Search - للبحث فى مقالات الموقع

Friday, April 1, 2011

الجاهلية


 


يرجع معنى الجاهلية إلى الأصل اللغوي «جهل» الذي يعني الخفة وخلاف الطمأنينة من جهة، وما هو نقيض العلم من جهة أخرى. ويعبّر العرب عن المفهوم الأول بألفاظ متنوّعة متعدّدة تبقى في إطار حقل دلالي متجانس، كالطيش والنزق والسَّفَه والحُمق والتهور والحَميّة، كما في قول عمرو بن كلثوم:

ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا

فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا

يريد: نجازي من يجهل علينا بما هو أعظم، فسمّى المجازاة على الجهل جهلاً.

وقول الفرزدق:

أحلامُنا تَزِن الجبالَ رزانةً

وتَخالُنا جنّاً إذا ما نجهل

وباستقراء النصوص ومراميها يتبيّن للمدقق أن مفهوم الجاهلية والجهل قد تطور وفق التدرج الزمني، إذ كان يتّجه إلى الغموض في الأصل الحسي كما يُفهم من قول صاحب لسان العرب: «وأرض مجهولة: لا أعلام بها ولا جبال، وإذا كان بها معارف أعلام فليست بمجهولة وأرض مَجْهَل: لا يُهتدَى فيها. ويلحظ مثل هذه الصورة في بيت سويد بن أبي كاهل اليشكري يصف صحراء لا يعرف أغلاقها:

فركبناها على مجهولها

بِصلابِ الأرض فيهنَّ شَجَعْ

أي سرنا فيها على جهل بمسالكها وأعلامها، فوق خيل صلاب الحوافر كأنّ بها جنوناً من النشاط». وعلى هذا النحو يكون المفهوم المبكر للجهل، الذي منه اشتقت الجاهلية، ويخالط هذا المفهومَ قَدْرٌ من التسرع والتهوّر والهياج ونحو ذلك مما يقترن غالباً بالشباب أو يصدر عنهم ويفتقر إلى الخبرة والحكمة والتروّي، كقول النابغة الذبياني:

فإن يكُ عامرٌ قد قال جهلاً

فإن مَظِنَّةَ الجهل الشبابُ

وهكذا ربط العرب بين الجهل والحلم في شواهد كثيرة، كما في بيت الفرزدق السابق، وكقول زهير بن أبي سلمى:

وفيهم مقاماتٌ حِسانٌ وجوههم

وأنديةٌ ينتابها القول والفعلُ

إذا جئتَهم ألفيت حول بيوتهم

مجالسَ قد يشفى بأحلامها الجهل

أما الوجه الآخر للجهل والجاهلية فطرفاه الجهل والعلم بمفهومهما العام، ولعلّ خير ما يصوّر هذا الوجه الآية الكريمة }قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ والَّذِيْنَ لاَ يَعْلَمُون{ (الزمر 9) بما تمثّله من الضِّدية التي يناقض فيها الجهل العلم. ومما يعبّر عن ذلك شعراً قول السموأل بن عادياء، أو عبد الملك الحارثي:

سلي إن جهلتِ الناسَ عنّا وعنهم

فليس سواءً عالمٌ وجهولُ

فهنا يبدو مدلول الجهل متجاوزاً الاهتداء بالنظر، أو الضلالَ بسببه إلى الاهتداء بالنظر والعقل، والاحتكام إلى الفكر، أو يُخْتَبَر الجهل والجاهلية بهما. ويعزِّز هذا الفهم الآية الكريمة }يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ{ (البقرة 273) أي الجاهل الذي لا يعرف حالهم، لا المتَّصف بالجهل المذموم، إذ ليس المراد هنا الجاهل الذي هو ضد العاقل، وإنما المراد الجهل الذي هو ضد الخبرة.

