يبدو أن الأزمة المثارة حاليا بين دول حوض النيل العشر غير بعيدة عن تسارع مخططات حكومة نتنياهو المتطرفة لإعلان إسرائيل "دولة يهودية" وفشل فكرة تحويل جزء من مياه النيل إلى صحراء النقب عبر سيناء التي تقدم بها الزعيم الصهيوني تيودور هرتزل عام 1903 إلى الحكومة البريطانية.
فإسرائيل كانت الحاضر الغائب في اجتماعات وزراء مجلس المياه بدول حوض النيل العشر التي عقدت في شرم الشيخ وانتهت بالفشل في 14 إبريل / نيسان وذلك في ضوء حقيقة أن المشروع الصهيوني أخذ أبعادا وأشكالا أكثر خطورة والمقصود هنا تدويل نهر النيل وتسعير المياه بعد أن منعت مصر ظهور فكرة هرتزل للنور.
وبجانب ما سبق ، فإن فشل اجتماعات شرم الشيخ حول وضع اتفاقية جديدة حول مياه النيل تراعي مطالب دول المصب والمنبع كان أمرا متوقعا بالنظر إلى محاولة إسرائيل التغطية على مخططاتها الاستيطانية والتهويدية في القدس الشرقية والضفة الغربية وقرارها العنصري الأخير حول إبعاد سكان الضفة وذلك من خلال إثارة الخلافات بين مصر ودول حوض النيل على أمل الإسراع بإعلانها " دولة يهودية " وتصفية القضية الفلسطينية في ذروة انشغال مصر والعرب بقضية مياه النيل.
ولعل التقارير التي تحدثت عن زيارة وفد إسرائيلي لإثيوبيا سرا قبل أيام من اجتماعات شرم الشيخ تؤكد صحة ما سبق ، بالإضافة إلى أن مطالب دول المنبع السبع وهي إثيوبيا والكونغو وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وأوغندا تثير الكثير من علامات الاستفهام وتؤكد أنها تنفذ أجندة صهيونية مائة بالمائة .
فمعروف أن مصر تعتمد في احتياجاتها المائية على مياه النيل بنسبة 95% والسودان بنسبة 15% ، أما إثيوبيا التي تقود الحملة ضد مصر فتستهلك حوالي 1% وكينيا 2% وتنزانيا 3% والكونغو 1% وبوروندي 5% حيث أن كثافة هطول الأمطار على تلك البلدان تقلل من أهمية مياه النيل بالنسبة لها .
وفي ضوء ما سبق فإن دعوة دول المنبع لإعادة توزيع الحصص في مياه النيل بصورة "أكثر عدالة " تثير السخرية خاصة وأن حججها غير مقنعة لأحد بل إنها تنتهك الاتفاقيات الدولية.
وكانت الدول السبع بررت دعوتها السابقة بعدة أمور منها : أن تلك المياه ملك لها ومن ثم لها الحق ليس فقط في حجزها وراء السدود ولكن أيضاً في بيعها إلى مصر والسودان ، كما زعمت كينيا وتنزانيا أن الحصص ينبغي أن يعاد النظر فيها بما يلبي تطور احتياجاتها التنموية خصوصاً في التحول من الزراعة الموسمية إلى الزراعة الدائمة ، وأخيرا احتجت الدول السابقة بأن اتفاقية عام 1929 وقعتها مصر مع سلطة الاحتلال البريطاني، التي لم تراع احتياجات مستعمراتها السابقة وبعدما نالت تلك المستعمرات استقلالها فإن الأمر اختلف بما يبرر إعادة النظر في الاتفاقات التي عقدها البريطانيون .
ولم يقف الأمر عند ما سبق ، فقد رفضت الدول السبع مقترحات تقدمت بها دولتا المصب مصر والسودان خلال اجتماعات شرم الشيخ وقبلها في كينشاسا بالكونغو في مايو/أيار 2009 وفي الإسكندرية في يوليو/تموز 2009 حول ضرورة قيام دول منابع النيل بإخطار الدولتين مسبقاً قبل تنفيذ مشروعات على أعالي النهر قد تؤثر في حصصهما في المياه واستمرار العمل بالاتفاقيات السابقة التي توزع حصص المياه باعتبارها حقوقاً تاريخية في حال إبرام اتفاقية جديدة وأن تصدر جميع القرارت المتعلقة بتعديل أي بنود لاتفاقية تقاسم مياه النهر بالإجماع أو بالأغلبية التي يشترط فيها موافقة دولتي المصب .
شراء المياه
بل وتحدت الدول السبع مصر والسودان علانية عبر التهديد بإبرام الاتفاقية الجديدة في منتصف مايو / أيار 2010 سواء قبلت مصر والسودان أو لم تقبلا ، وسرعان ما كشفت صحيفة "جيما تايمز" الإثيوبية في 24 إبريل / نيسان أبعاد المؤامرة الإسرائيلية الأمريكية الإثيوبية الجديدة ضد مصر والسودان ، حيث أوضحت أن هناك رأيا عاما تزداد قوته فى دول منابع النيل يطالب بضرورة دفع مصر ثمن استخدام مياه النيل.
ونقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة في كينيا القول إن أغلب الكينيين يرون أن من حق بلادهم وباقى بلاد منابع النيل الحصول على مقابل لمياه النيل التى تصل إلى مصر والسودان.
وأشارت إلى اعتزام دول المنابع السبع التوقيع على معاهدة جديدة بشأن تقاسم مياه النيل رغم رفض دولتى المصب وهما مصر والسودان لهذه الاتفاقية الجديدة ، قائلة :" من المنتظر أن توقع كينيا وإثيوبيا وأوغندا ورواندا وبوروندى والكونغو الديمقراطية وتنزانيا على الاتفاقية الجديدة التي ستحل محل اتفاقيتى عام 1929 و1959 المنظمتين للعلاقة بين دول حوض النيل في 14 مايو ".
