
خرج الحجاج من المدينة في اثني عشر راكباً على النجائب ووصل الكوفة في رابعة النهار،فتوجه إلى المسجد، وصعد المنبر وهو ملثم بعمامة خز حمراء، وجلس على المنبر صامتاً، فأطال الصمت مما شق على الناس، فتناول أحدهم حصى وأراد أن يحصبه وقال: قاتله الله ما أعياه، ويبدو أن الحجاج كان ينتظر حدوث ما حدث، فهب واقفاً وحسر عن وجهه وانطلق بخطبته المشهورة التي مطلعها:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
وقد ختم خطبته التي يتهدد فيها ويعد، بدعوة الناس إلى الالتحاق فوراً بجيش المهلب بن أبي صفرة[ر] لمحاربة الخوارجالأزارقة[ر] واتبع أمره هذا بقوله مهدداً: «من وجدته بعد ثلاثة من بعث المهلب سفكت دمه وأنهبت ماله». وقد أراد بهذا أولاً أن يعيد الذين فروا من معسكر المهلب في رامهرمز حين سمعوا بوفاة الوالي بشر بن مروان، وأراد ثانياً إحلال النظام في مجتمع بَعُدَ العهد بينه وبين الطاعة والنظام، واستطاع المهلب بدعم الحجاج له أن ينصرف إلى قتال الأزارقة، ويلحق بهم الهزيمة تلو الهزيمة، واستمر في حربهم أكثر من سنتين، نجح في النهاية أن يقضي عليهم ويفرق جمعهم، فأكرمه الحجاج وأكرم أولاده وولاه خراسان.
قبل أن يتم القضاء على الأزارقة في الشرق قامت ثورة أخرى سنة 76هـ/695م أجج نارها فريق من الخوارج الصفرية على رأسهم صالح بن مسرح، وبعد مقتله تولى القيادة شبيب بن يزيد الشيباني من بني شيبان من قبيلة بكر، الذين كانوا يقطنون في أطراف الموصل ونصيبين وسنجار، وقد قاتل شبيب الجيوش التي أرسلها الحجاج في مواقع عدة وهزمها، فطلب الحجاج المدد من عبد الملك، فأمده الخليفة بجند من أهل الشام، تمكن بمعونتهم من القضاء عليهم، ومات شبيب غرقاً في نهر دُجيل إثر مطاردة الجيش الأموي له، وكان مصرعه سنة 77 أو 78هـ.
ما كاد الحجاج يخلد إلى الراحة بعد القضاء على حركات الخوارج من الأزارقة والصفرية، حتى جوبه بثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي[ر] (81-83هـ) التي كانت من أقسى الأزمات التي واجهتها الدولة الأموية وتعرض فيها مركز الحجاج إلى امتحان عسير خرج منه منتصراً بعد أن هزم عبد الرحمن بمساعدة مقاتلة الشام في معركتي دير الجماجم ومسكن سنة 83هـ/702م.
أصبح الحجاج سيد المشرق الإسلامي ما عدا خراسان حيث أظهر يزيد بن المهلب والي خراسان بعد وفاة والده المهلب بن أبي صفرة، تراخياً في ملاحقة أتباع عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، كما أنه تجاهل أوامر الحجاج المتكررة بالقدوم إلى واسط، وأخيراً عزل الحجاج يزيد بن الملهب بموافقة عبد الملك وسجنه سنة 85هـ.
يتميز عهد الحجاج بالمنجزات الضخمة التي تمت على يده، ففي سنة 83هـ أو 84هـ بدأ ببناء مدينة واسط ليكون قريباً من حاضرتيه الكوفة والبصرة، وكان غرض الحجاج من بناء مدينة واسط إدارياً بحتاً، وليس كما ذهب إليه بعضهم من أن كره الحجاج للعراقيين ورغبته في عزل جنود الشام كي لا تفسدهم معاشرتهم كانت سبب بنائه المدينة. وليس أدل على ذلك من أنه لما فرغ من بنائها، نقل إليها، كما يذكر بَحْشَل، أسلم بن سهل الرزّازي الواسطي (ت292هـ) مؤلف «تاريخ واسط»، بعضاً من وجوه أهل الكوفة وأمرهم أن يُصلّوا عن يمين المقصورة، ونقل بعضاً من وجوه أهل البصرة، وأمرهم أن يُصلّوا عن يسار المقصورة، وأمر من كان معه من أهل الشام أن يصلّوا حياله مما يلي المقصورة.