وأخيراً طبع مفهوم الجاهلية بطابع إسلامي فصارت تُعْرَف بالقياس إلى المرحلة الإسلامية زمناً ومصطلحاً، وإلى المبادئ الإسلامية تديّناً وتحضراً وتشريعاً. وهذا المدلول هو الذي صار أكثر شيوعاً وإليه يتّجه الذهن عند التعميم والإطلاق. ومن الإشارات المبكِّرة إلى ذلك ما رواه أبو هلال العسكري (ت395هـ) في كتاب «الأوائل» عن أول ذكر للجاهلية قال: «إن امرأة جاءت إلى سول الله r فقالت: يا رسول الله إن إبلاً لي أصيبت في الجاهلية». فإذا صح ذلك ترجَّحَ أن الكلمة لم تكن معروفة في العصر الجاهلي، وأنها وردت أول مرة في القرآن الكريم بصيغة المصدر الصناعي كما في قوله تعالى: }وَقَرْنَ في بُيُوْتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُوْلَى{ (الأحزاب 33) وآيات أُخر. وممّا يزيد هذا التصور وضوحاً قول النبيr لأبي ذَرّ الغِفاري[ر] وقد عيَّر رجلاً بأمّه: «إنّك امرؤ فيك جاهليّة»، وفُسِّر مدلول الجاهلية بأنه «الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله سبحانه ورسوله، وشرائع الدين والمفاخرة بالإنسان والكِبْر والتجبّر وغير ذلك». وبهذا الإطلاق استوت مصطلحاً يفرّقون به بين العهد الإسلامي والعهد الذي سبقه. ولقد بدا المعيار الإسلامي لتقويم الجاهلية معتمداً على رفض ما للجاهلين من مظاهر وتصرّف بالأمور على نحو لا يرضى عنه الإسلام، ولا يُقرّ الناس عليه، إلى جانب الجهل المنافي للمعرفة والخبرة، والجهل بالدين الحقيقي والإله الواحد، ومن هنا جاء التعبير الإسلامي «الجاهلية الجهلاء» على سبيل الذم، ويلحظ مثل هذا الذم في تلخيص الراغب الأصفهاني[ر] لمدلول الجهل مستنبطاً من الشواهد القرآنية ومحدَّداً في ثلاثة أضرب: «الأول وهو خلوّ النفس من العلم، وهذا هو الأصل، والثاني اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، والثالث فعل الشر بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء أعتقدَ فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً».

وذكرت الجاهلية في القرآن الكريم في أربع سور، في (آل عمران 154، المائدة 50، الأحزاب 33، الفتح 26) في معرض استنكار ما كان عليه العرب من العنجهيّة والغطرسة والعصبية القبلية، وما كانوا عليه في العادات والعبادات من الثأر والوثنية والسَّفه وانتشار العداوات وسفك الدماء. كما ذكرت «الجهالة» بما يتفق وهذا التصور الذي كان مبايناً لما جاء به الإسلام من الخضوع لله تعالى واتّباع تعاليم الشريعة في العبادات والمعاملات سلوكاً ومنهجاً.

وأما زمن الجاهلية فيمتد إلى ما قبل فجر الإسلام بنحو قرن ونصف أو قرنين على أبعد تقدير، وإن عمم بعض الباحثين فأغفلوا أمر التحديد الزمني كقولهم: هي المراحل التي سبقت الأديان السماوية الثلاثة المعروفة: اليهودية والنصرانية والإسلام. ورأى المفسرون أنها تمتد من الجاهلية الجهلاء أو الجاهلية الأولى التي ولد فيها إبراهيم إلى الجاهلية الثانية التي فيها محمّدr، وقال بعضهم إنها تقع بين عيسى ومحمّد عليهما الصلاة والسلام. وقال ابن خالويه[ر] (ت370هـ): «الجاهلية لفظ حدث في الإسلام للزمن الذي قبل البعثة». وما عرفه المهتمون بالأدب الجاهلي كان نصوصاً إبداعية في النثر والشعر صيغت بلغة نضجت قواعدها واكتملت خصائصها كما يرى مؤرخو الأدب العربي، من غير تحديد دقيق للبدايات، يقول الجاحظ في ذلك: «فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له، إلى أن جاء الله بالإسلام، خمسين ومئة عام، فإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام». وما سبق ذلك يكتنفه الغموض، ويفتقر إلى الأخبار الموثّقة التي يمكن أن يقبل بها العقل، أو تصلح مادة للبحث العلمي.