وأضافت الصحيفة أن الكينيين يطالبون بالتعامل مع مياه النيل كما تتعامل الدول العربية مع البترول الذى يتم استخراجه من أراضيها وبالتالى يجب أن تشترى مصر ما تحتاج إليه من المياه من دول المنابع على اعتبار أن كلا من البترول والمياه مصادر طبيعية للدول.
واختتمت قائلة إن إقامة منطقة للتجارة الحرة تضم مصر وباقى دول حوض النيل يمكن أن تحد كثيرا من احتمالات قيام نزاع بين مصر وتلك الدول على مياه النيل حيث يمكن لمصر التى تعانى من قلة مصادر المياه شراء احتياجاتها من الغذاء والكهرباء من كينيا وإثيوبيا وغيرهما من دول الحوض بدون أى أعباء إضافية.
ما سبق يؤكد أن هناك اتجاها من دول المنبع لعدم الالتزام بحصص المياه المنصوص عليها فى الاتفاقيات التاريخية ووقوفهم جميعا ضد مصر و السودان ما يعني أن حصة مصر التاريخية من مياه النيل المستقرة منذ عام 1929 (55 مليار متر مكعب) تتعرض الآن إلى تهديد بالغ ، فرغم حاجة مصر إلى زيادة حصتها الحالية بحوالي 11 مليار متر مكعب بسبب الزيادة الكبيرة في عدد السكان ومعدلات الاستهلاك تفاجأ بأن عليها أن تخوض معركة طويلة لكي تحافظ على حصتها الأصلية خاصة وأن 86% من موارد مصر النيلية تأتي من إثيوبيا التي تتزعم دعوات إعادة توزيع الحصص في مياه النيل بصورة "أكثر عدالة " بل ويتردد أيضا أن تل أبيب تخطط حاليا لإنشاء خط أنابيب لنقل مياه النيل من الهضبة الإثيوبية إلى إسرائيل .
ورغم أن البعض يؤكد أنه ليس بمقدور دول المنبع إيقاف قوة اندفاع المياه باتجاه مصر والسودان أو مد خط أنابيب لنقل مياه النيل من الهضبة الإثيوبية إلى إسرائيل بسبب الفيضانات وكثرة هطول الأمطار أغلب شهور السنة ووجود مرتفعات البحر الأحمر التي تشكل عائقا كبيرا أمام مخطط تل أبيب ، إلا أن الترويج لمشاريع تدويل الأنهار ومصادر المياه يحمل خطرا بالغا لأنه يشجع الدول الإفريقية علي احتجاز المزيد من مياه النيل أمام سدود تشجع إسرائيل على بنائها وتمويلها تمهيدا لبيع هذه المياه لدول أخرى مثل إسرائيل نفسها ، ولعل إلقاء نظرة على تاريخ مؤامرات إسرائيل ضد مياه النيل وما انتهت إليه يؤكد صحة ما سبق .
أبعاد المؤامرة الثلاثية
فالاستراتيجية الصهيونية التي تستهدف القفز إلي إفريقيا لمحاصرة مصر بدأت منذ الخمسينات من القرن الماضي ، ففي عام 1955 ، أعلن ديفيد بن جوريون أن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه وأنه على نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل وصولاً إلى مشروع شركة تاحال الإسرائيلية عام 1974 بشق قناة توصل مياه النيل إلى إسرائيل عن طريق سحارة أسفل قناة السويس تمد إسرائيل بحوالي 8 مليارات متر مكعب سنوياً وسرعان ما استولت إسرائيل علي روافد نهر الأردن ومياه الليطاني في لبنان واليرموك في سوريا وبعد توقيع معاهدة السلام مع مصر ، لم يتوقف تطلعها للحصول علي حصة من مياه نهر النيل وحين عجزت أن تفعل ذلك عبر الطرف المصري مدت نفوذها إلي دول المنبع الإفريقية التي كانت قد استعادت العلاقات الدبلوماسية معها في أعقاب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد. نتنياهو وليبرمان يواصلان تنفيذ المؤامرة
وكشف كتاب أصدره مركز دايان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا التابع لجامعة تل أبيب حول "إسرائيل والحركة الشعبية لتحرير السودان" وأعده ضابط الموساد السابق العميد المتقاعد موشى فرجى عما فعلته إسرائيل لكي تحقق مرادها في إضعاف مصر وتهديدها من الظهر وكيف أنها انتشرت في قلب إفريقيا في الفترة من عام 56 إلى 77 وأقامت علاقات مع 32 دولة إفريقية لكي تحيط بالسودان وتخترق جنوبه وكيف وسعت علاقاتها مع دول حوض النيل للضغط على مصر.
ووفقاً للكتاب ، فقد احتلت إثيوبيا أهمية خاصة في النشاط الاستخباري الإسرائيلي نظراً لأنها تقود التمرد على اتفاقات المياه السابقة ولأن 86% من مياه النيل تأتي من مرتفعاتها فضلا عن الوجود العسكري الإسرائيلي المتعاظم هناك والذي له صلة بأزمات القرن الإفريقي ، مشيرا إلى توافد قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عليها منذ أواخر الخمسينيات على نحو لافت للنظر.
وأضاف أن استراتيجية إسرائيل منذ أواخر الخمسينات وبداية الستينات اتجهت إلى محاولة تطويق العالم العربي والانقضاض عليه من الخلف من خلال ما أطلق عليه بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل آنذاك سياسة "شد الأطراف " التي ركزت على اختراق ثلاث من دول الجوار هي إثيوبيا وتركيا وإيران وكان الدخول إلى القارة الإفريقية والتركيز على دول حوض نهر النيل وعلى رأسها إثيوبيا للضغط على مصر جزءاً من تلك الاستراتيجية .
وتحدث فرجي في هذا الصدد عن انتشار خمسة آلاف خبير إسرائيلي في دول القارة في ذلك الوقت المبكر وقد نشطوا في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية من تدريب للجيوش والشرطة إلى إقامة المزارع وتصدير الزهور .