وحينما عمد عبد الملك إلى تعريب النقد وتحديد عياره ، بعث بالسكة إلى الحجاج فسيرها إلى الآفاق لتضرب الدراهم بها، وأمر أن تسحب النقود الأخرى التي كان يجري التعامل بها تدريجياً.
واتخذ الحجاج إجراءات مشددة لمراقبة ضرب العملة وضبط عيارها والحؤول دون ضرب عيار آخر لها، واتخذ دوراً للضرب في الكوفة والبصرة وواسط وجمع فيها الطباعين، ولم يتردد في إنزال أقسى العقوبات بكل من يحاول غش العملة أو إنقاص وزنها، وكاد يقتل سميراً اليهودي لأنه ضرب دراهم على غير سكة السلطان، ثم عفا عنه حينما تعهد أن يضع له أوزاناً دقيقة للعملة، وكان الناس قبل ذلك يأخذون الدرهم الوازن ويزنون به غيره.
ويعود للحجاج الفضل في تعريب دواوين الخراج الذي تم ما بين 82-83هـ، لأن البلاذري يذكر أن زادان فرّوخ الذي كان يتولى ديوان العراق قُتل في أثناء ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وهو خارج من منزل كان فيه، فاستكتب الحجاج صالح بن عبد الرحمن الذي كان يتقن الفارسية والعربية فعرّب الدواوين.
وفي مجال الإصلاح اللغوي، تمت في عهد الحجاج بن يوسف جهود لضبط الكتابة العربية والقواعد، والمحافظة على قراءة العربية وعلى كتاب الله من اللحن والتحريف والتصحيف، وكان اللحن قد بدأ يشيع بين العرب المسلمين بسبب اختلاطهم بالشعوب الأخرى، كما شاع بين الموالي الذين ينتمون إلى أصول غير عربية، مما أوجد في المجتمع حاجة ملحة إلى وضع قواعد ثابتة لضبط قراءة القرآن خاصة والعربية عامة، يفيد منها جمهور العرب والمسلمين وتساعدهم على تقويم ألسنتهم، يذكر ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان»، أنه حينما كثر التصحيف وانتشر بالعراق سأل الحجاج كُتّابه أن يضعوا للحروف المشتبهة علامات فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفراداً وأزواجاً وخالف بين أماكنها، ولكن التصحيف وقع كذلك مع استعمال النقط فأحدثوا الإعجام بوضع النقط والحركات.
وقد عُرف عن الحجاج كثرة قراءته للقرآن والتأمل في معانيه والاستشهاد بآياته، كما كان يقدِّر أهله ويكرم حفظته، يذكرالجاحظ أن الحجاج كان يُدني حفظة القرآن مما جعل بعض الناس ينكبون على حفظه حتى إن بعضهم حفظه في سنة، وكان يحث قادته على ضرورة تمسك جندهم بالقرآن الكريم كما فعل حين كتب إلى قتيبة بن مسلم الباهلي «خذ عسكرك بتلاوة القرآن فإنه أمنع حصونك».
والحجاج أيضاً صاحب الفضل في المبادرة للقيام بالكثير من الفتوحات التي تحققت في زمن الخليفة الوليد ابن عبد الملك (86-96هـ/705-714م) فهو الذي بعث قتيبة بن مسلم الباهلي[ر] عامله على خراسان لفتح منطقة ما وراء النهر فأتم قتيبة ما ندب من أجله، وفتح بيكند وبخارى وسمرقند، ووصل إلى حدود الصين، وهو الذي سير محمد بن القاسم الثقفي[ر] لفتح حوض نهر السند والهند.
ولم يكن من عادة الحجاج الخروج في الحملات العسكرية، وإنما كان يشرف على تجهيزها بنفسه، ويزودها بكل ما تحتاجه، فقد قيل عن الجيش الذي سيره برئاسة محمد بن القاسم الثقفي أنه جهزه بكل شيء حتى الخيوط والمسال؛ كما أنه كان على اتصال دائم بقادة جيوشه يمدهم بالنصح والتوجيهات.
وفي العقد الأخير من حكمه للعراق، قام الحجاج بإصلاحات زراعية، فالثورات الداخلية ولاسيما حركات الخوارج أضرت بالأراضي الزراعية وتسببت في كسر الخراج، وتفاقمت في القرن الأول الهجري، هجرة الفلاحين الذين أسلموا إلى المدن الأمر الذي أدى إلى قلة الأيدي العاملة في الزراعة وهذا ما دفع عمال الحجاج إلى أن يكتبوا إليه قائلين: «إن الخراج قد انكسر وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار»، فعمد الحجاج إلى إعادة الفلاحين إلى قراهم الأصلية (فقراهم أولى بهم) كما أنه جلب الأيدي العاملة من الخارج للعمل في إصلاح الأراضي وزراعتها.