وكانت حياة العرب في الجاهلية موزعة على رقعة واسعة من الأرض يسودها المناخ الصحراوي والجفاف، وتقلّ الأمطار وخاصة في الداخل. ولذا لم تكن حياة العرب في الجاهلية مستقرّة إلا في اليمن والحجاز واليمامة حيث كانت تعيش قبائل عربية حياة أدنى إلى التحضّر كقريش، والأوس والخزرج في يثرب، وثقيف في الطائف، والغساسنة في بلاد الشام، وآل نصر في الحيرة، وبني حنيفة في حجر واليمامة. أما باقي العرب فكانت الرحلة دأبهم لانتجاع المرعى والكلأ. وقد اتّسعت بهم الرحلة في موجات تتابعت خارجة من قلب الجزيرة العربية وجنوبيّها نحو العراق والشام والحبشة.

ومع نشاط هذه الحركة البشرية فقد عرف العرب في الجاهلية بعض التكوينات السياسية المتمثلة بالقبائل الكبيرة، أو بالتجمعات القبلية الموحّدة تحت زعامة واحدة كونت في بعض الأحيان والأماكن ممالك وإمارات صغيرة كمملكتي تدمر والأنباط، ومملكة حِمْيَر والتبابعة وسبأ، وإمارة المناذرة اللخميين بالحيرة، والغساسنة أولاد جفنة بالشام، وإمارة كندة بنجد. أما سائر العرب أو الأعراب البداة فكانوا ينتشرون في الصحراء، وفي الشمال من الجزيرة غالباً، وفق نظام قبلي نواته الأسرة، فالقبيلة[ر] مؤلَّفة من مجموعة أسر من أب واحد، وقد تضم القبيلة من لا يشتركون في وحدة الدم كالموالي والمستلحقين بها من غير الصرحاء. والقبيلة وحدة سياسية قائمة بذاتها، ووحدة اجتماعية لها نظمها وأعرافها وتقاليدها في شبه دولة مصغّرة، وأحياناً تكوّن وحدة دينية تنفرد بصنمها، وقد تقيم المحالفات وتستظلّ بقبائل أخرى، أو تخضع لسلطان إحدى الإمارات، وغالباً ما تبقى متمسكة بالنظام القبلي وتقاليده في العصبية والولاء والانتماء وهي مستظِلَّة أو خاضعة أو متحالفة، وحتى بعد أن وحّد الإسلام قبائل العرب ظلّوا محتفظين بكثير من خصائص النظام القبلي. ولعل أبرز سمات المجتمع القبلي في الجاهلية إيكال أمور القبيلة إلى مجلس قبلي يترأسه سيد القبيلة الذي يقضي اختياره بتوافر صفات معينة فيه كشرف النسب وحصافة الرأي والحِلْم والوقار إلى جانب الشجاعة والمروءة والكرم والفصاحة والمقدرة على الحماية والإجارة.

وهذه الصورة العامة للقبيلة العربية تسبغ عليها طابع التماسك الذي اصطُلح عليه باسم العصبية القبلية، أي أن يدعو الرجل إلى نصرة عَصبته والتألُّبِ معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين، كما يعبّر قُريط بن أنيف بقوله:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

ومثل هذه الاستجابة الانفعالية هي التي أفضت بكثير من القبائل الجاهلية إلى حروب ومواقع عرفت باسم أيام العرب[ر]. ويبدو أن رابطة القرابة أو العصبية كانت وسيلة لا بديل عنها لترسيخ التكتل القبلي بصرف النظر عن الحق والباطل والعدل والظلم، وبالتركيز على القيم الأولى في حياة القبيلة، وعلى حاجتها إلى الحصول على مرعى، أو الظفر بعين ماء، أو صون الحمى والكرامة. أما خارج إطار القبيلة فكانت لهم علاقات إنسانية سليمة كالمصاهرة وقِرى الضيف، والإجارة والأحلاف. وكان للإجارة أو نظام الجوار أثر حميد في حماية الفرد والقبيلة المستجيرَيْن، أو في تقاسم المرعى والماء، أو في استرداد المال، أو في إجارة امرأة تشقى بزوجها. وكان للمجير والمستجير شروط يُؤْخَذ بها، وإجراءات شائعة، منها إلقاء المجير ثوبه على من يريد إجارته، ومنها الإمساك بطنب خيمة المستجار به، ومنها وصل المستجير رشاءه (حبله) برشاء المجير، ومنها أكل المستجير الطعام أو شربه الماء مع المجير. وبلغ من مراعاتهم لهذه المنقبة أن أجاروا الطير والحيوان. وكانوا يستجيرون أيضاً بالأماكن المقدسة، وبقبور زعماء القبائل وساداتها، وربما شفعوا استجارتهم هذه بتقديم بعض القرابين لهاتين الجهتين.