وتابع أنه سرعان ما أغرقت إسرائيل دول المنبع بالمشاريع التنموية التي ساهمت بالخبرة والمال في تنفيذها كان من بينها المقايضة الشهيرة مع إثيوبيا التي انتهت بمشاركة إسرائيل في بناء عدد من السدود في أعالي النيل في مقابل قيام إثيوبيا بترحيل يهود الفلاشا إليها عام 1989 .
واستطرد " إثيوبيا تعتبر من وجهة نظر علماء الجغرافيا نافورة مياه إفريقيا وعلى الرغم من أن معظم زراعتها تقوم على المطر أي أنها لا تحتاج بدرجة كبيرة إلى مياه النيل، إلا أن علاقتها الوطيدة بإسرائيل هي التي تدفعها دائماً للتذمر حول قيمة حصتها وحصة مصر من مياه النيل ، وقد أعلنت شركة تاحال المسئولة عن تطوير وتخطيط المصادر المائية في إسرائيل أنها تقوم بمشاريع مائية في إثيوبيا لحساب البنك الدولي وأنها تقوم بأعمال إنشائية في أوجادين في الطرف الآخـر من إثيوبيا على حدود الصومال ويهدف التعاون الإسرائيلي الإثيوبي إلى تنفيذ 40 مشروعاً مائياً على النيل الأزرق لتنمية الأراضي الواقعة على الحدود السودانية الإثيوبية وتشمل هذه المشاريع إنشاء 26 سداً لري 400 ألف هكتار وإنتاج 38 مليار ك. وات من الكهرباء وتستلزم هذه المشروعات 80 مليار متر مكعب من المياه تأتى على حساب حصة مصر والسودان ".
وأضاف فرجي في كتابه " ويأتي هذا التعاون بين إسرائيل وإثيوبيا تتويجاً لتعاون سري بينهما قدمت فيه إسرائيل القنابل العنقودية وطائرات الكفير للجيش الإثيوبي والهدف الأساسي لإسرائيل من هذه العلاقة هو تعزيز نشاطها في منطقة القرن الإفريقي وتوطيد أقدامها في المنطقة لتعزيز دورها في أحداث جنوب السودان ومنذ إقامة مصر للسد العالي عام 1957 لم تكف إثيوبيا عن المطالبة بالمساواة في توزيع حصة مياه النيل تدعمها في ذلك بل تدفعها إلى ذلك إسرائيل ، ففي عام 1977 أعلنت إثيوبيا أنها تريد تحويل 92 ألف هكتار في حوض النيل الأزرق و28400 هكتار في حوض نهر البارو إلى أراض مروية ، وفى عام 1981 قدمت إثيوبيا قائمة بأربعين مشروعاً على النيل الأزرق ونهر السوباط أمام مؤتمر الأمم المتحدة للدول الأقل نمواً وأكدت أنها تحتفظ بحقها في تنفيذ هذه المشاريع إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مع الأطراف الأخرى ، وأخيراً فإن إثيوبيا تصر منذ بداية التسعينيات - لأسباب داخلية وخارجية - على أن الأوضاع القديمة في حوض النيل لابد من إعادة ترتيبها من جديد ومن ثم لابد من إعادة تقسيم المياه بين دول حوض النيل طبقاً لاحتياجات كل دولة وتؤكد أنها لا تعترف بالاتفاقيات القديمة باعتبار أنها تمت في عهود استعمارية ".
بتر الأطراف
وبالنسبة للسودان ، كشف فرجي أن التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي في التعامل مع العالم العربي ودول الجوار التي تحيط به تتبنى موقف "شد الأطراف ثم بترها " بمعني مد الجسور مع الأقليات وجذبها خارج النطاق الوطني ثم تشجيعها علي الانفصال (وهذا هو المقصود بالبتر) لإضعاف العالم العربي وتفتيته ، وأوضح أن المخابرات الإسرائيلية قامت بفتح خطوط اتصال مع تلك الأقليات ومنها الأكراد في العراق والجنوبيين في السودان ، مشيرا إلى أن الحركة الانفصالية في جنوب السودان كانت من البداية أداة استخدمتها إسرائيل لتحقيق هدف استراتيجي بعيد المدى هو إضعاف مصر وتهديدها من الخلف. سيلفا كير رئيس الحركة الشعبية
وتابع " بدأت الاتصالات مع الجنوبيين من القنصلية الإسرائيلية في أديس أبابا ، فى البداية ركزت إسرائيل على تقديم المساعدات الإنسانية للجنوبيين (الأدوية والمواد الغذائية والأطباء) واستثمار التباين القبلي بين الجنوبيين أنفسهم وتعميق هوة الصراع بين الجنوبيين والشماليين ثم بدأت صفقات الأسلحة الإسرائيلية تتدفق علي جنوب السودان عبر أوغندا وإثيوبيا وكينيا وقام بعض ضباط القوات الإسرائيلية الخاصة بتدريب الإنفصاليين في مناطق جنوب السودان ، كما قامت إسرائيل بانشاء مدرسة لضباط المشاة لتخريج الكوادر العسكرية لقيادة فصائل التمرد في جنوب السودان وأوفدت بعض خبرائها لوضع الخطط والقتال إلي جانب الانفصاليين تماما مثل مافعلته إسرائيل فى نيكارجوا وأمريكا الجنوبية فى ثمانينات القرن الماضى".