واستصلح الحجاج الأراضي عن طريق تجفيف المستنقعات وبعض البطائح وشق الترع والقنوات، وحفر مجاري الأنهار لإيصال الماء إلى الأراضي البور وتحويلها إلى مناطق زراعية، وحفر عدداً من الأنهار كنهر الزابي ونهر الأنبار، وأقام الجسور على الأنهار وفوق الترع حتى يسهل على المزارعين التنقل بين الأراضي الزراعية الواقعة على ضفاف تلك الأنهار.
وربما كان الحجاج أول من أقدم على إقراض المزارعين قروضاً من بيت المال لمساعدتهم على التغلب على الكوارث الطبيعية التي قد تلحق بمحاصيلهم بسبب الفيضانات أو انحباس الأمطار أو تفشي الأوبئة الزراعية، ويذكر ابن رستة أن مجموع هذه القروض بلغ مليوني درهم، وهذا أشبه بالقروض التي يمنحها مصرف التسليف الزراعي في بعض الدول الحديثة.
تمتع الحجاج إضافة إلى حنكته السياسية بملكة أدبية جعلته في مقدمة أدباء ذلك العصر وخطبائه. وقد شهد له علماء عصره بالفصاحة والأدب، فقال فيه العالم اللغوي أبو عمرو بن العلاء: «ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج».
وكان الحجاج يطرب للعبارات الفصيحة وتهزه معانيها خاصة إذا جاءت على غير تكلف ولا تصنع في القول، وكثيراً ما نجَّت الفصاحة وحسن اللفظ والاعتذار الأدبي اللبق أصحابها من موت محقق على يدي الحجاج بسبب جرائم اقترفوها.
وتذكر المصادر أن الحجاج منذ قدم العراق قرَّب الشعراء إليه واصطنع الفحول منهم، ويعد جرير بن عطية الخطفي (28-114هـ/640-732م) من أشهر الشعراء الذين قرّبهم الحجاج، حتى عُدَّ شاعر الحجاج الأول، وقد مدح جرير الحجاج في كثير من قصائده مشيداً بسياسته وحزمه وطاعته للخليفة وشدته على أعداء الدولة، كما امتدح شجاعته وبأسه وشدته على الذين يتلاعبون بأموال الدولة وأهل الفساد والرشوة وقطاع الطرق، ومن الشعراء الذين امتدحوا الحجاج، الفرزدق همام بن غالب التميمي (ت114هـ/732م) إلا أنه فيما بعد هجا الحجاج تمشياً مع رغبة سليمان بن عبد الملك الذي كان يتحامل على الحجاج ونكل بأسرته.
وأشاد الأخطل غياث بن غوث (ت92هـ/710م) بالحجاج وامتدحه لعبد الملك، ووفدت عليه كذلك ليلى الأخيلية ابنة عبد الله الرحّال الشاعرة المعروفة (ت80هـ/700م) وقد أوردت المصادر الأدبية وخاصة الأغاني أخبار هذه الوفادات ومدحها للحجاج، وإعجابه بشعرها وإكرامه لها.
توفي الحجاج في واسط ، وقد أقر الوليد عمال الحجاج كلهم على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته.
ذهب الناس في الحكم على الحجاج كل مذهب،لم توحد بينهم نظرة ولا جمعتهم قاعدة واحدة في محاولتهم وصف الرجل وتقويم أعماله فاختلفت الموازين والأحكام وتفاوتت بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، فالمؤيدون والمعجبون كانوا يرون فيه الحاكم القوي الأمين الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، والوالي الذي قضى على الفتن وعوامل الاضطراب، وأمَّن الناس على أنفسهم وأموالهم، ومنع الرشوة وابتزاز الأموال والفساد في الحكم، ونظر في مظالم الناس واستأنف الفتح والجهاد، أما معارضوه من شيعة وخوارج وقُرّاء فكانوا يتهمونه بالقسوة والظلم والطغيان وسفك الدماء، بل إن بعضهم اتهمه بالكفر، ويبدو أن كثيراً من الآراء المعادية للحجاج قد انطلقت من عقالها بعد وفاته، ووجدت متنفساً لها في عهد سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيزاللذين كانا يبغضانه، واستمر الأمر على هذه الحال وعلى نطاق أوسع في عصر بني العباس المعادين للأمويين ورجالاتهم.