أما الأحلاف فهي المعاهدات أو المعاقدات على التعاضد والتساعد والاتفاق. وسمي مفردها حِلْفاً لأنه لا يُعْقَد إلا بالحلف، وما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات فذلك هو المنهيُّ عنه بقوله r: «لا حِلْف في الإسلام»، وما كان منه في الجاهلية على نَصْر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المُطيِّبين وما جرى مجراه فذلك الذي قال فيه r: «وأيَّما حِلْف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلاّ شدة»، يريد مِنَ المعاقدة على الخير ونُصرة الحق.

ومن الأحلاف المشهورة في الجاهلية حلف الفُضُول، سُمِّي به تشبيهاً بحلف كان قديماً بمكة أيام جُرْهُم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي، والغريب من القاطن، وسمِّي حلف الفضول لأنه قام به رجال من جُرْهُم كلهم يسمّى الفضل، وأطلقت هذه التسمية أيضاً على حلف المطيِّبين، وفيه قال النبي r: «شهدت في دار عبد الله بن جُدْعان حِلْفاً لو دُعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت».

ومن أحلافهم في الجاهلية: حلف البَراجم، وحلف الحُمْس، وحلف الرَّباب، وحلف لَعَقَة الدم. ومن شعائر تلك الأحلاف غمس أيدي المتحالفين في سائل كالدم أو الماء أو الرُّبّ، أو في مادة أخرى كالملح أو الرماد، وكانت القبائل إذا أرادوا عقد حلف أوقدوا ناراً وتحالفوا عندها، وربما طرحوا في النار الطِّيْبَ أو الملح أو غير ذلك. وثمة حلف استمدّ اسمه من هذه النار وهو حلف «المَحاش»، وربما رددوا عند التحالف عبارات مألوفة كقولهم: الدَّمَ الدم، الهَدَم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلاّ شداً، وطول الليالي إلاّ مدّاً.

وقد عرف المجتمع الجاهلي ظاهرة الانقسام الطبقي بين السادة والعبيد والسوقة، كما عرف الرقيق والعبودية بمدلولهما العام في الأمم. وكان السادة في قمة الهرم الاجتماعي بالزعامة والرئاسة، أو بالملكية الكبيرة من الأرض والأنعام، أو بالثراء عن طريق المتاجرة، وفي المقابل كان الفقر والحرمان والفاقة في الطبقة الدنيا من الأرقاء والعبيد والموالي والمظلومين والمحرومين حتى من حماية قبائلهم التي ينتمون إليها أو يلجؤون، كما يستنتج من شعر الشاعر المخضرم قريط بن أنيف من بني العنبر حين لام قومه لأنهم لم يهبّوا لمساندته:

لو كنتُ من مازن لم تَستبحْ إِبِلي

بنو اللَّقيطةِ مِنْ ذُهْلِ بنِ شيبانا

لكنّ قومي وإن كانوا ذويْ عددٍ

ليسوا من الشرِّ في شيءٍ وإن هانا

ومثل هذا الموقف أو أشد منه إغفالاً للأدنين كان ينسحب على الموالي والأتباع ممن حُرروا من العبودية أو أُعْتقوا. ودون هؤلاء قيمةً كان المنبوذون والخُلعاء الذين تخلّت عنهم قبائلهم، أو حطّ من مكانتهم لونهم. ومن هؤلاء جميعاً عرف المجتمع الجاهلي فئات الصعاليك وأضرابهم ممن كانوا من مفرزات الاستعلاء الطبقي.

وضمن هذا التكوين الاجتماعي للقبيلة كانت المرأة موزّعة في الطبقتين على غرار الرجل، مع بعض اختلاف في الأحوال والمهامّ والحقوق، فهي منعّمة لها مكانتها في طبقة السادة، ومضطهدة مظلومة في الطبقة الدنيا، إذ كان ثمة حرائر وإماء. وبالإجمال كان لها قدر مقبول من الحرية في المسلك والحياة، لكن لم تكن لها قوانين أو حقوق تصونها كالتي رسمها الإسلام مفصّلة فيما بعد. وتُجمع المرويات عنها في الجاهلية على أنها كانت تخالط الرجال سافرة، وتنظم الشعر وتنشده في مجالس عامة، أو تغنّيه. وتجلّى حرصها على قبيلتها في تحريض الرجال على حماية الذمار، وفي الوقوف إلى جانبهم في القتال كما يستخلص من بيت عمرو بن كلثوم التغلبي:

يَقُتْنَ جيادَنا ويقُلْن لستم

بعولَتَنا إذا لم تَمنعونا

وكان عليها أن تسهم في العمل على اختلاف مظاهره، ولأنها لم تكن مهيَّأة للغزو والقتال والصيد كالرجال فقد كانت عبئاً على أهلها، ولهذا عرف الجاهليون ظاهرة وأد البنات، إلى جانب وأد الأطفال المشوَّهين والدميمين. وأسهم العجز عن الإنفاق على الأولاد، والتعلل بتقديمهم قرابين للآلهة في عملية الوأد تلك. قال تعالى في ذمّ هذه الفعلة: }وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهْوَ كَظِيْم{ (النحل 85).

كما عرفوا في الوقت نفسه قيمة مهرها فقالوا لمن بُشّر بالأنثى: «هنيئاً لك النافجة»، لأنه عند تزويجها «تَنْفُج» ماله، أي تزيده بمهرها الذي يأخذه، وكان يساق إليها إبلاً أو غنماً أو غيرهما، ومن ذلك جاءت تسمية السِّيَاق. والمهر من حق ولي أمر المرأة، ومقداره يتفاوت وفق أحوال الأفراد والقبائل في اليسر.

وقد أحلَّوا المرأة مكاناً رفيعاً في صورة الأمومة، وفي مقدّمات أشعارهم وغزلهم. وكانت تَبْتاع وتتاجر وتَقْرِي الضيف، وكانت لبعض النساء العصمة، أو حق تطليق الزوج في بعض الأحيان وعن سابق اشتراط. وكانت تحرم من الإرث، أما أموالها فكانت من اشتغالها ببعض الأعمال والحرف كالرعي، والغزْل والنسيج، والكِهانة والعِرافة والطبابة والسحر، وتزيين النساء، والتوليد، وإرضاع الأطفال.

وكانت العبادات في الجاهلية مزيجاً من الحسية والنفعية والخيال، متأثرة بضروب من التقديس تجلّت في عبادة مظاهر الطبيعة وارتبطت بالأماكن والأسلاف، أو بالأزمات الشديدة؛ فقد عبدوا الأشجار والكواكب والأحجار، وبعض الموجودات التي عرفتها بيئتهم. وتلك المعبودات التي آمنوا بحلول الروح فيها، والتي كانت ترمز إلى آلهة متعددة مختلفة هي ما شاعت تسميتها بالوثنية paqanism، وتمثلت عند عرب الجاهلية بالأوثان والأصنام.

ومن أشهر أصنامهم: مَنَاة، والّلات، والعُزَّى، وهي آلهة مؤنثة كانت في شمالي الجزيرة العربية. وكان لهم في جنوبيّها ما عرف بأصنام قوم نوح، وهي: وَدّ، وسُوَاع، ويَغُوث، ويَعُوق، ونَسْر، والمَقَه أو (سَن)، والزُّهَرة (ابن الشمس والقمر)، وعرف باسم «عثتر». ومن أصنامهم: نُهْم، وسُعير، وإساف ونائلة، والأقيصِر، واليَعْبُوب، وذو الكفّين، وذو الشَّرَى، وذو الخَلَصَة، وبَلْج، والبَجَّة، وذات الودع، ويالِيْل، وذو اللِّبا، وذو الرِّجْل . وكانت كل قبيلة تتخذ لنفسها صنماً تتقرّب إليه بتقديم القرابين وذبح الذبائح، وأشهر صنم كان لقريش وهو «هُبَل»، وكانت قريش تتقرّب إليه بمئة جزور، وتضرب عنده بالقداح على ما يريدون.

وإلى جانب الأصنام والأوثان عرفت تسمية «الأنصاب»، وقد أشار إليها ابن الكلبي صاحب كتاب «الأصنام» فقال: «فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتّخذ صنماً، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نَصَب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسمّوها الأنصاب».