واستطرد " استخدمت إسرائيل نفوذها لاستمرار التمرد وإثارة الجنوبيين عبر تصوير صراعهم بأنه مصيري بين شمال عربي مسلم وجنوب زنجي إفريقي مسيحي وتولت إسرائيل دفع مرتبات قادة وضباط الحركة الشعبية لتحرير السودان وتقدر بعض المصادر الإسرائيلية ما قدمته إسرائيل للحركة الشعبية بحوالى 500 مليون دولار حصلت إسرائيل على القدر الأكبر منها من الولايات المتحدة وأغدقت إسرائيل على الانفصاليين المال والسلاح لتعزيز موقف الحركة التفاوضي مع حكومة الشمال حتي أصبح ندا عنيدا لها بل وأقوي منها عسكريا وفي غياب أي دعم عربى تم استنزاف الحكومة السودانية فاضطرت إلى توقيع اتفاق سلام مع الحركة في عام 2005 ينص على مرحلة انتقالية مدتها 6 سنوات يتم بعدها تحديد مصير الجنوب بالوحدة أو الانفصال عن الشمال ".
وشدد فرجي على أن إسرائيل هي التي أقنعت الجنوبيين في السودان بتعطيل تنفيذ مشروع قناة "جونجلي" الذي تضمن حفر قناة في منطقة أعالي النيل لنقل المياه إلي مجري جديد بين جونجلي وملكال لتخزين 5 ملايين متر مكعب من المياه سنويا لإنعاش اقتصاد شمال السودان والاقتصاد المصري ، وأقنعت إسرائيل حينها الجنوبيين بأنهم أولى بتلك المياه التي سينتفع بها غيرهم .
وتابع : إسرائيل ليست بعيدة أيضاً عما يجرى فى إقليم دارفور ، ارييل شارون رئيس وزراء إسرائيل السابق قال في كلمة له ألقاها خلال اجتماع للحكومة الإسرائيلية في العام 2003 : حان الوقت للتدخل في غرب السودان وبالآلية والوسائل نفسها التي نتدخل بها في جنوب السودان ، وبالفعل نجحت إسرائيل من خلال وجودها فى جنوب السودان وفى أوغندا وكينيا فى أن تجند عناصر مهمة من سكان دارفور ذوى الأصل الإفريقى لاسيما ممن ينتمون إلى حركة العدل والمساواة ، بعض قادة التمرد فى دارفور كانوا زاروا إسرائيل عدة مرات وتلقوا تدريبات على أيدى قادة الجيش الإسرائيلى ، كما أن إسرائيل أرسلت عشرات الخبراء لمساعدة هذه الميليشيات فى اكتساب مهارات القتال والتعامل مع الأسلحة الإسرائيلية، كما قامت إسرائيل بتدريب عناصر من هذه الميليشيات فى معسكرات الحركة الشعبية لتحرير السودان وفي قواعدها العسكرية فى إريتريا بهدف مساعدة هذه الميليشيات على غرار ما حدث فى جنوب السودان سعياً من إسرائيل إلى تكرار سيناريو جنوب السودان فى إقليم دارفور بهدف تمزيق وحدة الدولة السودانية وتفتيتها إلى مجموعة من الدويلات الهشة الضعيفة المتصارعة ".
وكشف أن السودان سيتم تقسيمه إلى خمسة دويلات هي : دارفور ، جبال النوبة ، الشرق ، السودان الجديد ، السودان الشمالي ، موضحا أن المقصود بالسودان الجديد جنوب السودان ويهدف هذا المخطط لخدمة إسرائيل أولاً وأخيراً وحرمان العرب من أن يكون السودان الغني بأراضيه الخصبة وموارد المياه "سلة الغذاء العربية" ومحاصرة واستهداف مصر بالتحكم في مصدر حياتها أي مياه النيل ودفعها لأن تضطر إلى شراء مياه النيل بعد اقرار اتفاقيات جديدة بتقنين حصص الدول المتشاطئة القديمة والدويلات الجديدة.
واختتم فرجي قائلا إن دور إسرائيل بعد "انفصال الجنوب" وتحويل جيشه إلى جيش نظامي سيكون رئيسيا وكبيرا ويكاد يكون تكوينه وتدريبه صناعة كاملة من قبل الإسرائيليين وسيكون التأثير الإسرائيلي عليه ممتدا حتى الخرطوم ولن يكون قاصراً على مناطق الجنوب بل سيمتد إلى شمال السودان ليتحقق الحلم الاستراتيجي الإسرائيلي في تطويق مصر.
وبجانب ما سبق وفي كتاب له بعنوان " الصراع علي المياه في الشرق الأوسط" ، أوضح المحاضر في جامعة حيفا ارنون سوفر أن لإسرائيل مصالح استراتيجية في حوض النيل وأن توزيع المياه بين دول الحوض يؤثر مباشرة علي إسرائيل ولذلك فهي تنسق في هذا السياق مع إثيوبيا وهو المعني الذي أكده شيمون بيريز في كتابه الشرق الأوسط الجديد الذي صدر قبل أكثر من عقدين بقوله إن إسرائيل احتاجت في الحرب إلي السلاح وهي تحتاج في السلم إلى المياه .
وهناك أيضا محاضرة رسمية لوزير الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق وعضو الكنيست آفي ديختر في 30 أكتوبر 2008 حول أسباب اهتمام إسرائيل بالوضع في السودان وسعيها لتنفيذ خطة للتدخل في دارفور علي غرار ما فعلته في جنوب السودان جاء فيها أن استهداف السودان ليس لذاته فقط ولكن لـ" كون السودان " يشكل عمقا استراتيجيا لمصر وهو ما تجسد بعد حرب يونيو 1967 عندما تحول السودان إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية هو وليبيا كما أرسل السودان قوات إلى منطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف التي شنتها مصر منذ عام 1968 - 1970 .
وتابع ديختر قائلا :" كان لابد أن نعمل على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة رغم أنها تعج بالتعددية الإثينية والطائفية لأن هذا المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي ضرورة من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي".