خطب الحجاح
خطبته حين ولي العراق
حدث عبد الملك بن عمير الليثي قال بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة يومئذ ذو حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتى آت فقال هذا الحجاج قد قدم أميرا على العراق فإذا به قد دخل المسجد معتما بعمامة قد غطي بها أكثر وجهه متقلدا سيفا متنكبا قوسا يؤم المنبر فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم فقال الناس بعضهم لبعض قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي ألا أحصبه لكم فقالوا أمهل حتى ننظر فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفونى
ثم قال يأهل الكوفة أما والله إني لأحمل الشر بحمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله وإني لأري أبصارا طامحة وأعناقا متطاولة ورءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق ثم قال :
هذا أوان الشد فاشتدي زيم قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشدواوجدت الحرب بكم فجدوا
وليس القوس فيها وتر عردمثل ذراع البكر أو أشد
لا بد مما ليس منه بد
إني والله يأهل العراق ومعدن الشقاق والنفاق ومساوي الأخلاق ما يقعقع لي بالشنان ولا يغمز جانبي كتغماز التين ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وجريت إلى الغاية القصوى وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتن واضطجعتم في مراقد الضلال وسننتم سنن الغي أما والله لألحونكم لحو العصا ولأقرعنكم قرع المروءة ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وإني والله لا أعد إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت فإياي وهذه الشفعاء والزرافات والجماعات وقالا وقيلا وما تقول وفيم أنتم وذاك
أما والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا سفكت دمه وأنهبت ماله وهدمت منزله
خطبته وقد سمع تكبيرا في السوق
فلما كان اليوم الثالث خرج من القصر فسمع تكبيرا في السوق فراعه ذلك فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال :
يأهل العراق يأهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق وبني اللكيعة وعبيد العصا وأولاد الإماء والفقع بالقرقر إني سمعت تكبيرا لا يراد الله به وإنما يراد به الشيطان ألا إنها عجاجة تحتها قصف وإنما مثلي ومثلكم ما قال عمرو بن براق الهمذاني :
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذايا لهمدان ظالم
متى تجمع القلب الذكي و صارما و أنفا حميا تجتنبك المظالم
والله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الدابر
خطبته وقد قدم البصرة
وخطب لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم فقال:
أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه ومن استطال أجله فعلي أن أعجله ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا وللسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ومن سبقته بادرة فمه سبق بدنه بسفك دمه
إني أنذر ثم لا أنظر وأحذر ثم لا أعذر وأتوعد ثم لا أعفو إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم ومن استرخى لببه ساء أدبه إن الحزم والعزم سلباني سوطي وأبدلاني به سيفي فقائمه في يدي ونجاده في عنقي وذبابه قلادة لمن عصاني والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه .
خطبته بعد وقعة دير الجماجم
وخطب أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم فقال :
يأهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف ثم أفضي إلى المخاخ والأصماخ ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرخ فحشاكم نفاقا وشقاقا وأشعركم خلافا اتخذتموه دليلا تتبعونه وقائدا تطيعونه ومؤامرا تستشيرونه فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم وقعة أو يحجزكم إسلام أو ينفعكم بيان؟؟؟
ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر وسعيتم بالغدر واستجمعتم للكفر وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا وتنهزمون سراعا ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليكم عنكم إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى اوطانها النوازع إلى أعطانها لا يسأل المرء عن أخيه ولا يلوي الشيخ على بنيه حتى عضكم السلاح وقصمتكم الرماح ثم يوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم بها كانت المعارك والملاحم .
بضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
يأهل العراق والكفرات بعد الفجرات والغدرات بعد الخترات والزوات بعد النزوات إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم وإن أمنتم أرجفتم وإن خفتم نافقتم لا تذكرون حسنة ولا تشكرون نعمة هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو أو استنصركم ظالم أو استعضدكم خالع إلا تبعتموه وآويتموه ونصرتموه وزكيتموه
يأهل العراق هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره ؟؟
يأهل العراق ألم تنهكم المواعظ ؟؟ألم تزجركم الوقائع؟؟ ثم التفت إلى أهل الشأم وهم حول المنبر فقال :
يأهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها المدر ويباعد عنها الحجر ويكنها من المطر ويحميها من الضباب ويحرسها من الذئاب يأهل الشام أنتم الجنة والرداء وأنتم العدة والحذاء
خطبة أخرى له في أهل الكوفة وأهل الشأم
يأهل الكوفة إن الفتنة تلقح بالنجوى وتنتج بالشكوى وتحصد بالسيف أما والله إن أبغضتموني لا تضروني وأن أحببتموني لا تنفعوني وما أنا بالمستوحش لعدواتكم ولا المستريح إلى مودتكم زعمتم أني ساحر وقد قال الله تعالى ولا يفلح الساحر وقد أفلحت وزعمتم أني أعلم الاسم الأكبر فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون ثم التفت إلى أهل الشأم فقال :
لأزواجكم أطيب من المسك ولأبناؤكم آنس بالقلب من الولد وما أنتم إلا كما قال أخو بني ذبيان إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني هم درعي التي استلأمت فيها إلى يوم النسار وهم مجني ثم قال بل أنتم يأهل الشأم كما قال الله سبحانه ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون
خطبة له بالبصرة
فقال قال الله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم فهذه لله وفيها مثوبة وقال واسمعوا وأطيعوا وهذه لعبد الله وخليفة الله وحبيب الله عبد الملك بن مروان أما والله لو أمرت الناس أن يأخذوا في باب واحد فأخذوا في باب غيره لكانت دماؤهم لي حلالا من الله ولو قتل ربيعة ومصر لكان لي حلالا عذيرى من أهل هذه الحميراء يرمي أحدهم بالحجر إلى السماء ويقول يكون إلى أن يقع هذا خير
والله لأجعلنهم كالرسم الدائر وكالأمس الغابر عذيرى من عبد هذيل يقرأ القرآن كأنه رجز الأعراب أما والله لو أدركته لضربت عنقه يعني عبد الله بن مسعود عذيرى من سليمان بن داود يقول لربه رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي كان والله فيما علمت عبدا حسودا بخيلا خطبة أخرى له بالبصرة حمد الله وأثني عليه ثم قال إن الله كفانا مئونة الدنيا وأمرنا بطلب الآخرة فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا مالي أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون وشراركم لا يتوبون مالي أراكم تحرصون على ما كفيتم وتضيعون ما به أمرتم إن العلم يوشك أن يرفع ورفعه ذهاب العلماء ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس الذين لا يقرءون القرآن إلا هجرا ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ألا وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر ألا وإن الآخرة أجل مستأخر يحكم فيها ملك قادر
ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر واعلموا أنكم ملاقوه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار ألا وإن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وأستغفر الله لي ولكم
خطبته لما أصيب بولده محمد وأخيه محمد في يوم واحد
فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج فلما كان بالعشى أتاه بريد من اليمن بوفاة محمد أخيه ففرح أهل العراق وقالوا انقطع ظهر الحجاج وهيض جناحه فخرج فصعد المنبر ثم خطب الناس فقال :
أيها الناس محمدان في يوم واحد أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى والجديد أن يبلي والحي مني ومنكم أن يموت وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها فتأكل من لحومنا وتشرب من دمائنا كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمارها وشربنا من مائها ثم نكون كما قال الله تعالى ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ثم تمثل بهذين البيتين .
عزائي نبي الله من كل ميت وحسبي ثواب الله من كل هالك
إذا ما لقيت الله عني راضيا فإن سرور النفس فيما هنالك
خطبته وقد أرجف أهل العراق بموته
ومرض الحجاج ففرح أهل العراق وأرجفوا بموته فلما بلغه تحامل حتى صعد المنبر فقال :
إن طائفة من أهل العراق أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم فقالوا مات الحجاج ومات الحجاج فمه وهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت والله ما يسرني ألا أموت وأن لي الدنيا وما فيها وما رأيت الله رضي بالتخليد إلا لأهون خلقه عليه إبليس قال أنظرني إلي يوم يبعثون قال إنك من المنظرين ولقد دعا الله العبد الصالح فقال ربي اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فأعطاه ذلك إلا البقاء فما عسى أن يكون أيها الرجل وكلكم ذلك الرجل كأني والله بكل حي منكم ميتا وبكل رطب يابسا ونقل في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولا في ذراع عرضا وأكلت الأرض لحمه ومصت صديده وانصرف الحبيب من ولده يقسم الخبيث من ماله إن الذين يعقلون يعلمون ما أقول
مراجع للا'طلاع: |
ـ البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق محمد رضوان (المكتبة التجارية الكبرى، مصر).
ـ البلاذري، أنساب الأشراف، تحقيق سهيل زكار ورياض زركلي (دار الفكر للطباعة والنشر 1417هـ /1996م).
ـ ابن عبد ربه، العقد الفريد (القاهرة 1372هـ /1953م).
ـ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق أبو الفضل إبراهيم ( 1964).
ـ إحسان صدقي العمد، الحجاج بن يوسف الثقفي (بيروت 1973).