ومن مكمِّلات معتقدات الجاهليين تقديسهم الكَعَبات والمعابد وتعظيمها، وفي طليعتها وأعلاها منزلة عندهم كعبة مكة أهم البيوت المقدسة بغير منازع بين غالبية الجاهليين، وكعبة سَنْدَاد بين الحيرة والأُبُلَّة، وكعبة نجران باليمن . وكان لهم بيوت مقدسة ذكرها ابن إسحاق في «السيرة النبوية» بقوله: «وكانت العرب قد اتّخذت مع الكعبة طواغيتَ وهي بيوت تعظّمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجّاب، وتُهدي لها كما تهدي الكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها».

ومن تلك البيوت: بَسٌّ، وكان لغَطَفان بالحجاز، ورُضاء أو «رُضى» وكان لربيعة بن كلب في شمالي الجزيرة العربية على الأرجح، ورِئام وكان لحِميَر بصنعاء اليمن. ولكنّ إيمانهم بتلك الأوثان والكعبات والبيوت لم يكن مطلقاً أو وقفاً عليها، وذلك لاعتقادهم بقوى غيبية غير مرئية أعظم شأناً مما يعبدون، وأقدر فعلاً وتأثيراً في الأمور المصيرية، ولذلك كانوا ينصرفون عن أوثانهم المحلية ويفزعون إلى بيت الله الحرام بمكة على اختلاف أصنامهم وبيوتهم المقدسة يستسقون الغيث أو يدفعون النوائب والكوارث الفادحة، أو يرجون النصرة على العدو. وإجماعهم على تعظيم الكعبة مترسخ فيهم من اعتقادهم بأنها بيت الله الذي يقر معظمهم بوجوده، وبأنه إله الكائنات كلها ورب الأرباب كلها. وهكذا تكون العبادات أو المعتقدات قد تطورت متجهة نحو الإيمان بكبير الآلهة، أو الإله الأكبر، ثم نحو التوحيد والإيمان بالله كما يتضح من مجموعة النقوش التي عثر عليها في أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية والتي تَرِد فيها أسماء مثل: سعد الله، ووهب الله، وزيد الله.

واعتقاد قدماء العرب بإله واحد مذكورٌ في الأخبار وقصص الأنبياء، فهُود عليه السلام دعا إلى عبادة الله ونَبْذِ الأوثان، وكذلك فعل نبي الله صالح، وبمجيء إبراهيم عليه السلام تتعزّز الدعوة إلى نبذ كل ما يشكك في وحدانية الله، وتترسخ فكرة الإله الواحد.

ومن مظاهر التوحيد عقيدة الحنيفية، والحنيف هو الذي كان يستقبل قبلة البيت الحرام على ملّة إبراهيم، أو الذي كان يتحنّف عن الأديان، أي يميل إلى الحق. ولما جاء الإسلام سمّى الحنفاءُ المسلمَ حنيفاً، وصار الحنيف: الصحيح الميل إلى الإسلام والثابت عليه، وفي الحديث: «بُعثتُ بالحنيفية السمحة السهلة». وقد ذكرت الحنيفية في عدة سور من القرآن الكريم.

إلى جانب ذلك كانت ديانتان كتابيتان تدعوان أيضاً إلى إلهٍ عظيم هما: اليهودية والنصرانية. وقد انتشرت اليهودية في مناطق تيماء والحجاز واليمن، والمسيحية في جنوبي الجزيرة، وفي الحيرة، وبين الغساسنة، وفي بعض مناطق الحجاز. وكان اليهود يعتقدون بإله واحد هو «يهوه» الذي يعدّونه إلهاً خاصاً بهم وبقبائلهم أو شعبهم، وليس للبشرية جمعاء. أما النصرانية فقد كانت أكثر انتشاراً بين العرب واعتَقَدَ بها أفراد وقبائل عربية مشهورة كبني تغلب، وتنوخ، ولَخْم، وبهراء، وطيئ، ومَذْحِج، وغسان. وكان إلههم لجميع البشر وإن اختلفوا في طبيعة السيد المسيح عليه السلام. وعلى هذه الصورة من الإيجاز كانت المعتقدات الدينية في الجاهلية.