وهناك دراسات إسرائيلية أخرى أشارت إلى أن السياسة الإسرائيلية تستهدف تهديد الأمن العربي والمصري بمحاولة زيادة نفوذ إسرائيل في الدول المتحكمة في مياه النيل من منابعه مع التركيز على إقامة مشروعات زراعية تعتمد على سحب المياه من بحيرة فيكتوريا وهي تعتمد في تحقيق ذلك على خلق المشاكل والتوترات بين الأقطار العربية والأفريقية بما يشغل مصر عن القضية الفلسطينية ، كما تستهدف السياسة الإسرائيلية الحصول على تسهيلات عسكرية في دول منابع النيل واستخدام القواعد الجوية والبحرية مثل ما حدث من مساعدات لإسرائيل من قواعد إثيوبيا في عدوان 1967 واستخدام الدول الإفريقية كقاعدة للتجسس على الأقطار العربية إضافة إلى تصريف منتجات الصناعة العسكرية الإسرائيلية وخلق كوادر عسكرية إفريقية تدين لها بالولاء.
وبجانب الدعم العسكري الإسرائيلي القائم والموجه لعدد من دول حوض النيل وخاصة إثيوبيا وأوغندا وكينيا والكونغو الديمقراطية ، فإن إسرائيل تسعى إلى ما هو أخطر من ذلك الدعم من خلال مشاريعها المائية المشتركة مع دول حوض النيل ، ففي عام 2009، قدمت إسرائيل إلى كل من الكونغو الديمقراطية ورواندا (من دول المنبع) دراسات تفصيلية لبناء ثلاثة سدود كجزء من برنامج متكامل تهدف إسرائيل من خلاله إلى التمهيد لمجموعة كبيرة من المشروعات المائية في هذه الدول ، أما في أوغندا ، فتقوم إسرائيل بتنفيذ مشاريع ري في عشر مقاطعات يقع معظمها في شمال أوغندا بالقرب من الحدود الأوغندية المشتركة مع السودان وكينيا ويجري استخدام المياه المتدفقة من بحيرة فيكتوريا لإقامة هذه المشاريع وهو ما يؤدي إلى نقص المياه الواردة إلى النيل الأبيض أحد أهم الروافد المغذية لنهر النيل في مصر .
وفي إثيوبيا ، تقوم إسرائيل حاليا بإقامة أربعة سدود على النيل لتوليد الكهرباء وضبط حركة المياه في اتجاه السودان ومصر وتقدم شركات استثمارية إسرائيلية يملكها جنرالات متقاعدون في الموساد عروضا للمساهمة سواء في مشاريع بناء السدود على منابع نهر النيل في الأراضي الإثيوبية أو في مشاريع أخرى زراعية .
وسائل التغلغل
وبصفة عامة ، نجحت إسرائيل في التغلغل في دول منابع النيل من خلال عدة أمور منها : توظيف التناقضات العربية الإفريقية ، حيث كشفت دراسات وتقارير صحفية كثيرة أن إسرائيل استغلت الصراع الصومالي الإثيوبي والسوداني الإثيوبي والسوداني الإريتري والمصري الإثيوبي من أجل تحقيق أهدافها وهي تقوم بالتحريض الدائم والمستمر ضد العرب لإشعار دول حوض النيل بأنها تتعرض لظلم ناتج عن الإسراف العربي في موارد المياه ثم تقوم بتقديم الدعم الاقتصادي والدبلوماسي لتلك الدول وما يؤكد ما سبق أنه في عام 1996 ، انتقدت أوغندا ما أسمته استهلاك مصر والسودان لأكثر من حاجتهما للمياه ، مؤكدة حقها في استعمال موارد المياه وقامت بإنشاء سدود في حوض بحيرة فكتوريا لتوليد الطاقة الكهربائية. إسرائيل تستغل الأزمة الإنسانية بالصومال
وهناك أيضا توظيف الصراعات العرقية وذلك من خلال صنع شبكة علاقات وتحالفات وثيقة مع بعض الأطراف على حساب الأخرى ومن أهم القوى التي تدعمها إسرائيل قبائل التوتسي الحاكمة في رواندا والنظام الأوغندي وتقوم المخابرات الإسرائيلية بتغذية الصراعات بين التوتسي والهوتو بل وتقوم بتصدير السلاح إلى طرفي الصراع معا وثمة مخاوف في منطقة وسط إفريقيا من النزعة القومية لدى قبائل التوتسي التي تتوزع في بوروندي وجنوب أوغندا (الرئيس الأوغندي ينتمي إلى التوتسي) وشرق الكونغو ورواندا والتي تسعى للسيطرة الكاملة على المنطقة عبر الدعم الأمريكي - الإسرائيلي بما يعنى إقامة دولة التوتسي الكبرى وإعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية والدولية في وسط إفريقيا.
هذا بجانب أن إسرائيل دعمت الحركة الانفصالية في جنوب السودان منذ انطلاقها ثم دربت كوادر الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا عندما لاحت بوادر انتصارها وقامت بتدعيم أنظمة حاكمة مثل الباجندا في أوغندا ونظام الأمهرا في إثيوبيا وهو ما يؤكد أيضا سر انصياع اثيوبيا للمخططات الصهيونية فالأمهرا رغم أنها أقلية في إثيوبيا إلا أنها تحكم البلاد ولذا يحرص النظام الحاكم هناك على كسب ود أمريكا وإسرائيل لضمان الاستمرار في الحكم .
وبجانب ما سبق ، فإن إسرائيل تتغلغل في دول منابع النيل ومنطقة القرن الإفريقي الاستراتيجية عبر المساعدات الإنسانية ، حيث استغلت ظروف عدم الاستقرار في الصومال وتحركت تحت غطاء إنساني فأقامت عدة مراكز في مقديشيو وفي بعض الأقاليم الأخرى لتقديم المساعدات إلى الصوماليين والتي يتولاها صندوق إغاثة الصومال وهو صندوق تدعمه وزارة الخارجية الأمريكية والمنظمة الصهيونية العالمية والمؤتمر اليهودي وعدة منظمات وجمعيات صهيونية أخرى في الولايات المتحدة وقد تم تأهيل هذه المراكز بخبراء إسرائيليين وصلوا إلى الصومال في أواخر عام 1992 وبلغ عددهم 250 شخصا .
