Search - للبحث فى مقالات الموقع

Thursday, November 18, 2010

الحريري - المقامة المعرية

الحريري - المقامة المعرية 

____
تفسخ الحضارة الإسلامية قبيل الغزو المغولي: أبو زيد يشكو إلى قاضي المعرة صديقاً نكح جاريته، ولم يعطه سوى عبداً أقل قدراً منها. المقامة الثامنة من مقامات الحريري. من نسخة عام 1237 م من مقامات الحريري، وصورها يحيى بن محمود الواسطي. الرسم يوجد في المكتبة الوطنية النمساوية، ڤيينا

الحريري - المقامة المعرية
أخبرَ الحارِثُ بنُ هَمّامٍ قال: رأيتُ منْ أعاجيبِ الزّمانِ. أن تقدّم خَصْمانِ. إلى قاضي مَعرّةِ النّعمانِ. أحدُهُما قدْ ذهَبَ منْهُ الأطْيَبانِ. والآخَرُ كأنّهُ قَضيبُ البانِ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ. كما أيّدَ بهِ المُتقاضيَ. إنّهُ كانَتْ لي مَمْلوكَةٌ رَشِقَةُ القدّ. أسيلَةُ الخدّ. صَبورٌ على الكدّ. تخُبّ أحْياناً كالنّهْدِ. وترقُدُ أطْواراً في المهْدِ. وتجِدُ في تمّوزَ مَسَّ البَرْدِ. ذاتُ عقْلٍ وعِنانٍ. وحدٍ وسِنانٍ. وكفٍّ ببَنانٍ. وفمٍ بلا أسْنانٍ. تلْدَغُ بلِسانٍ نَضْناضٍ. وترْفُلُ في ذيْلٍ فضْفاضٍ. وتُجْلى في سَوادٍ وبَياضٍ. وتُسْقَى ولكِنْ منْ غيرِ حِياضٍ. ناصِحَةٌ خُدَعَةٌ. خُبَأةٌ طُلَعَةٌ. مطْبوعَةٌ على المنفَعَةِ. ومطْواعَةٌ في الضّيقِ والسَّعَةِ. إذا قطَعَتْ وصَلَتْ. ومتى فصَلتَها عنْكَ انفَصَلَتْ. وطالَما خدَمَتْكَ فجمّلَتْ. وربّما جنَتْ عليْكَ فآلَمَتْ وملْمَلَتْ. وإنّ هذا الفَتى استَخْدَمَنيها لغرَضٍ. فأخْدَمْتُهُ إيّاها بِلا عِوَضٍ. على أن يجْتَنيَ نفْعَها. ولا يُكلّفَها إلا وُسْعَه. فأوْلَجَ فيها مَتاعَهُ. وأطالَ بها استِمْتاعَهُ. ثم أعادَها إليّ وقدْ أفْضاها. وبذَلَ عنْها قيمَةً لا أرضاها. فقال الحَدَثُ: أمّا الشيخُ فأصدَقُ منَ القَطا. وأما الإفْضاءُ ففَرَطَ عنْ خَطا. وقدْ رهَنْتُهُ. عن أرْشِ ما أوْهَنْتُهُ. ممْلوكاً لي مُتناسِبَ الطّرَفَينِ. مُنتَسِباً إلى القَينِ. نقِيّاً منَ الدّرَنِ والشَّينِ. يُقارِنُ محلُّهُ سَوادَ العينِ. يُفْشي الإحْسانَ. ويُنْشي الاسْتِحْسانَ. ويُغْذي الإنْسانَ. ويتَحامَى اللّسانَ. إنْ سُوّدَ جادَ. أو وَسَمَ أجادَ. وإذا زُوّدَ وَهَبَ الزّادَ. ومَتى اسْتُزيدَ زادَ. لا يستَقِرّ بمَغْنى. وقلّما ينكِحُ إلا مَثْنى. يسْخو بمَوجودِه. ويسْمو عندَ جودِهِ. وينْقادُ معَ قَرينَتِهِ. وإنْ لمْ تكنْ منْ طينَتِهِ. ويُستَمْتَعُ بزينَتِهِ. وإنْ لمْ يُطْمَعْ في لينَتِه. فقال لهُما القاضي: إمّا أن تُبينا. وإلا فَينا.فابْتَدَر الغُلامُ وقال:
أعارني إبرَةً لأرفـوَ أطْـمـا *** راً عَفاها البِلـى وسـوّدَهـافانخرَمَتْ في يَدي على خطَـإٍ *** منّيَ لمّا جذَبْتُ مِـقـوَدَهـافلمْ ير الشيخُ أن يُسامِحَـنـي *** بإرْشِـهـا إذْ رأى تـأوُّدَهـابلْ قال هاتِ إبرَةً تُماثِـلُـهـا *** أو قيمَةً بعْدَ أن تـجـوّدَهـاواعْتاقَ ميلي رَهْناً لـدَيْهِ ونـا *** هيكَ بـه سُـبّةً تَـزوّدَهــافالعينُ مَرْهَى لرَهْـنِـه ويدي *** تقصُرُ عنْ أن تفُكّ مِروَدَهـافاسبُرْ بذا الشّرْحِ غوْرَ مسكَنتي *** وارْثِ لمنْ لم يكُنْ تعـوّدَهـا