وعلى هامش هذه المعتقدات عرف عرب الجاهلية عبادة قوى غيبية خارقة وصفت بالجن أو الملائكة، وكانت قريش تعبدها وتدّعي أنها بنات الله. وعرفوا الكهّان والمنجمين والعرافين وأمثالهم ممن ادعوا معرفة الأسرار ورجموا بالغيب وزعموا بوجود تابع أو رَئِيّ من الجن يلقي إليهم الأخبار. وفي الحديث: «إن الشياطين كانت تسترق السمع في الجاهلية وتلقيه إلى الكهنة، فتزيد فيه ما تزيد وتقبله الكفّار منهم». ويبدو أن هؤلاء الكهّان والسَّدنة هم الذين كانوا يتولون ترتيب شعائر الحج والتلبية والطواف والقرابين والنذور، والإشراف على «طقوس» التقليس والتهليل والتغبير (التمرغ بالتراب تضرّعاً) وترديد الأسجاع والأرجاز حول الكعبة.

وأما اقتصاد الجاهليين فكان يقوم على الرعي وتربية بعض الحيوانات كالإبل والخيل والشاء، وعلى زراعة بعض المحاصيل وخاصة في الجنوب كالنخيل والأعناب، والحبوب كالشعير والبُرّ (القمح) في المجتمعات المستقرّة.

وفي الإجمال لم يكن الجاهليون من أصحاب الحرف، بل كانوا يأنفون من العمل اليدوي والصناعات. ولا ننسى ما كان للتجارة من شأن بما توفّره من مورد أساسي يعتمد على تصدير الطيوب والتوابل من جنوبي الجزيرة العربية إلى مصر وبلاد الشام، وعلى نقل السلع من الشام إلى الشواطئ الأوربية. أما في الحواضر فقد تاجروا بالطيوب والمُرّ واللِّبان والبخور والقرفة، وبادلوا نتاج البادية من الأغنام ووبر الجمال والجلود بسلع يحتاج إليها البدو كبعض مصنوعات التعدين والمنسوجات. وكانوا يأخذون رسوماً على حماية القوافل وإرشادها إذ كانت بلاد العرب ممراً للخطوط التجارية البرية والبحرية بين الشرق والغرب، وكانت مكة في قلب الجزيرة العربية مركزاً دينياً يمثّل دخلاً ربيحاً من موارد الحجيج الذين كانوا يفدون إليها كل سنة. وكان الجاهليون يعيشون على ما ينبت في بيتهم من أنواع النبات وعلى الصيد.

ومع إحاطة البحر بالجزيرة العربية من معظم جهاتها فقد كان النشاط البحري عند الجاهليين محدوداً في صيد اللآلئ وفي نقل البضائع الذي استدعى وجود بعض المرافئ في شرقي جزيرتهم وغربيها على البحر الأحمر، الأمر الذي فتح الباب للاحتكاك بالأقوام المجاورة كالأحباش والهنود، وكان التجّار أوّلَ والجيه.

ولكن احتكاك العرب بالأمم المجاورة لم يتعدَّ كثيراً التعامل التجاري، إذ لم تكن للحياة السياسية ملامح واضحة أو مبادئ معتمدة يحتكم إليها العرب في علاقاتهم بالآخرين إلاّ ما كان من ارتباط المناذرة بالإمبراطورية الفارسية في الشرق، وارتباط الغساسنة بالإمبراطورية البيزنطية في الشمال عن طريق التحالف، أو عن طريق الاتفاقات المرحلية التي يقتضيها التجاور وتفرضها الحدود. على أن الاستقرار العربي كان مهدّداً أحياناً بالفرس وبالأحباش والبيزنطيين، أو بالصراع الداخلي بين القبائل والإمارات، كما حدث في الصراع بين إمارتي كندة والحيرة. أما عند ما كان الخطر الخارجي يحيق بالعرب فقد كانوا يجدون قدْراً من التوافق، أو ما يشبه التوافق فيما بينهم، خاصة في الجنوب حيث كانوا ينبذون التناحر، على خلاف ما كان في الشمال بين الغساسنة والمناذرة.

أما الحياة العقلية فقد كان محورها الولاء للقبيلة وشيخها، وللمعبودات كما سلف الحديث عنها، فهي مناط العقل ودائرة التفكير التي إن اتّسعت شُغلت عن ذلك بالتأمل في الكون ومظاهر الطبيعة والموت الذي كان أكثر حقائقهم يقينية وثباتاً. وهذا الإدراك لمصير الإنسان حفزهم على التأمل وولَّد عندهم الحكمة والموعظة. وأمدَّهم الليل والسُّرَى في البادية بملكة البيان وصفاء الذهن فتعزّزت فيهم قيم المروءة والشجاعة والوفاء. على أن قيماً خاصة برزت إلى جانب ذلك وتمثّلت بالظاهرة الفردية التي جنحت إلى التمرّد والعبثية والأَثَرة وما شابه ذلك من منازع.