هذا بالإضافة للنشاط العسكري في دول منابع النيل في ظل حاجة الدول الإفريقية لمصادر السلاح لمواجهة الانقلابات العسكرية التي يدبرها أعداء الداخل والخارج كما تقوم أجهزة المخابرات الإسرائيلية بتزويد الدول الإفريقية بالخدمات الاستخباراتية من مصادرها الخاصة أو بالاعتماد على مصادر الموساد في المخابرات الأمريكية.
ويؤكد شلومو جازيت رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق في هذا الصدد أن إسرائيل تعاونت في مجال التسلح مع عدد كبير من الدول الإفريقية منها إثيوبيا وزائير وكينيا وليبيريا وجنوب إفريقيا والكاميرون ، قائلا :" النشاط العسكري الإسرائيلي في إفريقيا يتراوح بين تصدير الأسلحة وإقامة قواعد عسكرية وقد حصلت إثيوبيا على أسلحة إسرائيلية مقابل تهجير يهود الفلاشا ، كما تحصل الدول والقبائل في منطقة البحيرات العظمى على أسلحة إسرائيلية متنوعة ، كما قامت إسرائيل بتسليح جيشي رواندا وبوروندي بالأسلحة القديمة بدون مقابل لكسب ود السلطات الحاكمة والتغلغل في منطقة البحيرات العظمى حيث توجد منابع النيل ".
وهناك أيضا العلاقات التجارية حيث هناك مجموعة أساسية من الدول الإفريقية تمثل أبرز شركاء إسرائيل وهي جنوب أفريقيا وإثيوبيا وكينيا ونيجيريا كما تزايدت أهمية عدد من دول حوض النيل في التجارة الخارجية الإسرائيلية حيث تضاعفت الواردات الإسرائيلية من إثيوبيا أكثر من ثلاثين مرة خلال عقد التسعينيات ، كما تضاعفت الصادرات الإسرائيلية لها حوالي ثلاث مرات والوضع هو ذاته بالنسبة لكينيا ، ويعتبر مركز التعاون الدولي في وزارة الخارجية الاسرائيلية الذي يرأسه نائب وزير الخارجية هو الجهاز المسئول عن تصميم وتنفيذ سياسات التعاون التجاري والاقتصادي مع الدول الإفريقية وخاصة دول حوض النيل ، حيث يقدم الدعم لها في مجالات الزراعة والصحة والتعليم والتنمية الاقتصادية.
ويبقى الأمر الأخطر وهو التعاون المائي والزراعي ، حيث نجحت إسرائيل بمساعدة واشنطن في تأمين سيطرتها على بعض مشاريع الري في منطقة البحيرات العظمى عبر تقديم الدعم الفني والتكنولوجي من خلال الأنشطة الهندسية للشركات الإسرائيلية في مجال بناء السدود المائية.
وقدمت إسرائيل دراسات تفصيلية إلى الكونغو ورواندا لبناء ثلاثة سدود كجزء من برنامج شامل لإحكام السيطرة على مياه البحيرات العظمى ، كما وقعت أوغندا وإسرائيل اتفاقا في مارس 2000 ينص على تنفيذ مشاريع ري في عشر مقاطعات متضررة من الجفاف وإيفاد بعثة أوغندية إلى إسرائيل لاستكمال دراسة المشاريع التي يقع معظمها في مقاطعات شمال أوغندا بالقرب من الحدود الأوغندية المشتركة مع السودان وكينيا وسيجري استخدام المياه المتدفقة من بحيرة فيكتوريا لإقامة هذه المشاريع وهو ما يؤدي إلى نقص المياه الواردة إلى النيل الأبيض أحد الروافد الأساسية لمياه النيل ، ولا تقتصر خطورة التواجد الإسرائيلي في دول أعالي النيل على الاستعانة بالخبراء والتعاون الفني في المشروعات ولكنها تمتد أيضا إلى التعاون الاقتصادي الزراعي برأسمال يهودي يهدف إلى تملك أراض في المنطقة بدعوى إقامة مشاريع عليها أو تحسين أراضيها أو إقامة سدود بها ، بل وكشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن تل أبيب مهتمة بإقامة مشاريع للري في مقاطعة كاراموجا الأوغندية قرب السودان .
تدويل الأنهار
ويجب الإشارة هنا إلى أن السياسة الإسرائيلية السابقة التي تتبع استراتيجية الالتفاف حول دول حوض النيل بأنشطة عسكرية وأمنية وزراعية ومائية مكثفة لمحاصرة مصر تلقى دعما واسعا من واشنطن وهذا ما تأكد في المؤامرة الأخيرة المتعلقة بتدويل مياه الأنهار وتسعيرها بعد فشل فكرة تحويل جزء من مياه النيل إلى صحراء النقب عبر سيناء ، حيث صرح الدكتور محمد أبوزيد وزير الري والموارد المائية السابق، حين صرح في شهر فبراير/شباط 2009 بأن ثمة مخططاً إسرائيلياً أمريكياً للضغط على مصر لإمداد تل أبيب بالمياه من خلال إثارة موضوع "تدويل الأنهار" بعد فشل . خريطة دول حوض النيل
وكان الخبير الأمريكي "فرانكلين فيشر" طرح مؤخرا فكرة تروج لها إسرائيل وأمريكا في المنطقة وهي فكرة تسعير المياه الدولية وبيعها وتقضي الفكرة بإنشاء صندوق مشترك يضم حساباً لكل عدد من الدول يشتركون في مجرى مائي دولي واحد يقدر من خلاله ثمن الماء دولياً على أساس معادلة قيمة المتر المكعب لأرخص قيمة مياه بديلة مثل قيمة المتر المكعب من الماء المحلى من البحر وتدفع الدولة قيمة كل الماء الذى تستهلكه أو الذى تطالب بالحصول عليه أولاً ثم تحتسب هذه القيمة من حصة الدولة في الصندوق المشترك، فإما أن يكون الحساب مديناً فتدفع الدولة الفرق ، أو دائناً فتحصل على الفرق بعد احتساب الحصص بالتساوي ، بغض النظر عن الحقوق التاريخية والاتفاقيات الموقعة ، وإذا تحقق لهذه الفكرة النجاح فإن مصر مطالبة بأن تدفع سنويا 27.5 مليار دولار أمريكي ثمن ما تستعمله من مياه النيل.