فأقبلَ القاضي على الشيخِ وقال: إيهٍ. بغَيرِ تمْويهٍ! فقال:أقسَمْتُ بالمَشْعَرِ الحَرامِ ومنْ *** ضمّ منَ الناسِكينَ خَيْفُ مِنىلوْ ساعَفَتْني الأيّامُ لمْ يرَنـي *** مُرتَهِناً مِيلَهُ الذي رَهَـنـاولا تصدّيتُ أبتَـغـي بـدَلاً *** منْ إبرَةٍ غالَها ولا ثَمَـنـالكِنّ قوْسَ الخُطوبِ ترْشِقُني *** بمُصْمِياتٍ منْ هاهُنا وهُنـاوخُبْرُ حالي كخُبْرِ حالـتِـهِ *** ضُرّاً وبؤساً وغُربَةً وضَنىقد عدَلَ الدهْرُ بينَنـا فـأنـا *** نظيرُهُ في الشّقاء وهْوَ أنـالا هُوَ يسْطيعُ فـكّ مِـروَدِهِ *** لمّا غدا في يَدَيّ مُرتَهَـنـاولا مَجالي لِضيقِ ذاتِ يَدي *** فيهِ اتّساعٌ للعَفْوِ حينَ جَنـىفهَذِهِ قصّتـي وقـصّـتُـه *** فانْظُرْ إلَيْنا وبينَنـا ولَـنـا
فلمّا وعَى القاضي قَصَصهُما. وتبيّنَ خَصاصَتَهُما وتخَصُّصَهُما. أبرَزَ لهُما ديناراً منْ تحْتِ مُصَلاُّه. وقال لهُما: اقْطَعا بهِ الخِصامَ وافِصلاهُ. فتلقّفَهُ الشيخُ دونَ الحدَثِ. واستَخلَصَهُ على وجهِ الجِدِّ لا العبَثِ. وقال للحدَثِ: نِصْفُه لي بسَهْمِ مَبَرّتي. وسهْمُكَ لي عنْ أرْشِ إبْرَتي. ولستُ عنِ الحقّ أميلُ. فقُمْ وخُذِ الميلَ. فعَرا الحدَثَ لما حدثَ اكتِئابٌ. واكفَهَرّ على سَمائِهِ سَحابٌ. وجَمَ لهُ القاضي. وهيّجَ أسَفَهُ على الدّينارِ الماضي. إلا أنّهُ جبَرَ بالَ الفتَى وبَلْبالَهُ. بدُرَيْهِماتٍ رضَخَ بها له. وقال لهُما: اجْتَنِبا المُعامَلاتِ. وادْرآ المُخاصَماتِ. ولا تحْضُراني في المُحاكَماتِ. فما عِندي كيسُ الغَراماتِ. فنَهَضا منْ عِنْدِه. فرِحَينَ برِفْدِه. مُفصِحَينِ بحَمدِه. والقاضي ما يخْبو ضجَرُهُ. مُذْ بضَّ حجَرُهُ. ولا ينْصُلُ كمدُه. مُذْ رشَحَ جَلمَدُهُ. حتى إذا أفاقَ منْ غشيَتِه. أقبلَ على غاشِيَتِه. وقال: قدْ أُشرِبَ حِسّي. ونبّزني حدْسي. أنهُما صاحِبا دَهاء. لا خَصْما ادّعاء. فكيفَ السّبيلُ إلى سبرِهِما. واستِنْباطِ سرّهِما؟ فقال له نِحْريرُ زُمرَتِه. وشِرارَةُ جَمرَتِه: إنّه لنْ يتِمّ استِخراجُ خَبْئِهِما. إلا بهِما. فقَفّاهُما عَوْناً يُرْجِعُهُما إليْهِ. فلمّا مَثَلا بينَ يدَيهِ. قالَ لهُما: اصْدُقاني سِنّ بَكْرِكُما. ولكُما الأمانُ منْ تبِعَةِ مَكْرِكُما. فأحْجَمَ الحدَثُ واسْتقالَ. وأقدَمَ الشيخُ وقال:
أنا السَّروجـيُّ وهـذا ولَـدي *** والشّبْلُ في المَخْبَرِ مثلُ الأسَدِومـا تـعــدّتْ يدُهُ ولا يَدي *** في إبرَةٍ يوْماً ولا في مِـرْوَدِوإنّما الدهرُ المُسيءُ المُعْتَـدي *** مالَ بِنا حتى غدَوْناً نجْـتَـديكلَّ نَدي الرّاحةِ عذْبِ المَـوْرِدِ *** وكلَّ جعْدِ الكفّ مغْلولَ الـيَدِبكُلّ فنٍ وبـكـلّ مـقْـصَـدِ *** بالجِدّ إنْ أجْـدَى وإلاّ بـالـدَّدِلنَجلِبَ الرّشْحَ إلى الحظّ الصّدي *** ونُنْفِدَ العُمْرَ بـعـيشٍ أنْـكَـدِوالموتُ منْ بعْدُ لَنا بالمَرصَـدِ *** إنْ لمْ يُفاجِ اليومَ فاجَى في غَدِفقال لهُ القاضي: للهِ دَرُّكَ فما أعذَبَ نفَثاتِ فيكَ. وواهاً لكَ لوْلا خِداعٌ فيكَ! وإني لكَ لمِنَ المُنْذِرِينَ. وعليْكَ منَ الحَذِرينَ. فلا تُماكِرْ بعْدَها الحاكِمينَ. واتّقِ سَطْوَةَ المُتحكّمينَ. فما كُلّ مُسيْطِرٍ يُقيلُ. ولا كُلّ أوانٍ يُسْمَعُ القِيلُ. فعاهَدَهُ الشيخُ على اتّباعِ مَشورَتِه. والارْتِداعِ عن تلْبيسِ صورتِهِ. وفصَلَ عن جِهتِهِ. والختْرُ يلمَعُ من جبهتِهِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمْ أرَ أعجَبَ منْها في تصاريفِ الأسْفارِ. ولا قرَأتُ مِثلَه في تصانيفِ الأسْفارِ