وعن هذا كله وغيره عبّر الأدباء شعراً ونثراً، وأعادوا صياغته في الرثاء والمديح والفخر. وفي حين استأثرت النزعة القبلية بطائفة كبيرة من الشعراء بدا في المقابل فريق منهم منكفئاً على نفسه غارقاً في النزعة الفردية كامرئ القيس وطرفة بن العبد.

وانصرفت فئة ثالثة إلى لون حيادي من الحياة الاجتماعية فبالغت في التمرد على النظام القبلي ونزعت إلى الإغارة للسلب والغزو والانتهاب كالشعراء الصعاليك والسود والأغربة.

وقد رسم مؤرخو الأدب العربي والباحثون فيه الخطوط العريضة للحياة الأدبية فعرضوا للشعر وبيّنوا توزّعه في المعلقات أو المُذهبات (وسميت أيضاً بالسُّمُوط وبالقصائد المشهورات). وأكثر الرواة والشراح على أنها سبع، كما في شرح ابن الأنباري والزوزني[ر]، وتسع في شرح لأبي جعفر النحاس، وعشر في شرح التبريزي [ر]، كما بيّنوا توزعه في الاختيارات الشعرية «كالمفضليات» للمفضل الضبي، و«الأصمعيات» للأصمعي، وكتاب «الاختيارين» للأخفش الأصغر، و«جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي، ومختارات ابن الشجري. وفي دواوين القبائل، وكتب الحماسات، ثم في دواوين الشعراء.

وصنفوا أصحاب هذا الشعر في طبقات وصل لها ابن سلام الجمحي إلى الطبقة العاشرة. وعرض النقاد، قديماً وحديثاً، لموضوعاته وخصائصه وشروحه وأسواقه ومواسمه التي كانوا يتناشدونه فيها ويتفاخرون.

 كان الشعر بوجه عام سجلاًّ لمآثرهم وشعائرهم ومفاخرهم وأنسابهم وغرائزهم وإحساسهم وكل ما من شأنه رفعة القبيلة والإعراب عما في النفوس، كما كان تصويراً لبيئاتهم وموجوداتها، وراصداً لأحداثهم وهمومهم ومنازعاتهم وأيامهم، وتأريخاً لمجتمعاتهم وتطور حياتهم بما انطوت عليه من مشكلات وعلاقات، في أسلوب طغى عليه الإيقاع والحسية والمباشرة، وزينته التشبيهات والأخيلة والأداء المهذب المصقول، ومن هنا أطلقوا عليه «ديوان العرب».

أما نثرهم فكان سجلاًّ لحياتهم الدينية كما بدا في سجع الكهان، ولأمثالهم وحِكَمهم كما بدا عند حكمائهم وشيوخهم من أمثال أكثم بن صيفي، وقُسّ بن ساعدة الإيادي، ومنهجاً لتربية أجيالهم كما بدا في الخطب والوصايا والمجالس والقصص والأخبار ومجمل المرويات. وكانت أداتهم إلى ذلك لغة غنية بثروتها اللفظية، مشرقة ببيانها وإيقاعها، تصوغها ملكة فطرية متوقدة صقلتها البادية بنقائها وصفاء لياليها وأمدائها الفساح.

مسعود بوبو



 الموضوعات ذات الصلة:


الأدب العربي في العصر الجاهلي ـ الإسلام ـ الله (جل جلاله) ـ أيام العرب في الجاهلية ـ العصبية القبلية.



 مراجع للاستزادة:


ـ لطفي عبد الوهاب يحيى، العرب في العصور القديمة (دار النهضة العربية، بيروت 1979).

ـ  إحسان النص، العصبية القبلية (دار اليقظة العربية، بيروت 1963).

ـ شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي «العصر الجاهلي» (دار المعارف بمصر).

ـ نوري حمود القيسي، عادل جاسم البياتي، مصطفى عبد اللطيف، تاريخ الأدب العربي قبل الإسلام (جامعة بغداد 1989).

ـ جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (مكتبة النهضة، بغداد) ـ (دار العلم للملايين، بيروت).