بل وكشفت وسائل إعلام أمريكية أن الولايات المتحدة تحاول حاليا طرح فكرة نقل تخرين المياه من بحيرة ناصر إلى إثيوبيا مع تشجيع مخطط قديم يقضي بمحاولة تحويل مجرى نهر النيل في إثيوبيا وأن المكتب الأمريكي لاستصلاح الأراضي يقوم بعمل الدراسات الخاصة بهذا المخطط ، كما أن الولايات المتحدة تطرح أيضاً خطة في الجنوب من حوض نهر النيل تقضي بتحويل كل مصادر المياه في تلك المناطق لتصب في منطقة البحيرات العظمى وسط القارة كخزان عملاق للمياه على أن يتم بيعها لمن يريد كالبترول تماماً كما يمكن أيضاً تعبئتها في براميل تحملها السفن أو عن طريق أنابيب.
ما سبق يؤكد أن هناك تغييرا للقواعد القانونية الدولية المعمول بها في إطار توزيع مياه الأنهار، حيث دخلت مفاهيم جديدة كلية مثل تسعير المياه وإنشاء بنك وبورصة للمياه وتستخدم تل أبيب وواشنطن في ذلك ذريعة أن حصص المياه التي تقررت لبلدان حوض النيل ليست عادلة وأنها تقررت في وقـت سابـق على استقلالهم وأنهما مستعدتان لتقديم التقنية التي تمكن تلك الدول من ترويض مجرى النيل وتوجيهه وفقاً لمصالحها.
ويذكر المحلل السياسي الأمريكي مايكل كيلو مؤلف كتاب "حروب مصادر الثروة" في هذا الصدد أن إسرائيل لعبت دورا كبيرا مع دول حوض النيل لنقض المعاهدة الدولية التي تنظم توزيع مياه النيل واعتبر أن هذا الأمر يأتي في إطار الإستراتيجية الصهيونية إذ أن إسرائيل تلعب دورًا في حوض النيل ضمن مخطط أمريكي يسعى لانتزاع النفوذ هناك ولذلك فإن الإدارة الأمريكية توفر لإسرائيل كل سبل التأثير على دول مثل إثيوبيا وكينيا ورواندا وأوغندا والكونغو بهدف إبقاء مصر في حالة توتر دائم وانشغال مستمر.
وأضاف أنه يوجد عدم إدراك كاف لحجم التغيرات الدولية التي جعلت من دول حوض النيل موطنا لصراع دولي ، فالولايات المتحدة أصبحت بعد سقوط المعسكر الاشتراكي هي القوة النافذة هناك ، حيث شكلت قبل أكثر من عامين القيادة العسكرية الامريكية في إفريقيا المعروفة باسم "أفريكوم " والتي حددت واشنطن مهامها بالمسئولية عن كل الدول الإفريقية فيما عدا مصر بزعم مكافحة الإرهاب الدولي في الصحراء الإفريقية ومنح الولايات المتحدة القدرة علي التعامل مع كافة الأزمات المختلفة في القارة الإفريقية ، قائلا :" ليس سرا أن تلك القوة تمركزت عند منابع النيل?".
بل وهناك من أشار إلى أن زيارة وزير خارجية إسرائيل افيجدور ليبرمان لعدد من دول حوض النيل في أغسطس الماضي كان الهدف منه الترويج لفكرة مشروع إسرائيلي أمريكي يجري بحث عرضه علي الأمم المتحدة لـ "تدويل" الأنهار المشتركة أو مشروع "خصخصة" المياه الذي يدرسه البنك الدولي بدعوي منع قيام حروب مياه وهو هدف خبيث يهدف لتدويل نهر النيل والضغط علي مصر .
ويبقى السؤال الجوهري " ماذا تفعل مصر لمواجهة تلك المؤامرة ؟".
فمعروف أن موضوع مياه النيل التي تعتمد عليها مصر بنسبة 95% لا مساومة عليه بل وهناك من يشير إلى أن مصر دخلت مرحلة المجاعة المائية منذ بداية التسعينيات ووصل نصيب الفرد فيها إلى أقل من 1000متر مكعب وهو الحد العالمي للمجاعة ، وإذا استمرت الأحوال على ما هي عليه ستعجز مصر عن زراعة 60% من الأراضي الزراعية الحالية . اجتماع سابق لدول حوض النيل
ورغم أن البعض يحمل تراجع الدور المصري في إفريقيا مسئولية ما يحدث حاليا وتشجيع إسرائيل على التواجد وسد الفراغ ، إلا أن الأمر لا يحتمل التركيز على تحديد المسئول بقدر ما يتطلب التحرك السريع عبر عدة خيارات من أبرزها عدم الاكتفاء بالتمسك بالحقوق التاريخية المكتسبة وتجنب لغة التهديد والوعيد ومحاولة إقناع دول الحوض بأنه لا تعارض بين مصالحها وبين المصلحة المصرية وتقديم اقتراحات بمشاريع مشتركة لتنمية الموارد المائية عن طريق غير تقليدي مثل إعادة معالجة مياه الصرف الصحي والصناعي وتجميع المياه الفاقدة ومياه الأمطار وتحلية مياه البحر كي لا تنفرد إسرائيل بأن تكون العنصر المؤثر في قرار تلك الدول .
وفي حال واصلت دول المنبع تعنتها وتوصلت لاتفاقية جديدة دون موافقة مصر والسودان فهناك عدة خيارات منها اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية في ضوء حقيقة أن الاتفاقيات المائية كاتفاقيات الحدود لا يجوز تعديلها أو المساس بها ، كما أن اتفاقات المرحلة الاستعمارية التي يراد إعادة النظر فيها بما فيها اتفاق توزيع حصص المياه هي ذاتها التي أنشأت تلك الدول وإعادة النظر فيها من شأنها أن تطلق عنان الفوضى ليس في دول حوض النيل فحسب وإنما في إفريقيا كلها ، بالإضافة إلى أن هناك قواعد عامة لإدارة مياه الأنهار العابرة للدول تنص على إقرار مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة في الموارد المائية وتعتبر أن مياه الأنهار مورد طبيعي مشترك لا يخضع لسيادة دولة بذاتها وهذه القواعد أقرها معهد القانون الدولي في عام 1961 .
ما سبق يؤكد أنه لا يجاوز المساس باتفاقية عام 1929 التي تقضي بحصول مصر على 5و55 مليار متر مكعب والسودان على 5و18 مليار متر مكعب كما تقضي بحظر إقامة مشروعات سدود أو خزانات على منابع النهر دون موافقة دولتي المصب واتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان التي أكدت حقوق الدولتين التاريخية في مياه النيل.
ولعل إلقاء نظرة على جغرافية دول الحوض العشر يدعم ما سبق ، فمعروف أن دول حوض النيل هي التي يخترقها النهر وتقع في حوضه ولها مصلحة في مياهه وتستفيد منها بأي صورة من الصور وتضم مصر والسودان وأوغندا وإثيوبيا والكونغو الديمقراطية وبوروندي وتنزانيا ورواندا وكينيا واريتريا ، ومساحة حوض النيل 2.9 مليون كم2 أي 10% من مساحة إفريقيا ويعتبر نهر النيل من أطول أنهار العالم ويتجه دائما نحو الشمال حيث يصب في البحر المتوسط .
وهناك تجمع إقليمي للدول المطلة على نهر النيل يطلق عليه "الاندوجو" أو الإخاء باللغة السواحلية وهو يهتم أساسا بتنظيم الاستفادة من مياه النيل وتحقيق المصالح المشتركة بين دول الحوض في مياهه ، والدول العشر المشتركة في حوض النيل لها أهميتها بالنسبة لمياه النهر كالآتي : أثيوبيا وإريتريا تمد النيل بنحو 84% من مياهه التي تصل مصر ، وأوغندا يقع بها منبع النيل من بحيرة فيكتوريا ولها نصف بحيرتي ألبرت وإدوارد ، وكينيا وتنزانيا تشتركان مع أوغندا في بحيرة فيكتوريا ، والكونغو تشترك مع أوغندا في بحيرة ألبرت ، ورواندي وبورندي حيث نهر كاجيرا أهم روافد بحيرة فيكتوريا ، والسودان يجري في أراضيه جزء كبير من مياه النيل ، بالإضافة إلى روافده ، أما مصر فهي دولة المصب ، ومن أكثر الدول السابقة اعتمادا على مياه النيل مصر ثم السودان ثم أوغندا على الترتيب ، أما بقية الدول فاعتمادها على المياه محدود بسبب كثرة هطول الأمطار وتوجه بعضها نحو المحيط ، حيث تتجه كينيا وتنزانيا نحو المحيط الهندي والكونغو نحو المحيط الأطلنطي .
وتشير التقديرات إلى أن الحجم المتوسط السنوي للأمطار على دول منابع النيل تقدر بحوالي 900 مليار م3 سنوياً ، بينما إيراد نهر النيل لا يتجاوز 84 مليار م3 يأتي 72 مليار م3 منها أي 87% من مياه النيل من النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا ، بينما يأتي 13% من منطقة البحيرات العظمى أي حوالي 12 مليار م3.
وتعتبر مصر هي الدولة الأكبر والأكثر اعتماداً على مياه النيل حيث الأمطار بها شبه معدومة والمياه الجوفية غير متجددة ومن هنا فإن مياه النيل تمثل حوالي 97% من موارد مصر المائية ولكي تحافظ مصر على نصيب الفرد من المياه فإنها ستكون في حاجة مستقبلا إلى نحو 77 مليار م3 بعجز 22 مليار م3 ، أما السودان فإنه يستغل حاليا 5 و13 مليار م3 من حصته في مياه النيل البالغة 5 و 18 مليار م3 ، ورغم أن الجنوبيين يرغبون في السيطرة علي قسم هام من مياه النيل لمصالح خاصة إلا أن جنوب السودان لا يحتاج لمياه بل يعاني من وفرتها بسبب انهمار الأمطار طوال شهور الصيف .
وبالنسبة لإثيوبيا التي توصف بأنها نافورة إفريقيا حيث ينبع من مرتفعاتها أحد عشر نهراً تتدفق عبر حدودها إلى الصومال والسودان من أشهرها النيل الأرزق ، فإن هناك حقيقة تضعف موقفها في حال تحركت مصر بقوة لإحباط المؤامرة الثلاثية الصهيونية الأمريكية الإثيوبية وهي أن أنهار إثيوبيا التي تجري صوب الغرب باتجاه الصومال والسودان تتميز بانحدارها الشاهق ، فالنيل الأزرق ينحدر 1786 متراً عن مجراه الذي يبلغ 900 كم ، وهذا الانحدار الشاهق لتلك الأنهار يجعل من إثيوبيا بلداً ضعيفاً جغرافياً في التحكم في جريان النهر .
وفي ضوء ما سبق ، يتأكد أنه لا بديل أمام دول حوض النيل سوى التعاون لحل الخلافات وتحقيق مصالحهم المشتركة بعيدا عن الأجندات الصهيونية والأمريكية التي لا تخدم سوى أصحابها .